Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 15-16)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أن قامت الحجة القطعية على إعجاز القرآن ، وحقية دعوة الإسلام ، بما يقطع ألسنة المفترين ويبطل معاذيرهم ، بين لهم في هاتين الآيتين الصارف النفسي لهم عنه وكونه شراً لهم لا خيراً ، وهو أنه لا حظ لهم من حياتهم إلا شهوات الدنيا وزينتها ، والإسلام يدعوهم إلى إيثار الآخرة على الأولى ، قال عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [ هود : 15 ] أي من كان كل حظه من وجوده التمتع بلذات هذه الحياة الأولى التي هي أدنى الحياتين اللتين خلق لهما وهي الطعام والشراب والوقاع ، وزينتها من اللباس والأثاث والرياش والأولاد والأموال ، لا يريد مع ذلك استعدادا للحياة الآخرة ولقاء الله تعالى بالبر والإحسان ، وتزكية النفس بباعث الإيمان { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي نؤد إليهم ثمرات أعمالهم التي يعملونها وافية تامة بحسب سنتنا في الأسباب والمسببات ونظام الأقدار ، وقد فصلنا هذا المعنى في التفسير مراراً . { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } وهم لا ينقصون فيها شيئاً من نتائج كسبهم لأجل كفرهم ، فإن مدار الأرزاق فيها على الأعمال السببية ، لا على النيات والمقاصد الدينية ، ولكن لهداية الدين تأثيراً فيها من ناحية الأمانة والاستقامة والصدق والنصح ، واجتناب الخيانة والزور والغش ، وغير ذلك من الصبر والتعاون على البر والتقوى ، ولأهلها العاقبة الحسنة فيها ، وكرر لفظ فيها للتأكيد والإعلام بأن الآخرة ليست كالدنيا في وفاء كيل الجزاء وفي بخسه ، فإنه فيها منوط بأمرين : كسب الإنسان ونظام الأقدار ، وقد يتعارضان ، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل الله تعالى مباشرة : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] . { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ } أي أولئك الموصوفون بما ذكر ليس لهم في الآخرة إلا دار العذاب المسماة بالنار ، لأن الجزاء فيها كالجزاء في الدنيا على الأعمال ، وهم لم يعملوا لنعيم الآخرة شيئاً ، فإن العمل لها إنما هو تزكية النفس بالإيمان والتقوى التي هي اجتناب المعاصي والرذائل ، وأعمال البر والفضائل ، { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } وفسد ما صنعوا مما ظاهره البر والإحسان كالصدقة وصلة الرحم فلم يكن له تأثير في تزكية أنفسهم والقربة عند ربهم ، لأنه إنما كان لأغراض نفسية من شهوات الدنيا كالرياء والسمعة والاعتزاز بأولي القربى على الأعداء ولو بالباطل ، فهو كالحبط وهو بالتحريك أن تكثر الأنعام من بعض المراعي التي تستطيبها حتى تنتفخ وتفسد أحشاؤها ، فظاهر كثرة الأكل أنه سبب للقوة فكان في هذه الحالة سبباً للضعف ، كذلك ما ظاهره البر والإحسان من أعمال الناس إذا كان الباعث عليه سوء النية مما ذكرنا { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي وباطل في نفسه ما كانوا يعملونه في الدنيا ، لأنه لا ثمرة له ولا أجر في الآخرة ، وإنما الأعمال بمقاصدها ، والنتائج تابعة لمقدماتها ، فإن كان في عملهم خير ونية حسنة يجازون عليه في الدنيا . قال تعالى في تفصيل هذا الإجمال من قوله تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 18 - 21 ] وقال معلم الخير الأعظم صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " رواه البخاري في سبعة مواضع من صحيحه مختلفة الألفاظ ومسلم وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . الدين يبيح الطيبات من المآكل والمشارب غير الضارة ويبيح الزينة في غير إسراف ولا خيلاء ، وإنما يذم من يحتقر المواهب الإنسانية من عقلية وروحانية فيجعل كل همه وحظه من وجوده في الشهوات الحيوانية التي تفضله بها الأنعام والحشرات فيفضله الثور في كثرة الأكل ، والبعير في كثرة الشرب ، والعصفور في كثرة السفاد ، والطاوس في زينة الألوان ولمعان اللباس . ومن اختبر أهل أمصارنا في هذا العصر علم من إسرافهم في هذه الشهوات والزينة ما هو مفسد لصحتهم وأخلاقهم وبيوتهم حتى نسائهم وأطفالهم ، وماحق لثروتهم ، ومضعف لأمتهم ودولتهم ، وما بعد ذلك إلا إضاعة آخرتهم ، وترى مع هذا أن حكومتهم ومدارسهم لا تقيم للتربية الدينية وزنا وتجعل الصلاة التي هي عماد الدين اختيارية لا يلزمها أحد من معلميها ولا من تلاميذها . ومن العجيب أن تختلف الروايات في الآيتين هل نزلتا في المشركين أم في كفار أهل الكتاب أم في المنافقين ، وما نزلتا منفردتين في طائفة خاصة ، بل في ضمن سورة مكية حيث لا منافقون ولا أهل كتاب ، وموضوعهما عام فيمن لا يؤمن بالآخرة ولا يعملون لأجلها .