Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 9-9)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي : حسناته في الميزان { فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم } بالعقوبة { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } أي : يكفرون . تنبيهات الأول : قال السيوطي في ( الإكليل ) : في هذه الآية ذكر الميزان ، ويجب الإيمان به . انتهى . وقال الإمام الغزاليّ في ( المضنون ) : تعلّق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور . وبالموت ينكشف الغطاء ، كما قال تعالى : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } [ ق : 22 ] ، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده ، وهي مقادير تلك الآثار ، وإن بعضها أشد تأثيراً من البعض ، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سبباً يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال ، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد . فحدّ الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ، ومثاله في العالم المحسوس مختلف ، فمنه الميزان المعروف ، ومنه القبان للأثقال ، والاصطرلاب لحركات الفلك والأوقات ، والمسطرة للمقادير والخطوط ، والعَروض لمقادير حركات الأصوات . فالميزان الحقيقيّ ، إذا مثله الله عز وجل للحواس ، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها . فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك ، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان . وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل ، وللخيال عند التمثيل ، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات ، والتصديقُ بجميع ذلك واجب . انتهى . الثاني : الذي يوضع في الميزان يوم القيامة . قيل : الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً . قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في ( الصحيح ) " أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان ، أو فرقان من طير صواف " . ومن ذلك في ( الصحيح ) : قصة القرآن ، " وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا القرآن الذي أسهرت ليلك ، وأظمأت نهارك . " ، وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر : " فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون ، طيّب الريح ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح " وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق . فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية ، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية ، مناسبة لها في الحسن والقبح . فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك ، وتتصور بصورة النار ، وعلى ذلك حمل قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 49 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } الآية [ النساء : 10 ] . وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة : " إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ولا بعد في ذلك . ألا يرى أن العِلْمَ يظهر في عالم المثال على صورة اللبن . وقيل : صحائف الأعمال هي التي توزن ، ويؤيده حديث البطاقة ، فقد أخرج أحمد والترمذي ، وصححه ، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً ، كل سجلّ منها مد البصر ، فيقول : أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا ، يا رب ! فيقول : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل ، فيقول : لا . يا رب ! فيقول : بلى . إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم . فيخرج له بطاقة فيها ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) فيقول : يا رب ! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم . فتوضع السجلات في كِفة ، والبطاقة في كِفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة " . وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث : " يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة " ، ثم قرأ : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [ الكهف : 105 ] . وفي مناقب عبد الله بن مسعود ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتعجبون من دقة ساقيه ؟ والذي نفسي بيده ! لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ " . قال الحافظ ابن كثير : وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار ، بأن يكون ذلك كله صحيحاً ، فتارة توزن الأعمال ، وتارة يوزن محلها ، وتارة يوزن فاعلها . والله أعلم - انتهى . قال أبو السعود : وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السويّ ، والحكم العادل . وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين ، بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية . قالوا : إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء . ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك ، لأنها أعراض قد فنيت ، وعلى تقدير بقائها ، لا تقبل الوزن - انتهى - وأصله للرازيّ . قال في ( العناية ) : فمنهم من أول الوزن بأنه بمعنى القضاء والحكم العدل ، أو مقابلتها بجزائها . من قولهم : وازنه ، إذا عادله . وهو إما كناية أو استعارة . بتشبيه ذلك بالوزن المتصف بالخفة والثقل ، بمعنى الكثرة والقلة . والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف . انتهى . فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل . قال في ( فتح البيان ) : وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه . بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة لأحد ، فهذا إذا لم تقبله عقولهم ، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم : من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى جاءت البدع كالليل المظلم ، وقال كلٌّ ما شاء ، وتركوا الشرع خلف ظهورهم . وليتهم جاؤوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها . بل كل فريق يدّعي على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه ، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم . يعرف هذا كل منصف . ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب ، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه . وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله : { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] وقوله : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 102 - 103 ] وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] وقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 8 - 9 ] . والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً مذكورة في كتب السنة المطهرة . وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما ، فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه ، مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق ، والصباح يغني عن المصباح - انتهى . وخلاصته ؛ أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت ، ولا تعذر هاهنا . الثالث : إن قلت : أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد ؟ فما الحكمة في وزنها ؟ قلت : فيه حكم : منها : إظهار العدل ، وإن الله عز وجل لا يظلم عباده . ومنها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى . ومنها : تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة . ومنها : إظهار علامة السعادة والشقاوة . ونظيره ؛ أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم ، من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى . كذا في ( اللباب ) . وقال أبو السعود : إن قيل : إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور ، فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها ، وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال ، بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه ، فما الفائدة في الوزن ؟ أجيب : بأنه ينكشف الحال يومئذ ، وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه ، وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح ، وغير ذلك . وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا ، فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها ، وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ، ولا يخطر بباله خلاف ذلك - انتهى . وقد سبقه إلى نحوه الرازي . ولما أمر تعالى أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم ، ونهاهم عن اتباع غيره ، وبيّن لهم وخامة عاقبته بالإهلاك في الدنيا ، والعذاب في الآخرة - ذكرهم فنون نعمه ترغيباً في اتباع أمره ونهيه ، فقال سبحانه : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ … } .