Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 34-43)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } أي : في الكرامة والمثوبة الحسنى ، والعاقبة الحميدة . { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي : بما ينبو عنه العقل السليم ، فإنهما لا يستويان في قضيته . { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } أي : من الأمور لأنفسكم ، وتشتهونه لكم ، كقوله : { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } [ فاطر : 40 ] وهذا توبيخ لهم وتقريع فيما كانوا يقولون من الباطل ، ويتمنون من الأماني الكاذبة { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي : تقضون من أمانيكم ومزاعمكم . قال الزمخشري : يقال : لفلان علي يمين بكذا ، إذا ضمنته منه ، وحلفت له على الوفاء به . يعني : أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد . و { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } جواب القسم ! لأن معنى { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا } أم أقسمنا لكم . فـ { بَالِغَةٌ } - كما قال الشهاب - معناه المراد منه ، متناهية في التوكيد . وأصله بالغة أقصى ما يمكن ، فحذف منه اختصاراً ، وشاع في هذا المعنى { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ } أي : الحكم { زَعِيمٌ } أي : كفيل به ، يدعيه ويصححه . { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } أي : ناس يشاركونهم في هذا الزعم ، ويوافقونهم عليه . { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أي : في دعواهم . قال الزمخشري : يعني : أن أحداً لا يسلم لهم بهذا ، ولا يساعدهم عليه ، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد به عند الله ، ولا زعيم لهم يقوم به . ففيه تنبيه على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل . { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } قال ابن عباس : أي : عن أمر شديد مفظع من هول يوم القيامة . ألا تسمع العرب تقول : شالت الحرب عن ساق ؟ - رواه ابن جرير . { وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } أي : لما أحاط بهم من العذاب الهائل الحائل . { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : تغشاهم ذلة العصيان السالف لهم . { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ } أي : لا مانع يمنعهم منه . والمراد من السجود : عبادة الله وحده ، وإسلام الوجه له ، والعمل بما أمر به من الصالحات . تنبيه ما أثرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى : { عَن سَاقٍ } هو المعنى الظاهر المناسب للتهويل المطرد في توصيف ذلك اليوم في أمثال هذه الآية ، وعليه اقتصر الزمخشري ، وعبارته : الكشف عن الساق ، والإبداء عن الخدام ، مثل في شدة الأمر ، وصعوبة الخطب . وأصله في الروع والهزيمة ، وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب ، وإبداء خدامهن عند ذلك . قال حاتم : @ أخو الحرب ، إن عضَّتْ به الحربُ عَضَّها وإنَ شَمَّرَتْ عن ساقها الحربُ شَمَّرا @@ وقال ابن الرقيات : @ تُذْهِلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدِي عن خِدَامِ العقيلةِ العذراءِ @@ وجاءت منكرة للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، منكر خارج عن المألوف كقوله : { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } [ القمر : 6 ] ، كأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل . وقال أبو سعيد الضرير : أي : يوم يكشف عن أصل الأمر . وساق الشيء : أصله الذي به قوامه ، كساق الشجر وساق الإنسان . أي : تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها . فالساق بمعنى : أصل الأمر ، وحقيقته . استعارة من ساق الشجر ، وفي ( الكشف ) تجوز آخر ، أو هو ترشيح له . وقال الإمام ابن حزم رحمه الله في ( الفِصَل ) : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة " أن الله عز وجل يكشف عن ساقه ، فيخرون سجداً " فهذا كما قال الله عز وجل في القرآن : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ } وإنما هو إخبار عن شدة الأمر ، وهول الموقف ، كما تقول العرب : قد شمرت الحرب عن ساقها . قال جرير : @ ألا رب سامي الطرف من آل مازنٍ إذا شَمّرَتْ عن ساقها الحربُ شَمَّراً @@ والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح . وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصاً ، ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به . وقد عاب الله هذا فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [ يونس : 39 ] انتهى . هذا وقد ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن الآية وعيد دنيوي للمشركين ، لا أخروي . قال : إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ؛ لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم : { وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ } [ القلم : 42 ] ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه : إما آخر أيام الرجل في دنياه ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ } [ الفرقان : 22 ] ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة ؛ لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها . وإما حال الهرم والمرض والعجز . وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود ، وهم سالمون مما بهم الآن ، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، أو من العجز والهرم . ونظير هذه الآية قوله : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } [ الواقعة : 83 ] انتهى . قال الرازي : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم . فأما قوله إنه لا يمكن حمله على القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل ههنا ، والتكاليف زائلة يوم القيامة ، فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل ، فلم قلتم إن ذلك غير جائز ؟ ثم تأثر تعالى تخويفهم بعظمة يوم القيامة ، بترهيبهم بما عنده وفي قدرته ، من القهر ، فقال سبحانه : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ … } .