Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 24-24)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما كان سبب ما ذكر من البغي في الأرض وإفساد العمران هو الإفراط في حب التمتع بما في الدنيا من الزينة واللذات ضرب لها مثلاً بليغاً يصرف العاقل عن الغرور بها ، ويهديه إلى القصد والاعتدال فيها ، واجتناب التوسل إليها بالبغي والظلم ، وحب العلو والفساد في الأرض ، وهو عبارة عن تشبيه زينتها ونعيمها في افتتان الناس بهما وسرعة زوالهما بعد تمكنهم من الاستمتاع بها ، بحال الأرض يسوق الله إليها المطر فتنبت أنواع النبات الذي يسر الناظرين ببهجته ، فلا يلبث أن تنزل به جائحة تحسه وتستأصله قبيل بدو صلاحه والانتفاع به ، قال عز وجل : { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي لا شبه لها في صورتها ومآلها إلا ماء المطر في جملة حاله الآتية { فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } أي فأنبتت الأرض أزواجاً شتى من النبات تشابكت بسببه واختلط بعضها ببعض في تجاورها وتقاربها ، على كثرتها واختلاف أنواعها { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ } بيان لأزواج النبات وكونها شتى كافية للناس في أقواتهم ومراعي أنعامهم ، وكل مرامي آمالهم { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ } أي حتى كانت الأرض بها في خضرة زروعها السندسية ، وألوان أزهارها الربيعية ، كالعروس إذا أخذت حليّها من الذهب والجواهر ، وحللها من الحرير الملوّن بالألوان المختلفة ذات البهجة ، فتحلَّت وازَّينت بها استعداداً للقاء الزوج - ولا تغفل عن حسن الاستعارة في أخذ الأرض زينتها ، حتى كان استكمال جمالها ، كأنه فعل عاقل حريص على منتهى الإبداع والإتقان فيها { صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] . { وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } متمكنون من التمتع بثمراتها ، وادخار غلاّتها ، { أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً } أي نزل بها في هذا الحال أمرنا المقدر لإهلاكها بجائحة سماوية ليلاً وهم نائمون ، أو نهاراً وهم غافلون { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } أي كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها ، فالحصيد يشبه به الهالك من الأحياء كما قال في أهل القرية الظالمة المهلكة { جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } [ الأنبياء : 15 ] ويشبه هذا الهلاك في نزوله في وقت لا يتوقعه فيه أهله قوله { أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَٰتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 97 - 98 ] . { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } أي هلكت فجأة فلم يبق من زروعها شيء ، حتى كأنها لم تنبت ولم تمكث قائمة نضرة بالأمس ، يقال غني في المكان إذا أقام به طويلاً كأنه استغنى به عن غيره ، قال تعالى في الأقوام الهالكين في أرضهم { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } [ الأعراف : 92 ] والأمس الوقت الماضي ، وقال الزمخشري في الكشاف : والأمس مثل في الوقت القريب كأنه قيل : كأن لم تغن آنفاً اهـ . وأما أمس غير معرف فهو اسم لليوم الذي قبل يومك . { كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي كهذا المثل في جلائه وتمثيله لحقيقة حال الحياة الدنيا وغرور الناس فيها وسرعة زوالها ، عند تعلق الآمال بنوالها ، نفصل الآيات في حقائق التوحيد ، وأصول التشريع ، وأمثال الوعظ والتهذيب وكل ما فيه صلاح الناس في عقائدهم وأنفسهم وأخلاقهم ومعاشهم ، واستعدادهم لمعادهم ، لقوم يستعملون عقولهم وأفكارهم فيها ، ويزنون أعمالهم بموازينها ، فيتبينون ربحها وخسرانها . والعبرة لمسلمي عصرنا في هذه الآيات البينات المنزلة وأمثالها التي اهتدى بها الشعب العربي فخرج من شركه وخرافاته وأمّيته وبداوته إلى نور التوحيد والعلم والحكمة والحضارة ، ثم اهتدى بدعوته إليها الملايين من شعوب العجم ، فشاركته في هذه السعادة والنعم ، أنه لم يبق لهم حظ منها إلا ترتيلها بالنغمات في بعض المواسم والمآتم ، ولا يخطر لهم ببال أنه يجب عليهم التفكر للاهتداء بها ، ولو تفكروا لاهتدوا وإذاً لعلموا أن كل ما يشكو منه البشر من الشقاء بالأمراض الاجتماعية والروحية ، والرذائل النفسية ، والعداوات القومية ، والحروب الدولية ، فإنما سببه التنافس في متاع هذه الحياة الدنيا ، وإن من تفكر في هذا وكان على بصيرة منه ، فهو جدير بأن يلتزم القصد والاعتدال في حياته الدنيوية المادية ، ويصرف جل ماله وهمته في إعلاء كلمة الله وعزة أهل ملته ، وقوة دولته ، والاستعداد لآخرته ، فيكون من أهل سعادة الدارين . وما صرف الناس عن هذا الاهتداء بكتاب الله ، وهو أعلى وأكمل ما أنزله الله ، إلا علماء السوء المقلدون الجامدون ، وزعمهم الباطل أنه لم يبق في البشر أحد أهلاً للاهتداء به وببيان الرسول صلى الله عليه وسلم له ، لأن هذا يتوقف على ما يسمونه الاجتهاد ، ويزعمون أنه أصبح ضرباً من المحال ، وقد أنشأت مشيخة الأزهر في هذا العهد وهي أكبر المعاهد الدينية الإسلامية مجلة رسمية شهرية باسم ( نور الإسلام ) تصرح بهذه الجهالة ، وتطعن على الدعاة إلى هذه الهداية ، وإلى ترك البدع ، واتباع السنن ، وإنها لدركة من عداوة الله ورسوله لم يبلغوا قعرها إلا بخذلان من الله .