Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 38-38)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ } أي : مستقرة فيها ، لا ترتفع عنها { وَلاَ طَائِرٍ } يرتفع عنها إذ { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي : أصناف مصنفة في ضبط أحوالها ، وعدم إهمال شيء منها ، وتدبير شؤونها ، وتقدير أرزاقها . { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ } أي : ما تركنا ، وما أغفلنا ، في لوح القضاء المحفوظ ، { مِن شَيْءٍ } أي : جليل أو دقيق ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم ، لم يهمل فيه أمر شيء ، والمعنى : أن الجميع علمهم عند الله ، لا ينسى واحداً منها من رزقه وتدبيره . كقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] أي : مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانّها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها . { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني : الأمم كلها ، من الدوابّ والطير ، فينصف بعضهم من بعض ، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء . وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء . لإجرائها مجراهم . تنبيهات الأول : قال الزمخشري : إن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك ؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ، ولطف علمه ، وسعة سلطانه ، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس ، المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها وما عليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان . وقال الرازيّ : المقصود أن عناية الله لما كانت حاصلة لهذه الحيوانات ، فلو كان إظهار آية ملجئة مصلحة ، لأظهرها ، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية . وقال القاضي : إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار ، وبيّن أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون ، بيّن بعده قوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ … } إلخ ، أن البعث حاصل في حق البهائم أيضاً . الثاني : زيادة ( مِنْ ) في قوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ } لتأكيد الاستغراق . و ( فِي ) متعلقة بمحذوف هو وصف لـ ( دَابَّةٍ ) مفيد لزيادة التعميم . كأنه قيل : وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض . وكذا زيادة الوصف في قوله : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } . قال في ( الانتصاف ) : في وجه زيادة التعميم ، أن موقع قوله : { فِي ٱلأَرْضِ } و { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } موقع الوصف العام - وصفة العام عامة - ضرورة المطابقة ، فكأنه مع زيادة الصفة ، تضافرت صفتان عامتان . الثالث : قال الزمخشري : إن قلت : كيف قيل : ( الأمم ) مع إفراد الدابة والطائر ؟ قلت : لَمَّا كان قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ } دالاً على معنى الاستغراق ، ومغنياً عن أن يقال : وما من دوابّ ولا طير ، حمل قوله : { إِلاَّ أُمَمٌ } على المعنى . الرابع : دلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة ، وجاء في الحديث : " لولا أن الكلاب أمة من الأمم ، لأمرت بقتلها " - رواه أبو داود والترمذيّ عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه . الخامس : ما ذكرناه في معنى مماثلة الأمم لنا ، من تدبيره تعالى لأمورها ، وتكفله برزقها ، وعدم إغفال شيء منها ، مما يبين شمول القدرة ، وسعة العلم - هو الأظهر . موافقة لقوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا … } [ هود : 6 ] الآية - والقرآن يفسر بعضه بعضاً . ونقل الواحديّ عن ابن عباس أن المماثلة هي في معرفته تعالى ، وتوحيده وتسبيحه وتحميده . كقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] ، وقوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] . وعن أبي الدرداء قال : أبهمت عقول البهائم عن كل شيء ، إلا عن أربعة أشياء : معرفة الإله ، وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه . وقيل : المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس . أقول : لا شك في صحة الوجهين بذاتهما ، وصدق المثلية فيهما ، ولكن الحمل عليهما يُبعده عدم ملاقاته للآية الأخرى . فالأمسّ ، تأييداً للنظائر ، ما ذكرناه أولاً - والله أعلم - . السادس : ما بيناه في معنى ( الكتاب ) من أنه اللوح المحفوظ في العرش ، وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام - هو الأظهر ، لملاقاته للآية التي ذكرناها تأييداً للنظائر القرآنية . ولم يذكر الإمام ابن كثير سواه ، على توسعه . وقيل : المراد منه القرآن كقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] . قال الحفاجيّ : قيل : حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده . ويدفع بأن المعنى لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه ، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه ، ويكذب بآياتنا ؟ فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهة . وقال أبو السعود : أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته . قال الشهاب في قول البيضاويّ : ( فإنه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً ) : يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن ، لإشارته بنحو قوله : { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] إلى القياس . وقوله : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] بل قيل : إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه . كما سأل بعض الملحدين بعضهم عن طبخ الحلوى . أين ذكر في القرآن ؟ فقال : في قوله تعالى : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ، والأنبياء : 7 ] . واستظهر الرازيّ : أن المراد ( بالكتاب ) : القرآن ؛ واحتج بأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد ، انصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن . فوجب أن يكون المراد من ( الكتاب ) في هذه الآية القرآن . إذا ثبت هذا ، فلقائل أن يقول : كيف قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ } مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب ، وتفاصيل علم الحساب ، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم . وليس فيه أيضاً تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ؟ والجواب : أن قوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ } يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ، والإحاطة بها ، وبيانه من وجهين : الأول : أن لفظ : ( التفريط ) لا يستعمل نفياً وإثباتا ، إلا فيما يجب أن يبين ؛ لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه ، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه . الثاني : أن جميع آيات القرآن ، أو الكثير منها ، دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ، ومعرفة الله ، ومعرفة أحكام الله . وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن ، كان المطلق ههنا محمولا على ذلك المقيّد . أما قوله : إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع ، فنقول : أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه ، لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه . فأما روايات المذاهب ، وتفاصيل الأقاويل ، فلا حاجة إليها . وأما تفاصيل علم الفروع ، فقال العلماء : إن القرآن دل على أن الإجماع ، وخبر الواحد ، والقياس ، حجة في الشريعة . فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة ، كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن . وذكر الواحديّ رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة : المثال الأول : روي أن ابن مسعود كان يقول : ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه ؟ يعني : الواشمة والمستوشمة ؛ والواصلة والمستوصلة . وروي أن امرأة قرأت جميع القرآن ، ثم أتته ، فقالت : يا ابن أم عبد ! تلوت البارحة ما بين الدفتين ، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة ! فقال . لو تلوتيه لوجدتيه ، قال الله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] وإن مما آتانا به رسول الله أنه قال : " لعن الله الواشمة والمستوشمة " . قال الرازيّ : وأقول : يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك ، لأنه تعالى قال في سورة النساء : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } [ النساء : 117 - 118 ] فحكم عليه باللعن ، ثم عدّد بعده قبائح أفعاله ، وذكر من حملتها قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } [ النساء : 119 ] . وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن . انتهى . قلت : وتتمة الحديث تؤيد ذلك أيضاً . ولفظه : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله " رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن مسعود . ثم قال الرازيّ : المثال الثاني : ذكر أن الشافعيّ رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى . فقال رجل : ما تقول في المُحرم إذا قتل الزنبور ؟ فقال : لا شيء عليه . فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ فقال : قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] ثم ذكر إسناداً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال : للمحرم قتل الزنبور . قال الواحديّ : فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات . وأقول : ههنا طريق آخر أقرب منه ، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة . قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] . وقال : { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } [ محمد : 36 ] وقال : { لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة ، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة . وهذه العمومات تقتضي ألا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء ، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة . المثال الثالث : قال الواحديّ : " روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : اقض بيننا بكتاب الله . فقال عليه السلام : " والذي نفسي بيده ! لأقضين بينكما بكتاب الله " . ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف ، وبالرجم على المرأة إن اعترفت " قال الواحديّ : وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب . وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله ، قال الرازيّ : وهذا حق ؛ لأنه تعالى قال : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] ، وكل ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام كان داخلاً تحت هذه الآية . انتهى . وبالجملة ، فالقرآن الكريم كلية الشريعة ، والمجموع فيه أمور كليات ، لأن الشريعة تمت بتمام نزوله ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها ، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال . وقد جوّد البحثَ في هذه المسألة المهمة ، العلامة الشاطبيّ في ( الموافقات ) في الطرف الثاني ، في الأدلة على التفصيل . فارجع إليه . وقد نقلنا شذرة منه في مقدمة هذا التفسير . فتذكر ! السابع : قال أبو البقاء : ( مِنْ ) في قوله تعالى : { مِن شَيْءٍ } زائدة ، و ( شيء ) هنا واقع موقع المصدر ، أي : تفريطاً . وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحاً . ونظير ذلك : { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران : 120 ] ، أي : ضررا . وقد ذكرنا له نظائر . ولا يجوز أن يكون ( شيئاً ) مفعولا به ، لأن ( فَرَّطنا ) تتعدى بنفسها ، بل بحرف الجر ، وقد عديت بـ ( في ) إلى ( الكتاب ) ، فلا تتعدى بحرف آخر . ولا يصح أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ، لأن المعنى على خلافه ، فبان أن التأويل ما ذكرنا . انتهى . وقال الخفاجيّ : التفريط : التقصير . وأصله : أن يتعدى بـ ( في ) وقد ضمن هنا معنى ( أغفلنا وتركنا ) . فـ ( مِنْ شَيء ) في موضع المفعول به ، و ( مِنْ ) زائدة : والمعنى : ما تركنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائله الألوهية والتكاليف . هذا ما ارتضاه أبو حيان والزمخشريّ ، وعدل عنه البيضاويّ ؛ لأنه لا يتعدى ، فجعل التقدير ( تفريطاً ) فحذف المصدر ، وأقيم ( شيئاً ) مقامه ، وتبع فيه أبا البقاء ، إذ اختار هذا ، وأورد عليه في ( الملتقط ) أنه ليس كما ذكر ، لأنه إذا تسلط النفي على المصدر ، كان منفياً على جهة العموم ، ويلزمه نفي أنواع المصدر ، ونفي جميع أفراده ، وليس بشيء ، لأنه يريد أن المعنى حينئذ : أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن ، وهو مما لا شبهة فيه ، ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر حتى يحتاج إلى التأويل ، كما أن نفي تعديه لا يضر من قال إنه مفعول به على التضمين ، كما مر . وأما ما قيل : إن ( فرط ) يتعدى بنفسه ، لما وقع في القاموس ( فرط الشيء ، وفرط فيه تفريطاً ضيعه ، وقدم العجز فيه وقصر ) فلا نسلم أنه يتعدى بنفسه . وتفردُ صاحب القاموس بأمر ، لا يسمع في مقابلة الزمخشري وغيره . مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضعية ، بل مجازية ، أو بطريق التضمين - انتهى كلام الشهاب - . أقول : ما للمجد في القاموس ، ليس من تفرداته وعندياته ، إذ اللغة مرجعها السماع ، لا الاجتهاد . وموازنته بين الزمخشريّ وغيره ، من باب معرفة الحق بالرجال ، الذي الصواب عكسه . على أنه ليس في ( الكشاف ) ما يقتضي ما زعمه . وقد استشهد شارح القاموس ، الزبيديّ شاهدا على تعديته بنفسه ، تأييداً لكلام المجد ، قول صخر الغيّ : @ ذلك بَزِّي فلن أُفَرِّطَهُ أخاف أن يُنجزوا الذي وعدوا @@ قال ابن سيده : يقول : لا أضيعه ، وقوله : بزي ، أراد سلاحي . ثم قال الزبيديّ : وقال أبو عمرو : فرطتك في كذا وكذا ، أي : تركتك . وبه فسر أيضاً قول صخر . انتهى . وأنشد أبو السعود قول ساعدة جُؤَيَّة : @ * معه سِقاء لا يفرِّط حمله * @@ أي : لا يتركه . وبه يعلم سقوط ما لأبي البقاء ، وسقوط دعوى أن أصله أن يتعدى بـ ( في ) ودعوى التضمين السابقة ، وتكلف كون ( شيء ) واقعاً موقع المصدر . هذا وقُرئ : ( فَرَطْنَا ) بالتخفيف ، وهو بمعنى : المشدّد . وإنما توسعنا فيما روي على القول الثاني في معنى الكتاب ؛ لشهرة الآية في هذا المعنى ، وإن كان الأظهر الأول ، لما ذكرناه ، ولأن السورة مكية ، والأحكام فيها لم تتم - والله أعلم - . الثامن : دلت الآية على حشر الدوابّ والبهائم والطير كلها ، أي : بعثها يوم القيامة . كقوله تعالى : { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ] . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي شاتين تنتطحان ، فقال : " يا أبا ذر ، هل تدري فيم تنتطحان ؟ " قال : لا . قال : " لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما " ورواه عبد الرزاق وابن جرير ، وزاد : قال أبو ذر : ولقد تركنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وما يقلّب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما . وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجماء لتُقَصَّ من القرناء يوم القيامة " . وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في هذه الآية قال : " يحشر الخلق كلهم يوم القيامة : الدوابّ والبهائم والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً ! فلذلك يقول الكافر : " يا ليتني كنت تراباً " وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور . أفاده ابن كثير . قلت : روى الإمام أحمد ، والبخاريّ في ( الأدب المفرد ) ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتؤدَنّ الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقادَ للشاة الجلحاء ، من الشاة القرناء ، تنطحها " . وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال : حشرها : الموت . وروي عن مجاهد والضحاك مثله . والأول أظهر . التاسع : في الإكليل : استدل بهذه الآية على مسألة أخرى ، أخرجه أبو الشيخ عن أنس أنه سئل : من يقبض أرواح البهائم ؟ قال : ملك الموت . فبلغ الحسن فقال : صدق ! وإن ذلك في كتاب الله . ثم تلا هذه الآية .