Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 43-45)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المنافقين بالتخلف حين اعتلّوا بعللهم { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ، فإنهم قد كانوا مصرّين على القعود عن الغزو . ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله ، بقوله سبحانه : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } أي : لمنع إيمانهم به ، من مخالفته ، مع القدرة { وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } لمنع إيمانهم به من ترك تعويض الثواب والحياة الأبديين إذا أُمِروا { أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } أي : لأنهم يودون الجهاد بها قربة ، فيبذلونها في سبيله : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ } أي : فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم . ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء ، وعِدَةٌ لهم بأجزل الثواب . { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي : في ترك الجهاد بهما : { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته ، وهم المنافقون ، ولذا قال : { وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : فيما تدعوهم إليه ، أي : رسخ فيها الريب { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : ليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء . تنبيهات الأول : اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو ، دون ما يوهم العتاب ، من مراعاة جانبه عليه الصلاة والسلام ، وتعهده بحسن المفاوضة ، ولطف المراجعة - ما لا يخفى على أولي الألباب . قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف : بدأ بالعفو قبل ذلك المعفوّ . قال مكّي : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ } : افتتاح كلام مثل ( أصلحك الله وأعزك ) . وقال الداوديّ : إنها تكرمة . أقول : ويؤيد ذلك قول عليّ بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه : @ عفا الله عنك ألا حُرمةٌ تَعُوذُ بعفوك إن أُبْعَدَا ألم تر عبداً عدا طورَهُ ومولىً عفا ورشيداً هدَى أقلني أقالك من لم يَزَلْ يقيك ويصرف عنك الردى @@ وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب - غير صحيح . فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه . قال الشهاب : وهو يستعمل حيث لا ذنب ، كما تقول لمن تعظمه . عفا الله عنك ، ما صنعت في أمري ؟ وفي الحديث : " عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له " . وقال السخاونديّ : هو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، ولولا العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب . وقال القاضي عياض في ( الشفا ) : وأما قوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } فأمر لم يتقدم للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي ، فيعدّ معصية . ولا عدّه الله عليه معصية ، بل لم يعده أهل العلم معاتبة ، وغلّطوا من ذهب إلى ذلك . قال نفطويه : وقد حاشاه الله من ذلك ، بل كان مخيراً في أمرين : قالوا : وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي ، وكيف ؟ وقد قال الله تعالى : { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } [ النور : 26 ] فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى بما لم يطلع عليه من سرهم ، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس { عَفَا } هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق " ولم تَجِبْ عليهم قط ، أي : لم يلزمهم ذلك . ونحوه للقشيريّ قال : إنما يقول : ( العفو ، لا يكون إلا عن ذنب ) من لم يعرف كلام العرب ، قال : ومعنى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ } ، أي : لم يلزمك ذنباً . انتهى . وقد عدّ ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته . وللعلامة أبي مسعود مناقشة معه في ذلك ، أُورِدُها لبلوغها الغاية في البلاغة : قال رحمه الله : ولقد أخطأ وأساء الأدب ، وبئسما فعل فيما قال وكتب ، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئسما فعلت ، هب أنه كناية ، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب ، والتخفيف في العتاب ، وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة ، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة ( بئسما ) المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ، ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين ، أو منفعة للمسلمين ، بل كان فيه فساد وخبال ، حسبما نطق به قوله عزَّ وجلَّ : { لَوْ خَرَجُواْ … } [ التوبة : 47 ] الخ ، وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى : { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ … } [ التوبة : 46 ] الآية ، نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير ، ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد ، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم ، بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم ، وأرضوه بالأكاذيب . على أنه لم يهنأ لهم عيش ، ولا قرّت لهم عين ، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان ، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان . انتهى . قال الخفاجي : وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك ، فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه ، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية ، فلا خطأ فيه . قال رحمه الله : ولو اتقى هو والموجِّه موضع التهم - كان أولى وأحرى . انتهى . الثاني : استدل بالآية على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحياناً بالاجتهاد ، كما بسطه الرازي . قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : واستدل بها من قال : إن اجتهاده قد يخطئ ولكن ينبَّه عليه بسرعة . الثالث : قال الرازيّ : دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحق من التقريب أو الإبعاد . الرابع : قال أبو السعود : تغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دالّ على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام - للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وأن ما صدر من الآخرين ، وإن كان كذباً حادثاً متعلقاً بأمر خاص ، لكنه أمر جارٍ على عادتهم المستمرة ، ناشئ عن رسوخهم في الكذب . ودقق رحمه الله في بيان لطائف أخر . فلتراجع . الخامس : قيل نفي الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار في قوله تعالى : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ } يفيد نفي الاستمرار . وهذا معنى قول الزمخشري : ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك . اهـ . قال النحرير : ولا يبعد حمله على استمرار النفي كما في أكثر المواضع ، أي عادتهم عدم الاستئذان . قال الناصر : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً ، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي له معروفاً ، ولا بالمُضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً ، فإن الإستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكرّه ، وصلوات الله على خليله وسلامه ، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة ، والآداب الجليلة ، فقال تعالى : { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذاريات : 26 ] أي : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به ، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ، ربما يعدّ كالمستأذن له في الضيافة ، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة ، وأولو القوة . وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين ، التثاقل عن المبادرة إليه ، بعد الحض عليه والمناداة . وأسوأ أحوال المتثاقل ، وقد دعي الناس إلى الغزاة ، أن يكون متمسكاً بشعبة من النفاق . نعوذ بالله من التعرض لسخطه . ثم بيّن تعالى جلية شأن أولئك المنافقين المستأذنين بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة ، ولذلك خذلهم ، فقال سبحانه : { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ … } .