Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 84-86)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَوَهَبْنَا لَهُ } أي : لإبراهيم عوضاً عن قومه ، لما اعتزلهم وما يعبدون ، { إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي : ولداً ، وولد ولد ، لتقر عينه ببقاء العقب { كُلاًّ هَدَيْنَا } أي : كلا منهما هديناه الهداية الكبرى ، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ مريم : 49 ] . قال ابن كثير : يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، وذلك بعد أن طعن في السن ، وأيس وامرأته سارة ، من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك : { قَالَتْ يَٰوَيْلَتَىٰ ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوۤاْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } [ هود : 72 - 73 ] ، فبشروهما فتعجبت ، وبشروهما مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلا وعقباً ، كما قال تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] . وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة . وقال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، أي : ويولد هذا المولود وَلَدٌ في حياتكما ، فتقرّ أعينكما به ، كما قرت بوالده ، وإن الفرح بولد الولد شديد ، لبقاء النسل والعقب . ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ، وقعت البشارة به ، وبولد اسمه يعقوب . الذي فيه اشتقاق العقب والذرية . وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم ، وهاجر من بلادهم ، ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين ، من صلبه ، على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ … } [ مريم : 49 ] الآية . { وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } أي : من قبله ، هديناه كما هديناه ، وعدّ هداه نعمة على إبراهيم ، من حيث إنه أبوه ، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد . قال ابن كثير : كل منهما له خصوصية عظيمة . أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض ، إلا من آمن به ، وهم الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته ، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام ، فلم يبعث الله عز وجل بعده نبياً إلا من ذريته ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] الآية ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } [ الحديد : 26 ] ، وقال تعالى : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] . وقوله تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } الضمير لإبراهيم أو لنوح ، على ما يأتي ، { دَاوُودَ } عطف على { وَنُوحاً } أي : وهدينا { دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } . اعلم أن المقصود من هذه الآيات ، وما قبلها ، وما يلحقها ، تعديد أنواع نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون ، وقيامه بنصرة التوحيد ، ودحض الشرك . فذكر تعالى أولا رفع درجته ، بإيتائه الحجة على قومه ، وتخصيصه بها ، ثم جعله عزيزاً في الدنيا ، حسبا ونسبا ، أصلا وفرعا ، لأنه تولد من نوح أول المرسلين رسالة عامة ، ووهبت له الذرية الطاهرة ، أنبياء البشر . ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } لإبراهيم ، لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة ، كأنه قيل : ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود … إلخ ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات . وذكر نوح عليه السلام ؛ لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم . والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين . ولا يقال : إن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه ؛ لأنه يقال : إن العرب تجعل العمّ أبا ، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا : { نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] ، مع إن إسماعيل عم يعقوب ، ودخل في آبائه تغليباً . وقال محيي السنة رحمه الله تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } أي : ذرية نوح صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم ، وكان من الأسباط ، في زمن شعياء ، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل . وقال : إن لوطاً عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، آمن بإبراهيم ، وشخص معه مهاجراً إلى الشام ، فأرسله الله إلى أهل سدوم . ومن قال : الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم ، يقدّر : ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا . لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر . وذكر نوح لتعظيم إبراهيم . ولذلك ختم بيونس ولوط ، وجعلهما معطوفين على { وَنُوحاً هَدَيْنَا } من عطف الجملة على الجملة . وصاحب ( الكشف ) أخرج ( إلياس ) صلى الله عليه وسلم . وليس كذلك . لما في ( جامع الأصول ) عن الكسائيّ ، أنهما من ذريته . فبقي لوط خارجاً . ولما كان ابن أخيه آمن به ، وهاجر معه ، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب - كما ذكره الطيبيّ - . وبالجملة ، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين ؛ لأن شرف الذرية ، وشرف الأقارب شرف ، لكنه على الأول أظهر ، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى . تنبيهات الأول : قال الحافظ ابن كثير : في ذكر عيسى عليه السلام ، في ذرية إبراهيم أو نوح ( على القول الآخر ) دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ؛ لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام . وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبيّ صلى الله عليه وسلم ، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ ! قال : أليس تقرأ سورة الأنعام { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ … } حتى بلغ { وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ } قال : بلى ! قال : أليس من ذرية إبراهيم ، وليس له أب ؟ قال صدقت ! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته ، أو وقف على ذريته ، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم ، فأما إذا أعطى الرجل بنيه ، أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه ، وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر : @ بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ @@ وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيهم ، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن عليّ : " إن ابني هذا سيّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " فسماه ( ابناً ) فدل على دخوله في الأبناء ، وقال آخرون : هذا تجوّزٌ . انتهى . وفي ( العناية ) : أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية ، بأن عيسى عليه السلام ليس له أب ، يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه ، فلا يظهر قياس غيره عليه . والمسألة مختلف فيها ، والقائل بها استدل بهذه الآية ، وآية المباهلة ، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل : { نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ } [ آل عمران : 61 ] . إن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم . انتهى . الثاني : إنما لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق ، بل أخّر ذكره عنه ؛ لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم . ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون ، إلى عبادة الله وحده ، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ، ومنها إيتاؤه أولادا أنبياء . فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يُذكر في هذا المعرض ؛ ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق - أفاده الرازيّ - . الثالث : اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبياً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب ، لا بحسب الزمان ؛ ولا بحسب الفضل ؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب . ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب ، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولا نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء ، وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً . ثم من المراتب المعتبرة ، بعد النبوة ، الملك والقدرة والسلطان . وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظاً وافراً . ومن المراتب : الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد ، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام ، ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما ، وهو يوسف عليه السلام ، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة . ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات ، وقوة البراهين ، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر . ثم من المراتب المعتبرة : الزهد في الدنيا ، والإعراض عنها ، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام ، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين . ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء مَن لم يبق له أتباع ولا شريعة ، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط . فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه ، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر ، والله أعلم بمراده ، وأسرار كتابه - أفاده الخازن وأصله للرازيّ - . الرابع : استدل بقوله تعالى : { وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة ؛ لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى ، فيدخل فيه الملَك . الخامس : نكتة ذكر ( الهداية ) في قوله تعالى : { كُلاًّ هَدَيْنَا } هو تعديد النعم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بشرف الأصول والفروع - كما أسلفنا - والولد لا يُعدّ نعمة ما لم يكن مهدياً . السادس : قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : استدل بقوله تعالى : { كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا } من أنكر إفادةَ التقديم الحصرَ .