Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 64-64)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أخرج الطبرانيّ وابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : إن ربك بخيلٌ لا ينفق . فنزلت . وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه : نزلت في فنحاص ، رأس يهود قينقاع ؛ وتقدم أنه الذي قال : إن الله فقير ونحن أغنياء . فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه . فيكون أريد بالآية هنا ، ما حكى عنه بقوله المذكور . والله أعلم . ولما لم ينكر على القائل قومُه ورضوا به ، نُسِبَتْ تلك العظيمة إلى الكل ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً ، وإنما القاتل واحد منهم . و ( غلّ اليد وبسطُها ) : مجاز مشهور عن البخل والجود . ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] قالوا : والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال . لا سيما لدفع المال ولإنفاقه . فأطلقوا اسم السبب على المسبب . وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل . فقيل للجواد : فياض الكف ، مبسوط اليد ، وسبط البنان نَزِهُ الأنامل . ويقال للبخيل : كزّ الأصابع ، مقبوض الكف ، جعد الأنامل . وقوله تعالى : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة ، أو بغلّ الأيدي حقيقة . يغلّون أي : تشدّ أيديهم إلى أعناقهم أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة : { وَلُعِنُواْ } أي : أبعدوا عن الرحمة فلا يوفقون للتوبة { بِمَا قَالُواْ } من الكلمة الشنيعة التي لا تصح في حق الله حقيقة ولا مجازاً { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي : بأنواع العطايا المختلفة . وثنّي ( اليد ) مبالغة في الردّ ونفي البخل عنه تعالى ، وإثباتاً لغاية الجود ، فان غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } تأكيد لما قبله ، منبه على أن إنفاقه تابع لمشيئته , المبنية على الحِكَم , التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد . وَههنا مباحث الأول : ما زعمه الزمخشريّ ومن تابعه - مِن أنّ إثبات اليد لا يصحّ حقيقة له تعالى - فإنه نزعة كلامية اعتزالية . قال الإمام ابن عبد البرّ في ( شرح الموطأ ) : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القران والسنة , والإيمان بها , وحملها على الحقيقة لا على المجاز . إلا أنهم لا يكيّفون شيئاً من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة . وأما أهل البدع , الجهمية والمعتزلة كلها , والخوارج , فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة . ويزعم من أن أقرّ بها شَبَّهَ . وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود . والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله . وهم أئمة الجماعة . وقال القاضي أبو يعلى في كتاب ( إبطال التأويل ) : لا يجوز ردّ هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها . والواجب حملها على ظاهرها , وأنها صفات الله , لا تشبّه بسائر الموصوفين بها من الخلق , ولا يعتقد التشبيه فيها . ثم قال : ويدل على إبطال التأويل , أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين , حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها , ولو كان التأويل سائغاً لكانوا إليه أسبق . لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة . وقال الإمام أبو الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى في كتاب ( الإبانة ) في باب ( الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين ) وذكر الآيات في ذلك ، ورد على المتأولين بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته . مثل قوله : فإن سئلنا : أتقولون لله يدان ؟ قيل : نقول ذلك ؛ وقد دل عليه قوله : { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] وقوله تعالى : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] . وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذرية " وقد جاء في الخبر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم بيده ، وخلق جنة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده " وليس يجوز في لسان العرب ، ولا في عادة أهل الخطاب ، أن يقول القائل : عملت كذا بيدي ، ويعني به النعمة . وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري في مفهومها في كلامها ، ومعقولا في خطابها ، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل : فعلت بيدي ، ويعني به النعمة - بطل أن يكون معنى قوله عز وجل : { بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] النعمة . وذكر كلاماً طويلاً في تقرير هذا ونحوه . وقال القاضي أبو بكر الباقلانيّ في كتاب ( الإبانة ) له : فإن قال : فما الدليل على أنّ للهِ وجهاً ويداً ؟ قيل له : { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [ الرحمن : 27 ] . وقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] فأثبت لنفسه وجهاً ويداً . فإن قال : فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة ؟ قلنا : لا يجب هذا كما لا يجب - إذا لم نعقل حيّاً عالماً قادراً إلا جسماً - أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه . وقال الشيخ تقيّ الدين في ( الرسالة المدنية ) : مذهب أهل الحديث - وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف - أنّ هذه الأحاديث تُمَرُّ كما جاءت ويُؤْمَن بها وتُصَدَّق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل ، وتكييف يفضي إلى تمثيل . وقد أطلق غير واحدٍ ممن حكى إجماع السلف - منهم الخطابيّ - مذهب السلف أنّها تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها . وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثباتَ وجودٍ لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجودٍ لا إثبات كيفية … انتهى . ويرحم الله الإمام يحيى الصرصريّ الأنصاريّ حيث يقول من قصيدة : @ إن المقال بالاعتزال لَخِطَّةٌ عمياءُ حلّ بها الغُواة المُرَّدُ هجموا على سبل الهدى بعقولهم ليلاً فعاثوا في الديار وأفسدوا صمٌّ ، إذا ذكر الحديث لديهم نفروا ، كأن لم يسمعوه ، وغرّدوا واضرب لهم مَثَلَ الحمير إذا رأتْ أُسْدَ العرين فهنّ منهم شُرَّدُ @@ إلى أن قال : @ يدعو من اتبع الحديث مشبّها هيهات ليس مشبّها من يُسند لكنه يروي الحديث كما أتى من غير تأويلٍ ولا يتأوّد @@ الثاني : روى الإمام أحمد والشيخان في معنى الآية عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة . سحاء الليلَ والنهارَ . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض . فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه . وكان عرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القيض - يرفع ويخفض " وقال : " يقول الله تعالى : أنفقْ أُنفق عليكَ " " . الثالث : في هذه الآية دلالة على جواز لعن اليهود ، ولا إشكال أنّ ذلك جائز . الرابع : هذه الآية أصل في تفكير من صدر منه ، في جناب البارئ تعالى ، ما يؤذن بنقص . وقوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم } أي : من اليهود { مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } من جوامع الخيرات { طُغْيَاناً } أي : عدواناً على الناس ، أو تمادياً في الجحود { وَكُفْراً } أي : في أنفسهم بعد كفرهم وطغيانهم بالتحريف وأخذ الرشوة أوْلاً . وهذا من إضافة الفعل إلى السبب . أي : يزدادون طغياناً وكفراً بما أنزل ، كما قال : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . قال الحافظ ابن كثير : أي يكون ما آتاك الله ، يا محمدّ ، من النعمة نقمةً في حقّ أعدائك من اليهود وأشباههم . فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً ، يزداد به الكافرون ، الحاسدون لك ولأمتك ، طغياناً - وهو المبالغة والمجاوزة للحدّ في الأشياء وكفراً أي : تكذيباً . كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] ، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] . { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } فكلمتهم أبداً مختلفة وقلوبهم شتى لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد . وقد ذكر الشهرستانيّ أنهم افترقوا نيّفاً وسبعين فرقة . ولما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، كان اليهود ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة . وَبَسْطُ ما جرياتهم ، وهديه صلى الله عليه وسلم في شأنهم ، مبسوط في ( زاد المعاد ) لابن القيم . فراجعه . قال الرازيّ : واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها ، هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوّته بعد ظهور الدلائل على صحتها ، لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة . ثم إنه تعالى بيّن أنهم ، لما رجّحوا الدنيا على الآخرة ، لا جرم أن الله تعالى ، كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا ؛ لأن كل فريق منهم بقي مصرّاً على مذهبه ومقالته . يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات . تعظيماً لنفسه وترويجاً لمذهبه . فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم . وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يُكفّر بعضاً , ويغزو بعضهم بعضاً . وفي الآية وجهان : أحدهما : ما بين اليهود والنصارى ؛ لأنه جرى ذكرهم في قوله تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ } [ المائدة : 51 ] ، وهو قول الحسن ومجاهد ؛ لأنهم المحدَّث عنهم في قوله تعالى : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ } . والثاني : ما بين فرق اليهود خاصة . أقول : وهو الظاهر . فإن قلت : فهذا المعنى حاصل أيضاً بين فرق المسلمين ، فكيف يكون ذلك عيباً على الكتابيين حتى يذموا به ؟ قلت : بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين ، إنما حدثت بعد عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين . أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلاً بينهم ؛ فَحَسُنَ جَعْلُ ذلك عيباً على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن . { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } أي : كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثارة شر عليه ، ردهم الله سبحانه وتعالى ، بأن أوقع بينهم منازعةً كفَّ بها عنه شرهم ، أو : كلما أرادوا حرب أحد ، غلبوا وقهروا ، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد قط . فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب ، لأنه كان عادتهم ذلك . ونيران العرب مشهورة ، منها هذه . وإطفاء النار على الأول عبارة عن دفع شرهم ، وعلى الثاني غلبتهم . و ( للحرب ) إما صلة لـ ( أوقدوا ) ، أو متعلق بمحذوف وقع صفة ( ناراً ) أي : كائنة للحرب . { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } أي : للفساد أو مفسدين ، أي : يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وتعويق الناس عنه وإثارة الفتن { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي : من كان الإفساد صفته . و ( اللام ) إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليّاً ؛ أو للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر للتعليل . وبيان كونهم راسخين في الإفساد .