Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 60, Ayat: 3-3)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ } أي : قراباتكم { وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أي : بإثابة المؤمنين ، ومعاقبة العاصين . وقال القاشانيّ : أي : لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله ؛ لأن القيامة مفرقة . وهذا معنى قوله : { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أي : يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } [ عبس : 34 - 36 ] انتهى ، وهو تأويل جيد . لطيفة قال السمين : يجوز في { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } وجهان : أحدهما : أن يتعلق بما قبله ، أي : لن تنفعكم يوم القيامة ، فيوقف عليه ، ويبتدأ بـ { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } . الثاني : أن يتعلق بما بعده أي : يفصل بينكم يوم القيامة ، فيوقف على { أَوْلاَدُكُمْ } ، ويبتدأ بـ { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فيجازيكم عليه . تنبيهات الأول : قال ابن جرير : ذكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة ، نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة ، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم - ثم ساق الروايات . وأما رواية البخاريّ فعن عليّ رضي الله عنه قال : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها " ، فذهبنا تَعَادَى بنا خيلنا ، حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي من كتاب ! فقلنا : لتخرِجنَّ الكتاب ، أو لنُلْقِيَنّ الثياب . فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ، يخبرهم ببعض أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما هذا يا حاطب ؟ " قال : لا تعجل عليّ يا رسول الله ! إني كنت امرءاً من قريش ، ولم أكن من أنفسهم . وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي . وما فعلت ذلك كفراً ، ولا ارتداداً عن ديني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه قد صدقكم " فقال عمر : دعني يا رسول الله فأضرب عنقه ! فقال : " إنه شهد بدراً ، وما يدريك ، لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ! " " . قال عمرو بن دينار - راوي الحديث - ونزلت فيه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي … } [ الممتحنة : 1 ] الآيات . قال ابن كثير : كان حاطب هذا رجلاًً من المهاجرين ، ومن أهل بدر ، وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم ، بل كان حليفاً لعثمان . فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة ، لمّا نقض أهلها العهد ، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهزّ لغزوهم وقال : " اللهم عمّ عليهم خبرنا " فعمد حاطب هذا ، فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يداً - كما ذكر في الحديث . الثاني : قال ابن كثير : يعني تعالى بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [ الممتحنة : 1 ] : المشركين والكفار ، الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين ، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء ، كما قال تعالى : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] ، وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد . وقال تعالى : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 57 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } [ النساء : 144 ] وقال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب ، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش ، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد . انتهى . أي أنه قبل عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة ، وإن أخطأ . والمجتهد المخطئ معذور . وقد تبيّن خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله الذي لأجله نزلت السورة . ولذا قال الإمام إلكِيَا الهَرَّاسي : يؤخذ من الآية : أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله . وهو ظاهر ، وليس هذا من التقية ؛ لأنها في موضوع آخر . وقد بسط الكلام على الولاء والبراء السيد ابن المرتضى في ( إيثار الحق ) في المسالة الثامنة . قال : ( بعد أن أورد الآيات والأحاديث ) : هذا كله في الحب الذي هو في القلب ، والمخالصة لأجل الدين ، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع ، وللمسلمين الموحّدين ، إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة . وأما المخالفة والمنافعة وبذل المعروف ، وكظم الغيظ ، وحسن الخلق ، وإكرام الضيف ، ونحو ذلك ، فيستحب بذله لجميع الخلق ، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة ، فلا يبذل للعدو في حال الحرب ، كما أشارت إليه الآية { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ } [ الممتحنة : 8 ] - كما يأتي - وأما التقية ، فتجوز للخائف من الظالمين القادرين . وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء ، فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز ، وهو المنافعة ، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة . وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام . ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى ، يحيى بن المحسن عليه السلام في ( الرسالة المخرسة ، لأهل المدرسة ) : لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه ؛ لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك ، فتولّى الناصر الكثير منهم ، وصلى بهم الجمعةَ جعفرُ الصادق ، وصلى الحسن السبط على جنائزهم . وذكر الإمام المهديّ محمد بن المطهّر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع ، هي موالاة الكافر لكفره ، والعاصي لمعصيته ، ونحو ذلك . قال السيد : وهو كلام صحيح ، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة ، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله : { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ] ومنها قوله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ … } [ الممتحنة : 8 - 9 ] الآيتين ، وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء ، بعد آيات التحريم ، رواه أحمد والبزار والواحديّ ، وتأخرهما واضح في سياق الآيات ، وقرينة الحال مع هذا الحديث . ولو لم يصح تأخر ذلك ، فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور . ورجحه ابن رُشد في ( نهايته ) بالنصوصية على ما هو خاص فيه . ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليهما من حديث عليّ عليه السلام في قصة حاطب ، على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة - هذه - وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره بالخوف على أهله في مكة ، والتقية فيما لا يضر في ظنه . فإن قيل : القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله : { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } [ الممتحنة : 1 ] فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره ؟ قلت : إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان ، وعدم موالاة المشركين لشركهم ، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ الممتحنة : 1 ] والعموم نص في سببه . فاتفق القرآن والحديث . وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم ، لقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } [ النساء : 83 ] ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع ، ومع إذنه يجوز ، فقد أذن في أكثر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيلة في حفظ المال . فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم . فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم ، لما فيه من الخيانة لا نفس الفعل لو تجرد من الكتم والخيانة - والله أعلم - انتهى . ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودّد بذلك إليهم ، والمناصحة لهم مما يشفّ عن كون الآتي بذلك متزلزلاً في عقده ، مضطرباً في حقه ، فيصبح عمله حجة على دينه ، ويكون ذلك سبباً لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم . وهذا هو السر في الحقيقة ، كما بينه آية { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الممتحنة : 5 ] . وسيأتي بيانه . ثم علّم الله تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم ، بقوله سبحانه : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } .