Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 103-103)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } جملة مستأنفة ، إما مؤكدة لقوله تعالى : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ الأنعام : 102 ] ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فليحذر ، وإما هي مؤكدة لما تقرر قبلُ من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد ، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة وهي أبصار أهل الدنيا ، لجلاله وكبريائه وعظمته ، فأنى يصح أن ينسب إلى عليائه تلك العظيمة ؟ وذلك لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعداداً لرؤيته المقدسة . قال العارف الجليل الشيخ الأكبر قدس سره في ( فتوحاته ) : سبب عجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا ضعف نشأة هذه الدار ، إلا لمن أمده الله بالقوة ، بخلاف نشأة الآخرة لقوتها . وسبب رؤيته تعالى في المنام كون النوم أخا الموت . وفي الحديث : " إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " فما نفى الشارع إلا رؤية الله في الدنيا يقظة . انتهى . وقال بعضهم : إن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه تعالى ؛ لأن هذه الأحداق ما دامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى ، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها ، وتغيرت أحوالها . وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل ، وعمل الليل قبل النهار ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " . قال ابن كثير : وفي الكتب المتقدمة ؛ أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى ، إنه لا يراني حيّ إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 143 ] . أقول : كون المنفيّ من الإدراك في هذه الآية هو الإدراك الدنيويّ خاصة ، لا يحتاج إلى حجة ولا برهان . ومن فهم من بعض الفرق ، كالمعتزلة ، من هذه الآية أن المنفيّ هو الإدراك في النشأتين ، فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة . أما الكتاب فمثل قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] وأما السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجليّ قال : " كنا جلوسا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامّون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ، فافعلوا " ، ثم قرأ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } [ ق : 39 ] " . قال ابن كثير : تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات " انتهى . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم ، ومنع ذلك في الدنيا . إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم . انتهى . قال ابن كثير : كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤيا في الدار الآخرة ، وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية . انتهى . فعن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه ! هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت : لقد قفّ شعري مما قلت ! أين أنت من ثلاث من حدثكهنَّ فقد كذب : من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب . ثم قرأت : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ } ، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } [ لقمان : 34 ] ، ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت : { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [ المائدة : 67 ] الآية ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين - أخرجه الشيخان والترمذيّ - . وخالفها ابن عباس : فعنه إطلاق الرؤية ، وعنه أنه رآه بفؤاده والمسألة تذكر مبسوطة في أول سورة النجم إن شاء الله تعالى . ومن الناس من ذهب إلى أن الإدراك ليس هو مطلق الرؤية ، بل هو معرفة الكنه أو الإحاطة . قال ابن كثير : قال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك . فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم . ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفيّ ما هو ؟ فقيل : معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلا هو ، وإن رآه المؤمنين ، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك ، وله المثل الأعلى . وقال آخرون : الإدراك أخص من الرؤية ، وهو الإحاطة . قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية ، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم . قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] . وفي صحيح مسلم : " لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " ولا يلزم منه عدم الثناء ، فكذلك هذا . انتهى . وقال النسفيّ : تشبثُ المعتزلة بهذه الآية لا يستتب ؛ لأن المنفيّ هو الإدراك لا الرؤية ، والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئيّ وحدوده ، وما يستحيل عليه الحدود والجهات ، يستحيل إدراكه ، لا رؤيته ، فنزّل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم ، ونفي الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود ، لا يقتضي نفي العلم به ، فكذا هذا . على أن مورد الآية ، وهو التمدح ، يوجب ثبوت الرؤية ، إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته . لا تمدح فيه ؛ لأن كل ما لا يرى لا يدرك ، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية ، إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية ، دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات ، فكانت الآية حجة لنا عليهم . انتهى . وقد جود العلامة العضد في ( المواقف ) البحث في هذه الآية ، ونقل شبه المنكرين فيها ، وأجاب عنها . ونحن ، لنفاسته ، ننقل كلامه مع شرحه للسيد الشريف قدس سره ، وبعض حواشيه ، ونصه : الأولى : من شبه المنكرين للرؤية السمعية قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } : 1 - والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية . فمعنى قولك : أدركته ببصري ، معنى : رأيته . لا فرق إلا في اللفظ . أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر ، فلا يجوز : رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه . فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة ، في جميع الأوقات ، لأن قولك : فلان تدركه الأبصار ، لا يفيد عموم الأوقات ، فلا بد أن يفيده ، ما يقابله ، فلا يراه شيء من الأبصار ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، لما ذكرنا . 2 - ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى ، فإنه ذكره في أثناء المدائح . وما كان من الصفات عدمه مدحاً ، كان وجوده نقصاً ، يجب تنزيه الله عنه ، فظهر أنه يمتنع رؤيته ، وإنما قلنا : ( من الصفات ) احترازاً عن ( الأقفال ) ، كالعفو والانتقام ، فإن الأول فضل ، والثاني عدل ، وكلاهما كمال . والجواب : أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه : الأول : أن الإدراك هو الرؤية ، على نعت الإحاطة بجوانب المرئيّ ، إذ حقيقته النيل والوصول ، و { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] أي : ملحقون ، و ( أدركت الثمرة ) أي : وصلت إلى حد النضج و ( أدرك الغلام ) أي : بلغ . ثم نقل إلى الرؤية المحيطة ؛ لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة . والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة ، أخص مطلقاً من الرؤية المطلقة . فلا يلزم من نفي المحيطة عن الباري سبحانه ، لامتناع الإحاطة ، نفي المطلقة عنه . وقوله : ( لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر ) ممنوع ، بل يصح أن يقال : رأيته وما أدركه بصري . أي : لم يحط به من جوانبه ، وإن لم يصح عكسه . الثاني : أن { تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } موجبة كلية ؛ لأن موضوعها جمع محلَّى باللام الاستغراقية . وقد دخل عليها النفي فرفعها . ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية . وبالجملة فيحتمل قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } إسنادُ النفي إلى الكل ، بأن يلاحظ أولاً دخول النفي ، ثم ورود العموم عليه ، فيكون سالبة كلية . ونفُي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولاً ، ثم ورود النفي عليه ، فيكون سالبة جزئية . ومع احتمال المعنى الثاني ، لم يبق فيه حجة لكم علينا ؛ لأن أبصار الكفار لا تدركه ، إجماعاً . هذا ما نقوله : لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق ، وإلا عكسنا القضية ، فادَّعَيْنا أن الآية حجة لنا وقلنا : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } سالبة مهملة في قوة الجزئية ، فالمعنى : لا تدركه بعض الأبصار ، وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض ، فالآية حجة لنا لا علينا . انتهى - لكن هذا إنما يستقيم إذا كانت المهملة مرادفة للجزئية . وكونها في قوتها لا يفيد المرادفة . ولهذا اعترض عليه بأن الجنس في حيّز النفي يفيد العموم اتفاقاً ، نحو : ما جاءني الرجل . وإنما الاحتمال لعموم السلب ، وسلب العموم عند قصد الاستغراق ، فكيف تعكس القضية على تقدير حمل اللام على الجنس ؟ ولو ثبت المرادفة لاندفع الاعتراض ، إذ تصير الآية حينئذ حجة لنا إلزامية ، حيث يرجع قيد البعضية إلى النفي ، كما أرجع المستدل قيد العموم ، على تقدير الاستغراق ، إليه . فتأمل ! كذا في حواشي الجلبي والشروانيّ . الثالث : من تلك الوجوه أنها - أي الآية - وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام ، فإنها لا تعم في الأزمان ، فإنها سالبة مطلقة لا دائمة ، ونحن نقول بموجبه ، حيث لا يرى في الدنيا . قال العلامة حسن جلبي : وما استدل به الخصم سابقاً على أنها دائمة ، من أن إيجابها لا يفيد عموم الأوقات ، فلا بد أن يفيده ما يقابله - فجوابُه : أنه إنما يتم إذا كان التقابل بينهما تقابل التناقض ، وهو ممنوع . فإن القضية الموجبة والسالبة ، الغير الموجهتين ، لم توضعا في العربية لمعنيين متناقضين ، بل لهما محامل يحملهما المستعمل حسب ما يريده . الرابع : منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ، ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه ، لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية ، نفياً للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعاً ، كما هو العادة ، فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقاً . وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو قوله : تمدح الباري بأنه لا يرى ، فنقول : هذا مدعاكم ، فأين الدليل عليه ؟ إن قلت : أشير فيما تقدم إلى دليله بأنه ذكر في أثناء المدائح ، والمذكور بينهما يجب أن يكون مدحاً - قلت : ذلك الدليل إنما يدل على التمدح بنفي المبصرية ، لا بنفي الرؤية ، والفرق قد سبق في الجواب الأول . انتهى . وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح ، لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته ، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية ؛ لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه ، إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى ، حيث لم يكن له ذلك ، وإنما المدح في عدم الرؤية للمتمنع المتعزز بحجاب الكبرياء ، كما في الشاهد . انتهى . وناقش الخيالي قولهم : ( لا مدح للمعدوم ) بأن عدم مدح المعدوم لاشتماله على معدن كل نقص أعني : العدم ، فإن أصل الممادح والكمالات هو الوجود ، وقد عرا عنه . كما أن الأصوات والروائح لا تمدح بمنع إمكان رؤيتها ، لكونها مقرونة بسمات النقص . قال : والحق أن امتناع الشيء لا يمتنع التمدح بنفيه ، إذ قد ورد التمدح بنفي الشريك ، ونفي اتخاذ الولد في القرآن ، مع امتناعهما في حقه تعالى . انتهى . ووافقه حسن جلبي في ( حواشي شرح المواقف ) ، لكنه أجاب بأن المدح بجهة لا يقتضي الكمال من جهات أخر ، وكذا النقصان من جهة لا ينافي المدح بغيرها . انتهى . وأجاب قره خليل بوجوه : الأول : أن مراد ذلك المستدل هو الإلزام على المعتزلة ، لا تحقيق الاستدلال على جواز الرؤية . الثاني : أن مبنى كلامه على العرف واللغة ، فإن أهلهما إذا أرادوا مدح شيء يقولون هذا الشيء مما لا تدركه الأبصار ، أو مما لا تراه العيون ، مع أنها مما تدركه عادة . فهذا القول منهم يدل على إمكان رؤية ذلك الشيء عادة ، بل على وقوعها أيضاً . بخلاف الأصوات والروائح ونحوها ، فإنها ليست مما تدركه الأبصار عادة ، فلا يحسن مدحها بعدم إدراك الأبصار ، أو بعدم رؤيتها . نعم ! إذا أرادوا مدح الأصوات يقولون : لم تسمعها أذن ، وإذا أرادوا مدح الروائح ، يقولون : لم يشمها أنف . الثالث : إنا قلنا : إن نفي الرؤية في مقام المدح يدل على إمكان الرؤية ، ولم نقل إن نفي كل شيء في مقام المدح يدل على إمكان ذلك الشيء ، حتى يرد علينا النقض بنفي الشريك ، أو بنفي اتخاذ الولد في مقام المدح ، مع أن إمكان المنفي في صورة النقض نقص ينافي الألوهية ، وإمكان المنفي فيما نحن بصدده ليس نقصاً ، بل هو كمال . انتهى . قال حسن جلبي : إن قيل : يلزم على ثبوت التمدح بنفي الرؤية ، تعززاً وتمنعاً ، ألا يزول ؛ لأن زوال ما به التمدح نقص ، فيلزم أن لا يرى في الآخرة . والجواب : أن ذلك فيما يرجع إلى الصفات . والتمدحُ بنفي الرؤية يرجع إلى التمدح بخلق ضدها ، وهو من قبيل الأفعال ، كما أن خلق الرؤية أيضاً منها . انتهى . وقد بيناه أولاً ، وسيأتي لذلك تتمة شافية إن شاء الله تعالى عند قوله سبحانه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] ، مما هو أعظم حجة ، وأوضح برهاناً ، والله الموفق . وقوله تعالى : { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ } أي : يرى جميع المرئيات ، ويبصر جميع المبصرات لا يخفى عليه شيء منها . { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ } أي : الذي يعامل عباده باللطف والرأفة ، { ٱلْخَبِيرُ } أي : العليم بدقائق الأمور وجلياتها . وجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها ، على طريقة اللف ، أي : لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف ، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير . قيل : فيكون ( اللطيف ) مستعاراً من مقابل الكثيف ، فشبه به الخفيّ عن الإدراك . وهذا بناء على أنه في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم . والتحقيق أن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم ؛ لأن الجسمية يلزمها الكثافة ، وإنما لطافتها بالإضافة ، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق ، الذي يجلّ عن إدراك البصائر ، فضلاً عن الأبصار ، ويعز عن شعور الأسرار ، فضلاً عن الأفكار ، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال ، وينزه عن حلول الألوان والأشكال . فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق ، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ، ويوصف بالنسبة إليه بالكثافة - كذا حققه البهائيّ في ( شرح الأسماء الحسنى ) . وقول الخفاجيّ : ( اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة ) ، لا يظهر له مناسبة هنا - مدفوعٌ بملاحظة أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } ذكر للتخويف ، كما أسلفنا ، وحينئذ يناسب أن يشفع ببيان رأفته ورحمته ، جرياً على سنن الترغيب والترهيب .