Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 98-98)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ } يعني : آدم عليه السلام { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } قُرئ { مُسْتَقَرٌّ } بفتح القاف وكسرها ، وأما ( مُسْتَودَعٌ ) فبفتح الدال لا غير . وهما على الأول ، إما مصدران ، أي : فلكم استقرار واستيداع ؛ أو اسما مكان ، أي : موضع استقرار واستيداع . والاستقرار إما في الأصلاب ، أو فوق الأرض ، لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [ البقرة : 36 ] أو في الأرحام ، لقوله تعالى : { وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ } [ الحج : 5 ] أو الاستيداع في الأرحام ، فجعل الصلب مستقرّ النطفة ، والرحم مستودعها ، لأنها تحصل في الصلب ، لا من قبل شخص آخر ، وفي الرحم من قبل الأب ، فأشبهت الوديعة ، كأنّ الرجل أودعها ما كان عنده ، أو في الأصلاب ، أو تحت الأرض ، أو فوقها ، فإنها عليها ، أو وضعت فيها لتخرج منها مرة أخرى كقوله : @ وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائعُ @@ ونقل الرازيّ عن الأصمّ أن المستقر من خُلِقَ من النفس الأولى ، ودخل الدنيا واستقر فيها . والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق . وجعل أبو مسلم الأصفهانيّ ( المستقر ) كناية عن الذَّكرَ ، و ( المستودع ) كناية عن الأنثى . قال : إنما عبر عن الذكر بـ ( المستقر ) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه ، وإنما تستقر هناك . وعبر عن الأنثى بـ ( المستودع ) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة - والله أعلم - . وعلى قراءة : ( مستقِر ) بكسر القاف اسم فاعل ، أي : فمنكم قارّ ، ومنكم مستودع . ووجه كون الأول معلوماً ، والثاني مجهولاً ، كون الاستقرار صادراً منّا دون الاستيداع . قال الرازيّ : مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام . ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول : الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية ، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع . والاختلاف في تلك الصفات لا بدّ له من سبب ومؤثّر ، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها ، وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات ، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم . ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى : { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } [ الروم : 22 ] . { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } قال الزمخشري : فإن قلت ، لِمَ قيل ( يعلمون ) مع ذكر النجوم ، و ( يفقهون ) مع ذكر إنشاء بني آدم ؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة ، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً . فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر ، مطابقاً له . انتهى - وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة . ومن قال : إنه الفهم مطلقاً ، وليس بأبلغ من العلم - قال : إنه تفنن ، حذرا من صورة التكرير . قال الناصر في ( الانتصاف ) : جواب الزمخشريّ صناعيّ ، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت ، ولا سبيل إلى الحقيقة . قال : والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيهاً على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة ، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ ، لما في ذلك من التكرار ، فعدل إلى فاصلة مخالفة ، تحسيناً للنظم ، واتساقاً في البلاغة . ويحتمل وجهاً آخر في تخصيص الأولى بالعلم ، والثانية بالفقه . وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ، ولا يعتبر بمخلوقاته ، وكانت الآيات المذكورة أولاً خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها ، إذ النجوم والنظر فيها ، وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها ، أمر خارج عن نفس الناظر . ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة ، وتقلباتهم في أطوار مختلفة ، وأحوال متغايرة ، فإنه نظرٌ لا يعدو نفس الناظر ، ولا يتجاوزها . فإذا تمهد ذلك ، فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله ، وعدم النظر فيها والتفكر ، أبشعُ من جهله بالأمور الخارجة عنه ، كالنجوم والأفلاك ، ومقادير سيرها وتقلبها . فلما كان الفقه أدنى درجات العلم ، إذ هو عبارة عن الفهم ، نُفِيَ من أبشع القبيلين جهلا ، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ، ونفُي الأدنى أبشع من نفي الأعلى درجة ، فخص به أسوأ الفريقين حالا . و ( يفقهون ) ههنا مضارع فَقِهَ الشيء - بكسر القاف - إذا فهمه ، ولو أدنى فهم . وليس من ( فقه ) بضم القاف ؛ لأن تلك درجة عالية ، ومعناه صار فقيها - قاله الهرويّ في معرض الاستدلال على أن ( فقه ) أنزل من ( علم ) . وفي حديث سلمان أنه قال ، وقد سألته امرأة جاءته : فَقِهَتْ أي : فَهِمَتْ ، كالمتعجب من فهم المرأة عنه . وإذا قيل : فلان لا يفقه شيئاً كان أذمّ في العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئاً . وكأن معنى قولك : ( لا يفقه شيئا ) ليست له أهلية الفهم وإن فهِّم . وأما قولك : ( لا يعلم شيئاً ) فغايته نفي حصول العلم له ، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم ، لو يعلّم . والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى : { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 20 - 21 ] فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات ، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكاراً مستأنفاً . وقولنا ، في أدراج الكلام : ( إنه نفي العلم عن أحد الفريقين ، ونفي الفقه عن الآخر ) يعني : بطريق التعريض ، حيث خص العلم بالآيات المفصلة ، والتفقه فيها بقومٍ . فأشعر أن قوماً غيرهم لا علم عندهم ، ولا فقه - والله الموفق - فتأمل هذا الفصل ، وإن طال بعض الطول . فالنظر في الحسن غير مملول . انتهى . وهذا من دقة النظر في الكتاب العزيز ، وإبراز محاسنه ولطائفه . ثم بين تعالى حجة كبرى على كمال قدرته ، ومنة أخرى من جسيم نعمته بقوله : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ … } .