Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 90-92)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآيات الثلاث في بيان العبرة بآخر القصة وما كان من عاقبة تأييد الله لموسى وأخيه الضعيفين بأنفسهما ، على فرعون وقومه أعظم أهل الأرض قوة ودولة . { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ } [ يونس : 90 ] يقال جاز المكان وجاوزه وتجاوزه إذا ذهب فيه وقطعه حتى خلفه وراءه . وأصله من جوز الطريق ونحوه وهو وسطه ، وتسمية الجوزاء مأخوذة من تعرضها في جوز السماء أي وسطها ، ومجاوزة الله البحر بهم عبارة عن كونهم جاوزوه بمعونته تعالى وقدرته وحفظه ، إذ كان آية من آياته لنبيه موسى عليه السلام بفرقه تعالى بهم البحر وانفلاقه لهم كما تقدم في سورة البقرة والأعراف . { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً } [ يونس : 90 ] أي لحقهم فأدركهم ظلماً وعدواناً عليهم ليفتك بهم أو يعيدهم إلى مصر حيث يتعبدهم ويسومهم سوء العذاب { حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ } أي فخاض البحر وراءهم حتى إذا وصل إلى حد الغرق قال : { آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } [ يونس : 90 ] أي قال قبل أن يغرق ، وهو يدل على أن البحر لم يطبق عليه دفعة واحدة : آمنت أنه لا إله بالحق إلا الرب الذي آمنت به جماعة بني إسرائيل بدعوة موسى . { وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي وأنا فرد من جماعة المذعنين له المنقادين لأمره ، وبعد ما كان من كفر الجحود بآياته والعناد لرسوله يعني أنه جمع بين الإيمان الذي هو التصديق بالقلب ، والإسلام الذي هو الإذعان والخضوع بالفعل ، بدون امتياز لعظمة الملك ، وكان من قبل جاحداً ، أي مصدقاً غير مذعن ولا خاضع ، بدليل قوله تعالى فيه وفي آله : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] يعني آيات موسى . وهذه هي العاقبة ، وقد أجيب فيها فرعون عن دعواه بقوله تعالى الذي يعرف بلسان الحال أو بقول جبريل عليه السلام : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 91 ] أي أتسلم الآن أو تدعي الإسلام وإذعان الطاعة والانقياد ، حيث لا محل له ولا إمكان ، بما حال دونه من الهلاك ، وقد عصيت قبله وكنت من المفسدين في الأرض الظالمين للعباد ، والمراد إن دعوى الإسلام الآن باطلة ، والإيمان بدون الإسلام مع إمكانه لا يقبل ، فكيف يقبل وقد صار اضطراراً لا معنى لقبوله ، لأنه انفعال لا فعل لصاحبه ، وجملة القول أن إسلامه كان كما قال الشاعر : @ أتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل @@ وقد تقدم مثل هذا الاستفهام الإنكاري في هذه السورة ، وهو قوله تعالى في المكذبين بوعد الله تعالى ووعيده بما كان يحملهم على استعجال عذابه { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ يونس : 51 ] وسيأتي بعد بضع آيات منها إن الإيمان لا ينفع عند وقوع عذاب الاستئصال الذي هو نهاية أجل القوم ، كما أنه لا ينفع عند موت الشخص ، كما تقدم في قوله تعالى : { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ النساء : 18 ] . ومن البديهي أن التوبة من الكفر والمعصية إنما تنفع بالرجوع إلى الطاعة . على أن اليائس من الشيء بالفعل ، لا يعقل أن يكون صادقاً في ادعائه إياه أو طلبه له بالقول . ولعل فرعون أراد بقوله حينئذ أنه من جماعة المسلمين أنه موطن نفسه على أن يكون منهم إن نجاه الله تعالى ، وأنه كان يرجو بهذا أن ينجيه الله تعالى كما نجاه وقومه من كل نازلة من عذاب الله حلت به وبقومه ، إذ كان يقول لموسى { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ } [ الأعراف : 134 ] ولكن تلك النوازل إنما كانت لأجل إرسال بني إسرائيل مع موسى فهي غايتها ، ولم تكن عقاباً على الإصرار على كفر الجحود والعناد ، الذي هو شر أنواع الكفر وأدلها على خبث طوية صاحبه ، كهذا العقاب الأخير بعد نجاة بني إسرائيل منه رغم أنفه . { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } [ يونس : 92 ] قال أبو جعفر ابن جرير الطبري : يقول تعالى ذكره لفرعون فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك ، ينظر إليك من كذب بهلاكك { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } يقول لتكون لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك فينزجرون عن معصية الله والكفر به ، والسعي في أرضه بالفساد . والنجوة الموضع المرتفع من الأرض ومنه قول أوس بن حجر : @ فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح @@ ثم ذكر رواته عمن قال بهذا القول . وقال أهل اللغة : سمي المكان المرتفع نجوة ونجاة - وزاد بعضهم : منجى - لأن من عليه ينجو من السيل ، وإنما دفعه ودفعهم إلى تفسير الآية بهذا الوجه من اللغة أن إنجاء الإنسان من الغرق إنما يكون بخروجه حياً ببدنه ونفسه ، كما تقدم قريباً في إنجاء نوح ومن معه في الفلك ، وكل استعماله في القرآن بمعنى النجاة من العذاب كإنجاء بني إسرائيل من فرعون وآله . وقال بعضهم : إن التعبير بالتنجية تهكم به ، وإن الحكمة بذكر البدن أنه يخرج جسده سالماً ليُعرف ، وقيل إن المراد بالبدن الدرع فهو من أسمائها في اللغة ، وإنما محل العبرة أن يلفظه البحر ببدنه ليُعرف فيعتبر بنو إسرائيل الذين قيل إنهم شكوا في غرقه ، ويعتبر القبط الذين عبدوه ، ولذلك قيل : إن درعه كانت معروفة وإنها من الذهب ، أو كان له فوق درع الزرد درع أخرى من الذهب ، ولكن الدروع تقتضي رسوب الغريق في البحر إلا أن يجرفه الموج وأما العبرة لمن بعده فهي أعم : هي ما سيقت القصة لأجله من كونها شاهداً كالتي قبلها على صدق وعد الله لرسله ووعيده لأعدائهم ، كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات بل هذه السورة كلها لإقامة حجج الله عليهم في هذه المسألة قبل غيرهم ، لأنهم أول من بلغته الدعوة . وقوله تعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } تعريض بهم وأكده هذا التأكيد لما تقتضيه شدة الغفلة من قوة التنبيه ، أي إنهم لشديدو الغفلة عنها على شدة ظهورها ، فلا يتفكرون في أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها ، ولا يعتبرون بها ، وإنما يمرون عليها معرضين كما يمرون على مسارح الأنعام ، وفيه ذم للغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها واستبانة سنن الله فيها ، للإعتبار والإتعاظ بها . ومن العجيب أن يكون أهل القرآن منهم ، كلا إنه حجة على الغافلين بريء منهم .