Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 114-115)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا أمر بأعظم العبادات وبأعظم الأخلاق ، اللذين يستعان بهما على ما قبلهما من الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى أولي الظلم ، ولذلك عطفا عليهما . { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } [ هود : 114 ] خص إقامة الصلاة بالذكر في هذه الوصية العامة المجملة لأنها رأس العبادات المغذية للإيمان والمعينة على سائر الأعمال ، أي أدها على الوجه القويم وأدمها في طرفي النهار من كل يوم ، طرف الشيء والزمن الناحية والطائفة منه ونهايته ، فطرفا النهار هنا البكرة والأصيل أو الغدو والعشي ، وقد أمرنا تعالى في التنزيل بالذكر والتسبيح فيهما { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } أي وفي زلف من الليل جمع زلفة وهي بالضم كقرب جمع قربة لفظا ومعنى وتطلق كما في معاجم اللغة على الطائفة من أول الليل لقربها من النهار ، وقالوا الزلف ساعات الليل الآخذة من النهار ، وساعات النهار الآخذة من الليل ، روي عن ابن عباس أن صلاة طرفي النهار المغرب والغداة ( أي الفجر ) وزلف الليل العتمة ( أي العشاء ) وعن الحسن أن صلاة طرفي النهار الفجر والعصر ، وقال في زلف الليل هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هما زلفتا الليل " وهذا أقرب إلى اللغة مما قبله ، فإن صح الحديث فلا معدل عنه ، ولكنه من مراسيل الحسن فيبحث عمن رفعه ، وأدخل بعض المفسرين صلاة الظهر في طرفي النهار ، إذ يصح أن يسمى وقتها طرفا بمعنى أنه طائفة وناحية من النهار يفصلها من غيرها زوال الشمس ، ولكنه طرف ثالث واللفظ هنا مثنى ، وفي سورة طه في قوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [ طه : 130 ] فجمع الأطراف بعد ذكر الطرفين الأخيرين بالمعنى وهما وقتا صلاتي الفجر والعصر . والأظهر في أمثال هذه الآيات أن ذكر الله تعالى وتسبيحه المطلق فيها عام فيدخل فيه الصلاة وغيرها والآية الصريحة في أوقات الصلوات الخمس قوله تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 17 - 18 ] تمسون تدخلون في المساء وهو ما بين الظهر إلى المغرب ، نقله في المصباح عن ابن القوطية ذكر هو وغيره مثل هذا في تفسير العشي وهو غلط سببه اشتراك الوقتين باتصال آخر المساء بأول العشي وهو أول الليل حيث يختلط النور بالظلام ، فصلاة المغرب العشاء الأولى ، وصلاة العتمة العشاء الآخرة التي يزول عندها الشفق وهو آخر أثر لنور النهار ، وفي معنى هذا قوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } [ الإسراء : 78 ] الآية فدلوك الشمس زوالها أي أقمها لأول وقتها هذا وفيه صلاة الظهر ، منتهيا إلى غسق الليل وهو ابتداء ظلمته ويدخل فيه صلاة العصر والعشاءين ، وأقم صلاة الفجر . { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } الجملة تعليل للأمر قبلها مبين لحكمته وفائدته ومعناها أن للأعمال الحسنة من تزكية النفس وإصلاحها ، ما يمحو منها تأثير الأعمال السيئة وإفسادها ، روي عن ابن مسعود وابن عباس تفسير الحسنات فيها بالصلوات الخمس ، زاد ابن عباس والباقيات الصالحات ولا غرو فالصلاة أعظم الحسنات ، وأكبر العبادات المكفرة للسيئات ، ولكن لفظ الحسنات عام يشمل جميع الأعمال الصالحات حتى التروك فإنها عمل نفسي ومنه : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] وفي الحديث : " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " { ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ } أي إن فيما ذكر من الوصايا من الأمر بالاستقامة إلى هنا لموعظة للمتعظين الذين يراقبون الله ولا ينسونه . وقد فسروا السيئات هنا بالصغائر ، وأيدوه بما روي في سبب نزول الآية عن ابن مسعود : " أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك كأنه يسأله عن كفارتها فأنزلت عليه : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } إلخ فقال يا رسول الله ألي هذه ؟ قال : " هي لمن عمل بها من أمتي " " رواه الجماعة إلا أبا داود ، وأشهر رواة التفسير المأثور ، وفي رواية لغير البخاري وأبو داود منهم " إن الرجل قال للنبي إنني وجدت امرأة في البستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك ، فافعل بي ما شئت ، فلم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فذهب الرجل فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ، فأتبعه رسول الله بصره فقال : " ردوه علي " فردوه فقرأ عليه : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } الآية . فقال معاذ بن جبل يا رسول الله : أله وحده أم للناس كافة ؟ قال : " بل للناس كافة " " وليس في هذه الرواية أن الآية نزلت في هذه النازلة ، وهنالك روايات أخرى عن معاذ بن جبل وابن عباس في معنى حديث ابن مسعود في الجملة أو مغزاه وقد سمي الرجل في بعضها بأبي اليسر ، ومنها حديث أبي أمامة عند أحمد ومسلم وأبي داود وغيرهم " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أقم فيَّ حد الله - مرة أو مرتين - فأعرض عنه ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ منها قال : " أين الرجل " ؟ قال أنا ذا ، قال : " أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا " ؟ قال نعم ، قال : " فإنك خرجت من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد " والمراد خرجت من خطيئتك التي طلبت تكفيرها بإقامة الحد وهي لا حد فيها وإنما يجب في تكفيرها التوبة والعمل الصالح الذي يزكي النفس ، ومن أعظمها الوضوء التام وإقامة الصلاة ، وقد تاب الرجل توبة نصوحا بدليل طلبه إقامة الحد عليه ، والتوبة مع العمل الصالح تكفر الصغائر والكبائر إلا حقوق العباد ، فإنه يجب أداؤها أو استحلال أهلها منها إن أمكن . وذهب بعض العلماء إلى أن تكفير الحسنات للصغائر لا يشترط فيه التوبة إذا اجتنبت الكبائر ، ويقول الغزالي إن كل نوع من الحسنات يكفر ما هو ضده من السيئات ، كتكفير البخل بالإنفاق والإساءة إلى الناس بالإحسان إلخ . والآيات في تكفير السوء والسيئآت المطلقة والمعينة كثيرة ، ومن الثاني كفارات الظهار ومحرمات الإحرام والحنث بالأيمان ، وأمثال هذه لا يشترط فيها التوبة ، فذنوبها عارضة ليس من شهوات النفس تكرارها كالفواحش والمنكرات المدنسة للنفس باتباع الهوى والشهوات الباعثة على الإصرار ، فهذه لا يطهرها منها ويزكيها إلا التوبة وإنما تتحقق التوبة بالندم على فعل الذنب المقتضي لتركه وإزالة أثره من النفس بالعمل الصالح ، فبجملة هذه المعاني الثلاثة يحصل الرجوع إلى الله بعد الإعراض والبعد عنه بعصيانه ، وشرح الغزالي هذا المعنى للتوبة بقوله إنها مركبة من علم وحال وعمل كل منها سبب لما بعده ، فالعلم بحرمة الذنب وكونه سبباً لسخط الله تعالى وعقابه يوجب الحال أي يحدثه وهو الخوف وألم النفس وهذا يوجب العمل وهو ترك الذنب وتكفيره بالعمل الصالح اهـ بالمعنى موجزا . وقد تكلمنا على التوبة في مواضع من هذا التفسير منها الكلام على توبة آدم في سورتي البقرة والأعراف ، ومنها سورة النساء قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } [ النساء : 17 ] إلى آخر الآيتين ، ومنها في سورة الأنعام في قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] وسيأتي في معناه من سورة النحل قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 119 ] ومثله في سورة طه في قوله تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] وناهيك بما تقدم في أواخر التوبة من آيات التوبة ولا سيما توبة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ففيها أكبر العبر للمؤمنين المسلمين . { وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي ووطن نفسك على احتمال المشقة في سبيل ما أمرت به وما نهيت عنه في هذه الوصايا حتى الصلاة كما قال تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] واستعن بالصبر والصلاة على سائر أعباء الدعوة إلى الإسلام والإصلاح ، وانتظار عاقبتها من النصر والفلاح ، فإن هذا من الإحسان الذي لا جزاء له إلا الإحسان ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين في أعمالهم في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ، ولكن للجزاء في أمور الأمم آجالا وأقدارا يجب الصبر في انتظارها ، وعدم استعجالها قبل أوانها .