Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 18-18)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب ، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه ، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده ، فلا تعلّمونا دينكم ، وضمائر صدوركم ، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السماوات والأرض . تنبيهات الأول : روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال : " جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، أسلمنا وقاتلتك العرب ، ولم نقاتلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فقههم قليل ، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم " " - ونزلت هذه الآية . وقال ابن زيد : هذه الآيات نزلت في الأعراب . ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب ، غير المعنيّين أولَها ، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته ، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة - والله أعلم . الثاني : في قوله تعالى : { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ … } الآية ، ملاحظة المنة لله ، والفضل في الهداية ، والقيام بواجب شكرها ، والاعتراف بها ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين : " يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي ، وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟ " - كلما قال شيئاً ، قالوا : الله ورسوله أمَنّ . وما ألطف قول أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له ، بعد الثناء على الله تعالى : وبعث إليهم رسلاً منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم ، والفوز العظيم ، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم ، والمورد الوخيم ، فكان آخرهم في الدنيا عصراً ، أولهم يوم الدين ذكراً ، وأرجحهم عند الله ميزاناً ، وأوضحهم حجة وبرهاناً ، وأبعدهم في الفضل غاية ، وأبهرهم معجزة وآية ، محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً ، الذي اتخذه صفيّاً وحبيباً ، وأرسله إلى عباده بشيراً ونذيراً ، على حين ذهاب منهم مع الشيطان ، وصدوف عن الرحمن ، وتقطيع للأرحام ، وسفك للدماء الحرام ، واقتراف للجرائم ، واستحلال للمآثم . أنوفهم في المعاصي حمية ، ونفوسهم في غير ذلك ذات الله أبية ، يدعون معه الشركاء ، ويضيفون إليه الأكفاء ، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً . فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان ، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن ، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيداً ، وبالعنف لّما وجد أنصاراً وجنوداً . لا يرى للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه ، ولا رسماً إلا أزاله وعفّاه ، ولا حجة مموّهة إلا كشفها ودحضها ، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها ، حتى ضرب الحق بجرانه ، وصدع ببنيانه ، وسطع بمصباحه ، ونصع بأوضاحه ، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار ، وعلاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار ، واتصل حبلها بعد البتات ، والتأم شملها بعد الشتات ، واجتمعت بعد الفرقة ، وتواعدت بعد الفتنة ، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية ، رائحة غادية ، منجزة عدته ، رافعة درجته . الثالث : قال الرازيّ : هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق . وهي إما مع الله تعالى ، أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو مع غيرهما من أبناء الجنس . وهم على صنفين : لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين ، وداخلين في رتبة الطاعة ، أو خارجاً عنها ، وهو الفاسق . والداخل في طائفتهم ، السالك لطريقتهم ، إما أن يكون حاضراً عندهم ، أو غائباً عنهم ، فهذه خمسة أقسام : أحدها : يتعلق بجانب الله . وثانيها : بجانب الرسول . وثالثها : بجانب الفسّاق . ورابعها : بالمؤمن الحاضر . وخامسها : بالمؤمن الغائب . فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة . فقال أولاً : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله ، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله . وقال ثانياً : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } لبيان وجوب احترام النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال ثالثاً : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم ، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم ، وبيّن ذلك عند تفسير قوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } . وقال رابعاً : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } وقال : { وَلاَ تَنَابَزُواْ } لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم ، والإزراء بحالهم ومنصبهم . وقال خامساً : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } وقال : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } وقال : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته ، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى . وهو في غاية الحسن من الترتيب . فإن قيل : لِمَ لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة . الابتداء بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم الفاسق . نقول : قدم الله ما هو الأهم على ما دونه ، فذكر جانب الله ، ثم جانب الرسول ، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق ، والاعتماد عليه ، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور . وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدٍّ يفضي إلى القتال . ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق ، آية الاقتتال فقال : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } ؟ انتهى .