Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 25-25)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } أي : التامّ في الحكم والأحكام { وَٱلْمِيزَانَ } أي : العدل - قاله مجاهد وقتادة وغيرهما - قال ابن كثير : وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة ، المخالفة للآراء السقيمة { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل ، وهو إتباع الرسل فيما أمروا به ، وتصديقهم فيما أخبروا عنه . فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق ، كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] أي : صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأوامر والنواهي ؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجنات { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ } [ الأعراف : 43 ] . { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني : القتال به ، فإن آلات الحروب متخذة منه { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي : في مصالحهم ومعايشهم ، فما من صناعة إلا وللحديد يدٌ فيها . فإن قيل : الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة ، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله ؟ فالجواب : أن بينهما مناسبة تامة ؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا ، حتى ينالوا السعادة في الأخرى ، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة . ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم . ومن تمرد وطغا وقسا يضرب بالحديد ، الرادّ لكل مريد . وإلى الأولين أشار بقوله : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ } فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة . وإلى الثالث أشار بقوله : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } فكأنه قال : أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ ، وما يهتدي به أتباعهم ، وما يهتدي به من لم يتبعهم ، فهي حينئذ معطوفة ، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم ، إذ لا داعي له ، وليس في الكلام ما يقتضيه ، بل فيه ما ينافيه . قال العتبيّ في أول ( تاريخه ) : كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً ، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة ، حتى أعملت التفكر ، فوجدت { ٱلْكِتَابَ } قانون الشريعة ، ودستور الأحكام الدينية ، يتضمن جوامع الأحكام والحدود ، وقد حظر فيه التعادي والتظالم ، ودفع التباغي والتخاصم ، وأمر بالتناصف والتعادل ، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة ، فلذا جمع { ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ } وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف ، وجذوة عقابه ، وعذب عذابه ، وهو { ٱلْحَدِيدَ } الذي وصفه الله بالبأس الشديد . فجمع بالقول الوجيز ، معاني كثيرة الشعوب ، متدانية الجنوب ، محكمة المطالع ، مقومة المباديء والمقاطع - نقله الشهاب . وأوّل القاشانيّ ( البينات ) بالمعارف والحكم ، و { ٱلْكِتَابَ } بالكتابة ، و { وَٱلْمِيزَانَ } بالعدل ، لأنه آلته ، و { ٱلْحَدِيدَ } بالسيف ؛ لأنه مادته . قال : وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعيّ ، وينضبط النظام الكليّ ، المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد ، إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول ، وهو العلم والحكمة . والأصل المعول عليه في العمل ، والاستقامة في طريق الكمال ، هو العدل . ثم لا ينضبط النظام ، ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذين يتم بهما أمر السياسة . فالأربعة هي أركان كمال النوع ، وصلاح الجمهور . ويجوز أن تكون ( البينات ) إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية و { ٱلْكِتَابَ } إشارة إلى الشريعة والحكم العملية و { وَٱلْمِيزَانَ } إلى العمل بالعدل والسوية و { ٱلْحَدِيدَ } إلى القهر ودفع شرور البرية . وقيل : ( البينات ) العلوم الحقيقية ، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية . أي : الشرع ، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات ، والملك . وأيّا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصيّ والنوعيّ في الدارين ، إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل ، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم . أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن الإنسان مدنيّ بالطبع ، محتاج إلى التعامل والتعاون ، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع . والنفوسُ إما خيّرة أحرار بالطبع ، منقادة للشرع ، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع . فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع ، والثانية لا بدّ لها من القهر وسياسة الملك . انتهى . تنبيه لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول ، حيث ذكر في كتاب الله تعالى ، بيّن فيها أن كثيراً من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف ، لاشتباه المعنى في تلك المواضع . وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل الكتاب وحقق رحمه الله أن ليس في القرآن ولا في السنة لفظ ( نزول ) إلا فيه معنى النزول المعروف . قال : وهو اللائق بالقرآن ، فإنه نزل بلغة العرب ، ولا تعرف العرب منزولاً إلا بهذا المعنى . ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطاباً بغير لغتها . ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى ، في معنى آخر بلا بيان ، وهذا لا يجوز بما ذكرنا . قال : وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد ، والحديد يخلق في المعادن . وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة - فهو كذب لا يثبت مثله . وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، فأنزل الحديد والماء والنار والملح - حديث موضوع مكذوب والناس يشهدون أن هذه الأمة تصنع من حديد المعادن ما يريدون . فإن قيل : إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات ، فهذه مكابرة للعيان . فإن قيل : بل نزل معه آلة واحدة ، وتلك لا تعرف ، فأي فائدة في هذا لسائر الناس ؟ ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثَم حديد موجود يطرق بهذه الآلات ؟ وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات . ثم أخبر أنه أنزل الحديد ، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه ، الذي به يُنصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا لم ينزل من السماء . فإن قيل : نزلت الآلة التي يطبع بها . قيل : فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة ، والآلة وحدها لا تكفي ، بل لابد من مادة يصنع بها آلات الجهاد . ثم قال : وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى : الخلق ؛ لأنه أخرجه من المعادن ، وعلمهم صنعته ، فإن الحديد إنما يخلق المعادن ، والمعادن إنما تكون في الجبال ، فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال ، لينتفع به بنو آدم . انتهى كلامه رحمه الله . وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } أي : باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه . عطف على محذوف دلّ عليه ما قبله . أي : لينتفعوا به ويستعملوه في الجهاد ، وليعلم الله … إلخ . وحذف المعطوف عليه إيماء إلى أنه مقدمة لما ذكر , وهذا المقصود منه . أو اللام متعلقة بمحذوف . أي : أنزله ليعلم … إلخ ، والجملة معطوفة على ما قبلها . فحذف المعطوف وأقيم متعلقة مقامه . وقيل : عطف على { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } . قال الشهاب : وهو قريب بحسب اللفظ ، بعيد بحسب المعنى . { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ } أي : على إهلاك من أراد إهلاكه { عَزِيزٌ } أي : غالب قاهر لمن شاء .