Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 72, Ayat: 1-2)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } أي : لهذا القرآن الحكيم . والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط - كما في ( المجمل ) . قال القاشاني : قد مر أن في الوجود نفوساً أرضية قوية ، لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها ، وقلة إدراكها ، ولا على هيآت النفوس الإنسانية واستعداداتها ، ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة ، الغالب عليها الأرضية ، ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي ، وتتجرد متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة ، غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها . سماها بعض الحكماء : الصور المعلقة ، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا . ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية ، أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب ، فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء ، فتسترق السمع من كلام الملائكة ، أي : النفوس المجردة . ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية ، تأثرت بتأثير تلك القوى ، فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها ، وإدراك مداها من العلوم . ولا ينكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك ، أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل ، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان ، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان ، الصادقون من الأنبياء والأولياء ، خصوصاً أكملهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم . انتهى . وفي الآية - كما قال القاضي - دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم ، ولم يقرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها ، فأخبر الله به رسوله . { فَقَالُوۤاْ } أي : لما رجعوا إلى قومهم { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً } قال المهايمي : أي : كتاباً جامعاً للحقائق الإلهية والكونية ، والأحكام والمواعظ ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين . { عَجَباً } أي : غريباً ، لا تناسبه عبارة الخلق ، ولا يدخل تحت قدرتهم . { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ } أي : إلى الحق وسبيل الصواب { فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } أي : من خلقه ، في العبادة معه . تنبيهات الأول : هذا المقام شبيه بقوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ } [ الأحقاف : 29 ] الآية ، وقد روى البخاري عن ابن عباس قال : " انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ؛ فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ؛ قال : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث ؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء ؛ قال : فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة ، وهو عامد إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له ، فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا ؛ { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } . وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } " وإنما أوحي إليه قول الجن . ورواه مسلم أيضاً وزاد في أوله : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق … إلى آخره . الثاني : قال الماوردي : ظاهر الآية أنهم آمنوا عند سماع القرآن . قال : والإيمان يقع بأحد أمرين : إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز ، وشروط المعجزة ، فيقع له العلم بصدق الرسول . أو يكون عنده علم من الكتب الأولى ، فيها دلائل على أنه النبي المبشر به ، وكلا الأمرين في الجن محتمل . انتهى . الثالث : قال الرازي : في الآية فوائد : أحدها : أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس ، فقد بعث إلى الجن . وثانيها : أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه ، فآمنوا بالرسول . وثالثها : أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس . ورابعها : أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ، ويفهمون لغاتنا . وخامسها : أن يظهر أن المؤمن منهم يدعوه غيره من قبيلته إلى الإيمان . وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس . انتهى . ولما سمعوا القرآن ، ووفِّقوا للتوحيد والإيمان ، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه ، واتخاذه صاحبة وولداً ، فاستعظموه ، ونزهوه عنه ، فقالوا : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا … } .