Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 66, Ayat: 11-12)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي : من عملهم وعذابهم { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي : حفظته وصانته { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } يعني : جبريل عليه السلام ، أو من روح خلقناه بلا توسيط ، وهو عيسى عليه السلام { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أي : بصحفه المنزلة من عنده { وَكُتُبِهِ } أي : الموحاة . والعطف للتفسير ، أو الكلمات أعم من المكتوب والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة ، والكتب خاصة بالمحفوظ من الأسفار . { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } أي : من المواظبين على الطاعة لله ، والخضوع لأحكامه . والتذكير للتغليب . تنبيهات الأول : قال الزمخشري : مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم ، من غير إبقاء ولا محاباة ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم من لحمة نسب ، أو وصلة صهر ؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله ، قطع العلائق ، وبت الوصل ، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر ، نبياً من أنبياء الله - بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما ، بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج ، إغناء ما من عذاب الله . ومثل حال المؤمنين في وصلة الكافرين لا تضرهم ، ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله - بحال امرأة فرعون ، ومنزلتها عند الله تعالى ، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، الناطق بالكلمة العظمى . ومريم ابنة عمران ، وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أن قومها كانوا كفاراً . وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ، لما في التمثيل من ذكر الكفر . ونحوه في التغليظ قوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ } [ آل عمران : 97 ] . وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين . والتعريض بحفصة أرجح ؛ لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله . وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب ، بالغة من اللطف والخفاء حداً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره . انتهى . الثاني : قال الإمام ابن القيم في ( أعلام الموقعين ) : اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال : مثل للكفار ، ومثلين للمؤمنين . فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب ، أو وصلة صهر ، أو سبب من أسباب الاتصال . فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة ، إلا ما كان منها متصلاً بالله وحده على أيدي رسله ، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان ؛ لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما . فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين . قطعت الآية حينئذٍ طمع من ركب معصية الله ، وخالف أمره ، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال . فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية ، ولم يغن نوح عن ابنه ، ولا إبراهيم عن أبيه ، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئاً . قال تعالى : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } [ الممتحنة : 3 ] : وقال تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [ الانفطار : 19 ] وقال تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ، 123 ] وقال : { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } [ لقمان : 33 ] وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة ؛ أن من تعلقوا به من دون الله ، من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة ، أو يجيرهم من عذاب الله أو يشفع لهم عند الله . وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الذي بعث الله جميع رسله ، وأنزل جميع كتبه بإبطاله ، ومحاربة أهله ومعاداتهم . وأما المثلان اللذان للمؤمنين : فأحدهما امرأة فرعون ، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئاً إذا فارقه في كفره وعمله ، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئاً في الآخرة ، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله ، فتأتي عامة . فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به ، وهو أكفر الكافرين ، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ، وهما رسولا رب العالمين . المثل الثاني للمؤمنين : مريم ، التي لا زوج لها ، لا مؤمن ولا كافر . فذكر ثلاثة أصناف النساء : المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح ، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر ، والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد . فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها ، والثانية لا تضرها وصلتها وسببها ، والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئاً . ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة ، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، والتحذير من تظاهرهن عليه ، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ، ويردن الدار الآخرة ، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ؛ ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة . قال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة . ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة . وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم اعتبار آخر : وهو أنها لم يضرها عند الله شيئاً ، قذفُ أعداء الله اليهود لها ، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله عنه ، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين ، فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه . وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك ، وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها . كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم . فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن ، والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه . وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون . انتهى . الثالث : قال القاشاني : بين تعالى أن الوصل الطبيعية ، والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية . بل المحبة الحقيقية ، والاتصالات الروحانية ، هي المؤثرة فحسب . والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت ، ولا تكون إلا في الدنيا ، بالتمثيلين المذكورين . وإن المعتبر في استحقاق الكرامة عند الله هو العمل الصالح ، والاعتقاد الحق ، كإحصان مريم ، وتصديقها بكلمات ربها ، وطاعتها المعدة إياها لقبول نفخ روح الله فيها . وقد يلوح بينهما أن النفس الخائنة التي لا تفي بالطاعة ، ولا تحفظ الأسرار ، وتبيح المخالفة داخلة في نار الحرمان ، وجحيم الهجران مع المحجوبين ، ولا تغني هداية الروح عنها شيئاً من الإغناء في باب العذاب . وأن القلب المقهور تحت استيلاء النفس الأمارة الفرعونية ، والطالب للخلاص بالالتجاء إلى الحق الذي قويت فيه قوة محبة الله لصفائه ، وضعفت قوة قهره للنفس والشيطان لعجزه وضعفه ، لا يبقى في العذاب بمجاورتها حيناً ، وتألم بأفعالها برهة ، وأن النفس المتزينة بفضيلة العفة المشار إليها بإحصان الفرج ، هي القابلة لفيض روح القدس . المتنورة بنور الروح المصدقة بكلمات الرب من العقائد الحكمية ، والشرائع الإلهية ، المطيعة لله مطلقاً علماً وعملاً ، سراً وجهراً . انتهى ملخصاً . الرابع : في ( الإكليل ) : استدل بقوله تعالى : { ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } على صحة أنكحة الكفار . أقول : ويستدل بقوله تعالى : { ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ } [ التحريم : 10 ] إلى قوله : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية ، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع . وهو جلي . ويستدل بذلك أيضاً على أن نكاح المشركات كان جائزاً في شرع من قبلنا ، وقد حظره الإسلام أشد الحظر ، كما مر في آيات عديدة . الخامس : قال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون : { رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } قال العلماء : اختارت الجار قبل الدار ، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع . السادس : قال الزمخشري : في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله ، والالتجاء إليه ، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين ، وسنن الأنبياء والمرسلين { فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 118 ] . { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } [ يونس : 85 - 86 ] .