Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 85-85)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ } أي : بما تكلموا به من قولهم { رَبَّنَا آمَنَّا } الصادر عن اعتقاد وإخلاص واعتراف بالحقّ { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } أي : من تحت شجرها ومساكنها { ٱلأَنْهَارُ } يعني : أنهار الماء واللبن والخمر والعسل { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها { وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } يعني : المؤمنين الموحّدين المخلصين في إيمانهم . تنبيهات الأول : اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشيّ وأصحابه رضوان الله عليهم . أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيّب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة ابن الزبير قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ وكتب معه كتاباً إلى النجاشيّ . فقدم على النجاشيّ . فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل إلى الرهبان والقسّيسين . ثم أمر جعفر بن أبي طالب فقرأ عليهم سورة مريم . فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع . فهم الذين أنزل اللهُ فيهم : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً … } [ المائدة : 82 ] - إلى قوله : { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 83 ] . وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشيّ ثلاثين رجلاً من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقرأ عليهم سورة ( يس ) فبكوا , فنزلت فيهم الآية . وأخرج النسائيّ عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشيّ وأصحابه : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ } [ المائدة : 83 ] . وروى الطبرانيّ عن ابن عباس ونحوه , بأبسط منه . - كذا في ( أسباب النزول للسيوطيّ ) . وقال ابن كثير : قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في النجاشيّ وأصحابه , الذين , حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن , بكوا حتى أخضبوا لحاهم . قال ابن كثير : وهذا القول فيه نظر . لأن هذه الآية مدنية , وقصة جعفر مع النجاشيّ قبل الهجرة . انتهى . أقول : إن نظره مدفوع , فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها , ونظائره في التنزيل كثيرة , ولا إشكال فيه … وظاهر أنّ المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وهم يهود بني قريظة والنضير . وبعناد المشركين أيضاً ، وقساوة قلوب الفريقين . وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشيّ وأصحابه . وقال ابن كثير : هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ للَّهِ … } [ آل عمران : 199 ] الآية وهم الذين قال الله فيهم : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ … } [ القصص : 52 - 53 ] - إلى قوله - { لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] . انتهى . وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة ؛ أنّ قريشاً ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم ، فافتتن من افتتن منهم ، وعصم الله من شاء منهم . قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء - قال لهم : " لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإنّ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، وهي أرض صِدْق ، حتى يجعلَ الله لكم فرجاً مما أنتم " فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة ، وفرّوا إلى الله بدينهم . فكانت أول هجرة كانت في الإسلام . فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً وولدوا بها - ثلاثةً وثمانين رجلاً ، إن كان عمّار ابن ياسر فيهم ، وهو يشكّ فيه . ثم روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة - زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم - قالت : لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشيّ . أمِنّا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى لا نُؤْذَي ولا نسمع شيئاً نكرهه . فلمّا بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشيّ فينا رجلين منهم جَلْدَيْن . وأن يُهدوا للنجاشيّ هدايا مما يُستطرف من متاع مكة . وكان من أعجب ما يأتيه منها الأَدَم . فجمعوا له أَدَماً كثيراً . ولم يتركوا من بطارقته بِطريقاً إلا أهدَوْا له هدية . ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص . وأمروهما بأمرهم ، وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشيّ فيهم . ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه . ثم سلاه أن يُسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم . قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشيّ - ونحن عنده بخير دار ، عند خير جار - فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشيّ ، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوي - أي لجأ - إلى بلد الملك منا ، غلمانٌ سفهاء . فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بَعَثَنَا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم ليردّوهُم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يُسْلمهم إلينا ولا يكلمهم . فإنّ قومهم أعلى بهم عيناً . ( أي : أبصر بهم ) وأعلم بما عابوا عليهم . فقالوا لهما : نعم . ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشيّ فقبلها منهما ، ثم كلمّاه بما كلما كلّ بطريق . قالت : ولم يكن شيء أبغضَ إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشيّ : فقالت : بطارقته حوله : صَدَقَا . أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم . فأَسْلمهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم . فقالت : فغضب النجاشيّ ثم قال : لاها الله ! إذاً لا أسْلمهم إليهما . ولا يكادُ قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهَم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم . فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم . وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني . قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا . ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا : نقول والله ! ما علمنا . وما أمَرَنَا به نبينا ، كائنا في ذلك ما هو كائن . فلما جاؤوا - وقد دعا النجاشيّ أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال لهم : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل ؟ قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية . نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة . ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار . ويأكل القويّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان . وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . قالت : فعدّد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله . فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحرّمنا ما حرّم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا , فعدا علينا قومنا , فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى , وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث . فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك , ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك ! قالت : فقال له النجاشيّ : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم ! فقال له النجاشيّ : فاقرأه عليّ . قالت : فقرأ عليه صدرا من ( كهيعص ) قالت : فبكى , والله ! النجاشيّ حتى اخضلّت لحيته , وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم . ثم قال النجاشيّ : إن هذا , والذي جاء به عيسى , ليخرج من مشكاة واحدة . انطلقا , فلا , والله ! لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون . قالت : فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله ! لآتينّه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم ( أي شجرتهم التي منها تفرعوا ) . قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا . قال : والله ! لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد . قالت : ثم غدا عليه من الغد فقال : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما . فأرسلْ إليهم فسلهم عما يقولون فيه . قالت : فأرسل إليهم ليسألهم عنه . قالت : ولم ينزل بنا مثلها قط . فاجتمع القوم . ثم قال بعضهم لبعض : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه ؟ قالوا : نقول ، والله ! ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن . قالت : فلما دخلوا عليه قال لهم : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم ؟ قالت : فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاءنا فيه نبينا صلى الله عليه وسلم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . قالت : فضرب النجاشيّ بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ، ثم قال : والله ! ما عدا عيسى ابن مريم ، مما قلتَ ، هذا العودَ . قالت : فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال . فقال : وإن نخرتم ، والله ! اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم : الآمنون - مَنْ سبّكم ، غرِم . قالها ثلاثاً . ثم قال : ما أحب أن لي دَبْراً - والدبر الجبل - من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم . رّدوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها . قالت : فخرجا من عنده مقبوحَين مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دارٍ مع خير جارٍ . ثم روى ابن إسحاق في قصته : أن النجاشيّ عمد إلى كتاب فكتب فيه : هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله . ويشهد أنّ عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم . انتهى . وإسلام النجاشيّ معروف . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما مات ، صلّى عليه مع تباعد الديار . وذكر شمس الدين ابن القيّم في ( زاد المعاد ) : أنه كان مخرجهم إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث . التنبيه الثاني : في الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء . وفي الخبر : " ابكوا فإن لم تجدوا بكاءً فتباكوا " أخرجه المنذريّ في ( الترغيب والترهيب ) عن عبد الله بن عمرو . وقال : رواه الحاكم مرفوعاً وصححه . والمراد إشراب القلب والخوف المهابة لله تعالى . الثالث : في قوله تعالى : { يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا } [ المائدة : 83 ] وقوله : { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ } دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هو مذهب الفقهاء . وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله تعالى : { بِمَا قَالُواْ } ، لكن الثناء بفَيْض الدمع في السباق ، وبالإحسان في السياق ، يدفع ذلك ؛ وأنَّى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] ؟ نفى الإيمان عنهم ، مع قولهم : { آمَنَّا بِٱللَّهِ } [ البقرة : 8 ] لعدم التصديق بالقلب . وقال أهل المعرفة : الموجود منهم ثلاثة أشياء : البكاء على الجفاء ، والدعاء على العطاء ، والرضا بالقضاء . فمن ادعى المعرفة ، ولم يكن فيه هذه الثلاثة ، فليس بصادق في دعواه … ! أفاده النسفيّ . وقال الخازن : إنما علق الثواب بمجرد القول ؛ لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا . وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب ؛ لأن القول إذا اقترن بالمعرفة فهو الإيمان الحقيقيّ الموعود عليه بالثواب . وقال الرازيّ : لما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ، ثم أنضاف إليه القول ، لا جرم كمل الإيمان . الرابع : قوله تعالى : { وَمَا جَآءَنَا } يجوز أن يكون في موضع جرّ ، أي : وبما جاءنا ، و { مِنَ ٱلْحَقِّ } حال من الفاعل المستتر ، أو لغو متعلق بـ ( جَاءَ ) أي : وبما جاءنا من عند الله . ويجوز أن يكون مبتدأ و { مِنَ ٱلْحَقِّ } الخبر ، والجملة في موضع الحال . وقوله تعالى : { وَنَطْمَعُ } يجوز أن يكون معطوفاً على { نُؤْمِنُ } أي : وما لنا لا نطمع . ويجوز أن يكون التقدير : ونحن نطمع ، فتكون الجملة حالاً من ضمير الفاعل في { نُؤْمِنُ } - أفاده أبو البقاء - .