Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 100-100)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } أي : جعلوهم شركاء له في العبادة . فإن قيل : فكيف عُبِدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام ؟ فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن ، وأمرهم بذلك . كقوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } [ النساء : 117 - 119 ] ، وكقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي … } [ الكهف : 50 ] الآية ، وقال إبراهيم لأبيه : { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] ، وكقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يس : 60 - 61 ] وتقول الملائكة يوم القيامة : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] . { وَخَلَقَهُمْ } حال من فاعل ( جَعَلُوا ) ، مؤكدة لما في جَعْلِهِم ، ذلك من كمال القباحة والبطلان ، باعتبار علمهم بمضمونها . أي : وقد علموا أن الله خلقهم دون الجن ( وليس من يخلق كمن لا يخلق ) ! وقيل : الضمير للشركاء . أي : والحال أنه تعالى خلق الجن ، فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له ؟ كقول إبراهيم : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] . أي : وإذا كان هو المستقل بالخالقية ، وجب أن يفرد بالعبادة ، وحده لا شريك له . تنبيه ما ذكرناه من معنى قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان ، هو ما قرره ابن كثير ، وأيده بالنظائر المتقدمة ، ونقل عن الحسن ، فتكون الكناية لمشركي العرب . وقيل : المراد بالجن : الملائكة ، فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم بنات الله . وكلا الأمرين موجب للشريك . أما الأول فظاهر . وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد ، فيشاركه في صفات الألوهية . وتسمية الملائكة ( جناً ) حقيقة ، لشمول لفظ الجن لهم . وقيل : استعارة أي : عبدوا ما هو كالجن ، فيكون مخلوقاً مستتراً عن الأعين . وذهب بعض السلف - منهم الكلبيّ - إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين : أحدهما : خالق الخير وكل نافع . وثانيهما : خالق الشر وكل ضار . ونقله ابن الجوزيّ عن ابن السائب . وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه ، وأنه قال : نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله وإبليس أخَوَانِ . فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات ؛ وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور . قال الرازيّ : وقول ابن عباس المذكور أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية ، وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة . وقوّى ابن عباس قوله المذكور بقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] وإنما وصف بكونه من الجن ؛ لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة والروحانيون مستترة من العيون ، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها . قال الفخر : هذا مذهب المجوس . وإنما قال ابن عباس : هذا قول الزنادقة ؛ لأن المجوس يلقبون بالزنادقة ؛ لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بـ ( الزند ) ، والمنسوب إليه يسمى ( زندي ) ، ثم عُرّب فقيل : ( زنديق ) ، ثم جمع فقيل : ( زنادقة ) . واعلم أن المجوس قالوا : كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من ( يزدان ) ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من ( اهرمن ) ( وهو المسمى بإبليس في شرعنا ) ثم اختلفوا ، فالأكثرون منهم على أن ( اهرمن ) محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة والأقلون منهم قالوا : إنه قديم أزليّ . وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم ، فخيرات هذا العالم من الله تعالى ، وشروره من إبليس . فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما . وإنما جمع حينئذ في الآية ، لكونه مع أتباعه كأنهم معبودون . ثم قال الرازيّ : وقوله تعالى : { وَخَلَقَهُمْ } إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكاً ، وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم ، بل هو محدث . إذا ثبت هذا فنقول : إن كل محدث فله خالق وموجد ، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى . فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى . ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح ، والمجوس سلّموا أن خالقه هو الله تعالى ، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد . وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا : لا بد من إلهين ، فسقط قولهم . انتهى ملخصاً . وقوله تعالى : { وَخَرَقُواْ لَهُ } أي : اختلقوا وافتروْا له { بَنِينَ } كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير { وَبَنَٰتٍ } كقول بعض العرب في الملائكة . قال الزمخشريّ : يقال : خلق الإفك وخرقه واختلقه بمعنى . وسئل الحسن عنه فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها . كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله ! ويجوز أن يكون من ( خَرَقَ الثَّوْبَ ) إذا شقه : أي : اشتقوا له بنين وبنات . وقرئ ( وَخَرَّقُوا ) بالتشديد للتكثير لقوله : { بَنِينَ وَبَنَٰتٍ } . { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رمياً بقولٍ عن عمى وجهالة ، من غير فكر وروية ، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا ، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادَرُ قدره . وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى . وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جزم به ، وقام عليه الدليل . ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله : { سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد . ثم استدل تعالى على بطلان ما اجترؤوا عليه بوجوه أربعة . بدأ منها بقوله : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ … } .