Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 85, Ayat: 1-9)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } أي : الكواكب والنجوم . شبهت بالبروج ، وهي القصور ، لعلوها . أو البروج منازل عالية في السماء . قال ابن جرير : وهو اثنا عشر برجاً . فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث فذلك ثمانية وعشرون منزلا . ثم يستتر ليلتين . ومسير الشمس في كل برج منها شهر . وأصل معنى البروج - كما قاله الشهاب : الأمر الظاهر من التبرج . ثم صار حقيقة في العرف للقصور العالية ؛ لأنها ظاهرة للناظرين . ويقال لما ارتفع من سور المدينة : ( برج ) أيضاً . فشبه على هذا - الفلك بسور المدينة وأثبت له البروج { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } أي : الذي وعد فيه العباد لفصل القضاء بينهم ، وذلك يوم القيامة { وَشَاهِدٍ } وهو كل ماله حس يشهد به { وَمَشْهُودٍ } وهو كل مُحَسّ يشهد بالحس . فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها . وتخصيصُ بعض المفسرين بعضاً مما يتناوله لفظهما ، لعله لأنه الأهم . أو الأَولى أو الأعرف والأظهر ، لقرينةٍ عنده . وإلا فاللفظ على عمومه ، حتى يقوم برهان على تخصيصه . { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } أي : قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم . على أن الجملة خبرية هي جواب القسم . أو دليل جوابه إن كانت دعائية . والتقدير : لتبلون كما ابتلي من قبلكم ، ولينتقمن ممن فتنكم كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود . قال الزمخشري : وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان ، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم ، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار ، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم ( قتلت قريش ) كما قيل : { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } والأخدود : الحفرة في الأرض مستطيلة . وقوله تعالى : { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } بدل من { ٱلأُخْدُودِ } و { ٱلْوَقُودِ } بالفتح الحطب الجزل الموقد به وأما { ٱلْوَقُودِ } بالضم فهو الإيقاد { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا } أي : على حافات أخدودها { قُعُودٌ } أي : قاعدون يتشفون من المؤمنين { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي : حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية ، وما تفعل بها النيران . لا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم . { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ } أي : وما أنكروا منهم ، ولا كان لهم ذنب إلا الإيمان بالله وحده . قال الراغب : نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته ؛ إما باللسان وإما بالعقوبة ، ومنه الانتقام { ٱلْعَزِيزِ } أي : الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام { ٱلْحَمِيدِ } أي : المحمود على إنعامه وإحسانه { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة أصحاب الأخدود وغيرهم ، شاهدٌ شهوداً لا يخفى عليه منه مثقال ذرة وهو مجازيهم عليه . وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى ، إشعار بمناط إيمانهم . فإن كونه تعالى قاهراً ومنعماً له ذلك الملك الباهر . وهو عليم بأفعال عبيده ، مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائر . وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم . وهو معروف في كتب المعاني . تنبيه روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال : هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض ، ثم أوقدوا فيها ناراً ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساءً ، فعرضوا عليها . وهكذا قال الضحاك : هم من بني إسرائيل أخذوا رجالاً ونساءً فخدوا لهم أخدوداً ، ثم أوقدوا فيه النيران ، فأقاموا المؤمنين عليها . فقالوا : تكفرون أو نقذفكم في النار . وقال مجاهد : كان الأخدود شقوقاً بنجران . كانوا يعذبون فيها الناس . وتفصيل النبأ - على ما في كتاب ( الكنز الثمين ) - إن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العَرِيّة عن شوائب الإلحاد ، لما دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها ، كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران . وكان أقام عليها ملك الحبشة أميراً من قبله نصرانيّاً مثله . وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع . ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن ، والإيقاع بمن تنصر ، بغضاً في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحيّ يملكهم . فأقاموا رجلاً يهودياً منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله . فأشهر ذلك اليهودي نفسه ملكا على بلاد سبأ . وجاء لمحاربة مدينة نجران ، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة . ولما دخلها قتل عدداً عظيماً من سكانها رجالاً ونساءً . كانت عدتهم - فيما يقال - ثلاثمائة وأربعين شهيداً . وأتي بذاك الراهب محمولا يحف به الجنود . وكان هرماً لا يقوى على المشي . فسئل عن عقيدته فأقر بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليه السلام فأمر بسفك دمه فقتل . وكذلك بقية الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جبن ولا تهيب ، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران . ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره . وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى ، والفرح بالشهادة ، ما أضحوا مثالاً وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه . سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له . لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين ، استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين . وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الخبر أراثا ورفقته . ويؤرخونها بعام ( 524 ) من التاريخ المسيحيّ ، وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها . والله أعلم .