Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 15-19)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي : الذين اتقوا الله بطاعته ، واجتنابِ معاصيه في الدنيا ، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية . { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } قال ابن جرير : أي : عاملين ما أمرهم به ربهم ، مؤدين فرائضه . وقال غيره : أي : قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخرويّ ، راضين به . وهذا هو الوجه . ولذا قال ابن كثير : والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ؛ لأن قوله تبارك وتعالى : { آخِذِينَ } حال من قوله : { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون ، آخذين ما آتاهم ربهم ، أي : من النعيم والسرور والغبطة . ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } يعني : في الدنيا { مُحْسِنِينَ } أي : قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم ، بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم ، كما بينه بقوله سبحانه : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي : كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ؛ لتقوى نفوسهم على عبادته تعالى ، بنشاط . روى ابن جرير عن أنس في الآية ؛ أنهم كانوا يصلّون ما بين هاتين الصلاتين ، ما بين المغرب والعشاء . وعن محمد بن عليّ : كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة . وعن مطرِّف : قلَّ ليلة أتت عليهم ، إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها . وعن الحسن قال : لا ينامون من الليل . إلا أقله ، كابدوا قيام الليل . وقرأ الأحنف بن قيس هذه الآية فقال : لست من أهل هذه الآية . وعن الضحاك : أن الوقف على قوله تعالى : { كَانُواْ قَلِيلاً } أي : أن المحسنين كانوا قليلاً ، ثم ابتدئ فقيل : { مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } و ( ما ) نافية أي : لا يهجعون . قال ابن كثير : هذا القول فيه بعد وتعسف . لطيفة في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم ، وترك الاستراحة ، وذلك ذكر القليل . والليل الذي هو وقت النوم ، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم ، وزيادة ( ما ) لأنها تدل على القلة . وبالجملة ، ففي الآية استحباب قيام الليل ، وذم نومه كله ، والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال القاضي : أي : أنهم مع قلة هجوعهم ، وكثرة تهجدهم ، إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم . قال الرازيّ : في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجّدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك ، وأخلص منه ، فيستغفرون من التقصير ، وهذا سيرة الكريم : يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ، ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمنّ به . وفيه وجه آخر ألطف منه : وهو أنه تعالى ، لما بيَّن أنهم يهجعون قليلاً ، والهجوع مقتضى الطبع ، قال : { يَسْتَغْفِرُونَ } أي : من ذلك القدر من النوم القليل . وفيه لطيفة أخرى نبيّنها في جواب سؤال : وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر ، وما قال : كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون ، فما الحكمة فيه ؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد ، لا الهجوع ؟ نقول : إشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلاً ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار في وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار . ثم قال : والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر بقولهم : ربنا اغفر لنا . وطلب المغفرة بالفعل أي بالأسحار ، يأتون بفعل آخر طلباً للغفران ، وهو الصلاة . والأول أظهر ، والثاني عند المفسرين أشهر . انتهى . ويؤيد الثاني الإشارة إلى الزكاة في الآية بعدها ، والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات ، وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار ، الإشارة إلى أنه ركنها المهم في التهجد ، بل وفي غيره ، فيكون من إطلاق الجزء على الكل ، وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها ، كالركوع والسجود وبين السجدتين وآخر الصلاة ، كما أخرجه الشيخان وأهل السنن - وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد لذلك . لطيفة : قال الزمخشريّ في ( أساس البلاغة ) : إنما سمي ( السحر ) استعارة ؛ لأنه وقت إدبار الليل ، وإقبال النهار ، فهو متنفس الصبح . انتهى . { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } أي : الفقير المتعفف الذي يُظَن غنيّاً ، فيحرم الصدقة . قال قتادة : هذان فقيرا أهل الإسلام : سائل يسأل في كفه ، وفقير متعفف ، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم . وفي الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين الذي تردُّّهُ اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه " . وروى الإمام أحمد عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " ورواه أبو داود وأسنده عن عليّ كرم الله وجهه . ويدخل في ( المحروم ) كل من لا مال له ، ومن هلك ماله بآفة ، ومن حرِم الرزق واحتاج ، إلا أن أهم أفراده المتعفف : ولذا عوّل عليه الأكثر . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : في أموالهم حق سوى الزكاةَ يَصِلون بها رحماً ، أو يقرون بها ضيفاً ، أو يحملون بها كلا . ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات ؛ لكثرة الآيات الواضحة ، بقوله سبحانه : { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ … } .