Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 75-75)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ مِنكُمْ } أي : من جملتكم ، أي المهاجرون والأنصار ، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة ، وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم . وهل المراد من قوله : { مِن بَعْدُ } هو من بعد الهجرة الأولى ، أو من بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية ، أو من بعد نزول هذه الآية ، أو من بعد يوم بدر ؟ أقوال - واللفظ الكريم يعمها كلها ، والتخصيص بأحدها تخصيص بلا مخصص . { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } أي : في حكمته وقسمته ، أو في اللوح ، أو في القرآن ؛ لأن ( كتاب الله ) يطلق على كل منها { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح . تنبيهات الأول : إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } وما بعده ، بالتوارث . أخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان الرجل يحالف الرجل ، ليس بينهما نسب فيرث أحدهما من الآخر ، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال : { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ … } الخ ، إلا أن في إسناده مَن فيه مقال . وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم ، فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض ، وذلك أن تلك الولاية ، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث ، بيّن الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة ، إلا ما خصه الدليل ، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم . قال الرازيّ : وهذا أولى ، لأن تكثير النسخ ، من غير ضرورة وحاجة ، لا يجوز . الثاني : استدل بالآية من ورّث ذوي الأرحام ، وهم من ليسوا بعصبات ، ولا ذوي سهام . قال : ويعضده حديث : " الخال وارث من لا وارث له " وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر اللهُ من ذوي السهام والعصبات . ومن الحديث : " من كان وارثه الخال فلا وارث له " وردّ بأنها عامة فلا موجب للتخصيص ، وبأن معنى الحديث : من كان لا وارث له غيره ، لحديث : " أنا عماد من لا عماد له " . ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب ، أو بالتنزيل ، وهل يرث القريب مع البعيد ، وهل يفضل الذكر على الأنثى أَوْ لا ؟ والآية محتملة . أفاده بعض مفسري الزيدية . قال ابن كثير : ليس المراد بقوله : { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال ، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، كما يزعمه بعضهم ، ويحتج بالآية ، ويعتقد ذلك صريحاً في المسألة . بل الحق أن الآية عامة ، تشمل جميع القرابات ؛ كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد ، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالإسم الخاص ، ومن لم يورّثهم يحتج بأدلة ، من أقواها حديث : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك ، لم يكن وارثاً . انتهى . ولا يخفى ضعف هذا الإستدلال ، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض ، على أن معنى الحديث ، أعطى كل ذي حق حقه مفصلاً ومجملاً ، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة ، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل . وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في ( تاريخ الوزراء ) في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات ، نأثرها هنا ؛ لأنها جمعت فأوعت ، قال رحمه الله : ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضديّ جواب كتابة إليه في أمر المواريث : وصل كتاب الأمير ، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجباً من مال المواريث لبيت المال ، ومالاً أراه واجباً منه ، وتلخيص ذلك وتبيينه - وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله . الناس مختلفون في توريث الأقارب ، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة - إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم - لجماعة من المسلمين وبيت مالهم . وكذلك يقول في الفصل بعد السهمان المسماة ، إذا لم تكن عصبة ، ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت . وقد خالفه عُمَر بن الخطاب ، وعليّ ابن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وجعلوا ما يفضل من السهمان رداً على أصحاب السهم من القرابة ، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه . والسنّة تعاضد ما روي عنهم ، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت . وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه . وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي . قال الله تعالى : { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 75 ] . فيصيّر القريب أولى من البعيد ، وإلى هذا ذهب عمر وعليّ وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة ، وعليه اعتمدوا ، وبه تمسكوا - والله أعلم . ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة ، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين ، وترك قبول من سواهم ممن لا يلحق بدرجتهم بسابقته . وإذا ردّ أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف ، فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيداً لا يفي علمه بعلم عمر وعليّ وعبد الله ؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة ، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت ، واطّراح ما روي عنهم ، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه ، وبالسنة فيما أفتوا به ؟ والرواية ثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة . فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهرويّ عن المقدام ابن معدي كرب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الخال وارث من لا وارث له يرث ماله ، ويعقل عنه " وكذلك بلغنا عن شَرِيك بن عبد الله عن ليث ، عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ، وعن ابن جريج عن عُمَر بن سلم عن طاوس عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك . وذكر عن عُبَادَة بن أبي عَبَّاد عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عُتْبَة عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : توفي ثابت بن أبي الدحداح ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي : " أله فيكم نسب ؟ " قال : فدفع تركته إلى ابن أخته . فقد أوجب عليه السلام ، بما نقلته عنه هذه الرواية ، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السُّهمان المبينة في الكتاب . وأعطى الجدة السدس من الميراث ، ولا فرض لها ، وفي ذلك الإتفاق ، وفيما صير لها من السدس ، دليل على أن مَنْ لا سهم له من القرابة في معناها ! إذا بطلت السهام ولم يكن من أهلها ، وأنه أولى بالميراث من الأجنبيّ . والمرويّ عن زيد بن ثابت أنه جعل المفضل عن سهام الفرائض ، وكل المال ، إذا سقطت السهام بعدم أهلها ، لجماعة المسلمين ، فجعلهم كلها وارثاً ، وجعل ما يصير لهم من ذلك - في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك - يكون فيما روي عنه للناس كافة ، وعددهم لا يحصى ، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض ، مشارقها ومغاربها . وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس يمكن ، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابرالأئمة . وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى : { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } [ الأنفال : 75 ] فقال فيه : كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة ، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب ، مُنع الحليف بما فرض من السهمان ، فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص ، فذلك غير واجب مع عدم الدليل ؛ لأن مخرجها في السمع مخرج العموم . وبعد ، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه ، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض ، لوجب في بدءٍ ، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما ، وعلى المقدم من حكمهما ؛ لأن الذي منعهما إذا ثبت هذه التأويل ( من له سهم ) دون ( من لا سهم له ) ، فإذا ارتفع المانع ، رجع الحكم إلى بدئه . ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم ، وإن كان لا وارث سواه ، وهذا يدل على فساد تأويلهم ، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه ، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد . وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد ، وترك الرواية عن عمر وعليّ وعبد الله عليهم السلام جانباً ، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب ، وأن يجعل ذا الرحم أولى ؛ لأنه لا يفضل الأجنبيّ بالقرابة . وترتيبُ المواريث في الأصل يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة ، كالأخ للأب والأم ، والأخ للأب ، وابن العم للأب والأم ، وابن العم للأب ، واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع ، قال الله تعالى : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } [ النساء : 11 ] ، وولد الولد ، من سفل منهم ومن ارتفع ، يعمهم هذا الاسم ، إلا أن الأقرب منهم ، في معنى الآية ، أحق من الأبعد ، فإذا كان ذلك كذلك ، كان القريب أولى من الأجنبيّ بالتركة للرحم التي يقرّب بها دونه . وبعد ، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة ، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعليّ صلوات الله عليهما ، وما روي عن ابن مسعود ، ثم لم يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم ، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، وترجمان القرآن ، وبحر العلم ، ومن كان إذا تكلم سكت الناس ، ومن دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " اللهم ! فقهه في الدين وعلمه التأويل " ، ودعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم مستجابة ، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب . وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعليّ وعبد الله والجماعة . وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين ، أعزه الله ، يستقضون الحكام ، فيقضون برد المواريث على الأقارب ، ولا ينكرون ذلك على مَنْ قضى به مِنْ قضاتهم ، ولا ترودنه متجاوزاً للحق فيه ، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة . وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف . واقتدى بخلفاء الله ، ومَالَ إلى أفضل المذهبين ، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير ، وتسديده ، والحمد لله رب العالمين . انتهى . ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث ، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة ، وأنه حكى فيه أن عُمَر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم ، رأوا أن يردّ على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث ، إذا لم يكن للمتوفى عَصَبة يحوز باقي ميراثه ، وجعلوا ، رضي الله عنهم ، تركة من يتوفى ولا عَصَبة له لذوي رحمه ، إن لم يكن له وارث سواهم ، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول : { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 75 ] . وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة . انتهى . الثالث : استدل بالآية الإماميةُ ، على تقديم الإمام عليّ كرم الله وجهه على غيره في الإمامة ، لاندراجها في عموم الأولوية . والجواب - على فرض صحة هذه الدلالة - أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة ؛ لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عليّ رضي الله عنه .