Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 18-19)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ } أي : المتصدقين والمتصدقات في سبيل الله { وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه ، وشهادتهم بحقية جميع ذلك . وقد جوز في الشهداء وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفاً على ما قبله ، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء ، وهو الظاهر ؛ لأن الأصل الوصل لا التفكيك . والثاني : أن يكون مبتدأ ، خبره { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } . وَ { ٱلشُّهَدَآءُ } حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم ، أو الذين قتلوا في سبيل الله ، واختار الوجه الثاني ابن جرير ، قال : لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم ( شهيد ) لا بمعنى غيره ، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه ، فيكون ذلك وجهاً ، وإن كان فيه بعض البعد ؛ لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله : { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } إذن ، والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، أو هلكوا في سبيله ، عند ربهم ، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم . انتهى . ثم رأيت لابن القيّم في ( طريق الهجرتين ) بسطاً لهذين الوجهين في بحث الصديقية . ننقله لنفاسته . قال رحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم : الطبقة الرابعة : ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم ، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم . وهذه أفضل مراتب الخلق ، بعد الرسالة والنبوة ، وهي مرتبة الصديقية ، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء ، فقال تعالى : { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة . وهؤلاء هم الربانيون ، وهم الراسخون في العلم ، وهم الوسائط بين الرسول وأمته . فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه . وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك . وقال تعالى : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } [ الحديد : 19 ] قيل : إن الموقف على قوله : { هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ } ثم يبتدئ { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } فيكون الكلام جملتين ، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون ، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل ، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه . وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ؛ ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين ، هنا ، وفي سورة النساء ، وهكذا جاء ذكرهم مقدماً على الشهداء في كلام النبيّ في قوله : " اثبت أُحُد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد " ؛ ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق . ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضي الله عنه . وقيل : إن الكلام جملة واحدة ، أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم . وعلى هذا ، فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة ، وهي قوله : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [ البقرة : 143 ] وهم المؤمنون ، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا ، وشهداء على الناس يوم القيامة ، ويكون الشهداء وصفاً لجملة ( المؤمنين الصديقين ) . وقيل : الشهداء : هم الذين قتلوا في سبيل الله . وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين ، ويكون قوله : { وَٱلشُّهَدَآءُ } مبتدأ خبره ما بعده ؛ لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً في سبيل الله . ويرجحه أيضاً أنه لو كان ( الشهداء ) داخلاً في جملة الخبر ، لكان قوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } داخلاً أيضاً في جملة الخبر عنهم ، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء : أحدها : أنهم هم الصدّيقون . والثاني : أنهم هم الشهداء . والثالث : أن لهم أجرهم ونورهم . وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول ، ثم ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف . وهذا كما تقول : زيد كريم وعالم له مال . والأحسن في هذا تناسب الأخبار ، بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً ، فتقول . زيد كريم عالم له مال ؛ أو كريم وعالم وله مال ، فتأمله ! ويرجحه أيضاً أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء ، وهم الصديقون والشهداء والصالحون ، وهم المذكورون في الآية ، وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً . فهؤلاء ثلاثة أصناف . ثم ذكر الرسل في قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ الحديد : 25 ] فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء في [ الآية : 69 ] فهؤلاء هم السعداء ، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان : كفار ومنافقون ، فقال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ … } [ الحديد : 19 ] الآية وذكر المنافقين في قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ } [ الحديد : 13 ] الآية ، فهؤلاء أصناف العالم كلهم . وترك سبحانه ذكر المخلّط صاحب الشائبتين ، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء ، دون المخلطين غالباً ، لسرّ اقتضته حكمته . فليحذر صاحب التخليط ، فإنه لا ضمان له على الله ، فلا هو من أهل وعده المطلق ، ولا ييأس من روح الله ، فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب ، ولكنه بين الجنة والنار ، واقف بين الوعد والوعيد ، كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه . وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين ، ولكن غلطوا في تخليده في النار ، ولو نزلوه بين المنزلتين ، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا . انتهى كلام ابن القيم ، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير في الآية . ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم ، عطف بذكر الأشقياء ، وبين حالهم بقوله : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } . ثم حقر تعالى أمر الدنيا ، وبين حاصل أمرها عند أهلها ، بقوله : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ … } .