Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 18-24)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن : الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به ، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة ، وبدأ بوصف الأول فقال : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله كذبا في وحيه وأقواله ، أو أحكامه أو صفاته أو أفعاله ، وقد تقدم مثل هذه الجملة في الأنعام والأعراف ويونس وسيأتي في الكهف والعنكبوت والصف ، ويفسر الافتراء في كل آية بما يدل عليه السياق ، وأظهره هنا اتخاذ الشركاء والأولياء والشفعاء له بدون إذنه ، وزعم من زعم أنه اتخذ له ولداً من الملائكة كالعرب الذين قالوا الملائكة بنات الله ، والوثنيين الذين قالوا إن كرشنا ابن الله ، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله ، وكذا من افترى عليه بتكذيب ما جاء به رسله من دينه ، لصدهم الناس عن سبيله { أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } يوم القيامة لمحاسبتهم ، وتعرض عليه أعمالهم وأقوالهم { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ } الذين يقومون بأمره للشهادة عليهم من الملائكة الكرام الكاتبين ، والأنبياء المرسلين ، وصالحي المؤمنين : " الأشهاد جمع شاهد كأصحاب ، أو شهيد كأشراف " { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } أي يشيرون إليهم بأشخاصهم فيفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة باللعنة ، الدالة على خروجهم في ذلك اليوم من محيط الرحمة ، وجملة اللعنة يجوز أن تكون من كلام الأشهاد ، وأن تكون مستأنفة من كلام الله تعالى . وفي معنى هذا قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } [ غافر : 51 - 52 ] . وفي حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا فيقول : رب أعرف ، حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته " وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } وقد بينا مسألة الشهادة والشهداء يوم القيامة في مواضعها من سور البقرة والنساء والأنعام والأعراف مفصلة تفصيلا ، فراجع تفسيرها في مواضعها من أجزاء التفسير مستدلا عليها بألفاظها في فهارسها . { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } صفة للظالمين الملعونين ، أي هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن سبيل الله الموصلة إلى معرفته وعبادته وهي دينه القيم وصراطه المستقيم { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي يصفونها بالعوج والالتواء للتنفير عنها ، أو يريدون أن تكون عوجاء بموافقتها لأهوائهم من الشرك وإباحة الظلم والفسق { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } أي والحال أنهم كافرون بالآخرة لا يؤمنون ببعث ولا جزاء ، وإنما الدين عندهم رابطة دنيوية ، وشعائر قومية ، قد يتعصبون لها تعصبهم لقوميتهم ، وتقليداً لآبائهم ، وهكذا شأن الملاحدة والمبتدعة من أهل الأهواء ، المدعين لدين الأنبياء ، كما تراهم في هذا الزمان . وزيادة " هم " بين المتبدأ والخبر للتأكيد . وقد تقدم نص هذه الآية بدون هذه الزيادة في الآية [ 45 ] من سورة الأعراف [ 7 ] فراجع تفسيرها في الجزء التاسع . { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي لم يكونوا معجزين الله في الدنيا إن يعاقبهم بظلمهم وصدهم عن سبيله وكفرهم بكتابه ورسوله ولقائه { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } وما كان لهم فيها أولياء من دونه يتولون أمرهم عنده ، ولا أنصار يمنعونهم من عقابه وينصرونهم ، ولكن سبقت كلمته واقتضت مشيئته وحكمته أن يؤخرهم إلى هذا اليوم { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } فيه بالنسبة إلى ما كان يكون من عقابهم في الدنيا لو عوقبوا فيها ، لا بالزيادة عما يستحقونه منه بمقتضى سنته تعالى في إفساد كفرهم لأرواحهم ، وتدسية ظلمهم لأنفسهم ، وهذه الجملة استئناف بياني . قرأ الجمهور يضاعف من المضاعفة وابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف بالتشديد من التضعيف . وعلل هذه المضاعفة بقوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } أي ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاء لدعوة الحق وكلام الله عز وجل لاستحواذ الباطل على أنفسهم ، ورين الكفر والظلم على قلوبهم بل كانوا { يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } في قوله تعالى في سورة [ الأنعام : 26 ] ومن ذلك قوله تعالى فيهم : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } ما يدل عليه من آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، أي إنهم لشدة انهماكهم في الكفر ولوازمه من الباطل واتباع الهوى والشهوات ، صاروا يكرهون الحق والهدى كراهة شديدة بحيث يثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية ، وما يثبته من الآيات البصرية ، وليس المراد أنهم فقدوا حاستي السمع والبصر فصاروا صماً وعمياناً بالفعل . بل هم كما يقول أمثالهم فيما يبغضون إنني لا أطيق رؤية فلان ، ولا أقدر أن أسمع كلامه وتذكر أو راجع قوله تعالى لنبيه في سورة يونس { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] إلخ . وأمثالهم مشاهدون في كل زمان ومكان ، أعطى رجل مؤمن رجلا متفرنجاً منهم كتاب الوحي المحمدي الذي شهد له من قرأه من طبقات الناس المختلفة بطلاوة عبارته وحسن بيانه ، وموافقة أسلوبه وترتيبه وتبويبه لذوق هذا العصر ، ثم سأله بعد أيام كيف رآه ، ظاناً أنه قرأه كله بشغف وأنه سيشكر له هديته ؟ فقال إنني لم أستطع أن أقرأ منه صفحة واحدة ، واعترف بأنه يقرأ كتب أشهر الملاحدة الطاعنين في القرآن بلذة ورغبة كما يقرأ القصص ( الروايات ) الغرامية ! ! ! { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } أي أولئك الموصوفون بما تقدم هم الذين خسروا أنفسهم بافترائهم على الله ، واشتراء الضلالة بالهدى ، فإنهم دسوها وما زكوها في الدنيا ففقدوها في الآخرة ، وأي وجود لمن يصلى النار الكبرى ، فلا يموت فيها ولا يحيا { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من اتخاذ الشفعاء عند الله ، والأولياء الذين زعموا أنهم يقربونهم إليه زلفى ، وقد سبق بهذا المعنى من سورة الأعراف في سياق نداء أصحاب الجنة أصحاب النار في قوله تعالى : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ * ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ كَافِرُونَ } [ الأعراف : 44 - 45 ] . { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } كلمة : لا جرم تفيد التحقيق والتأكيد لما بعدها ، قال الفراء هي في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ، ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم وصارت بمعنى : " حقا " ولهذا تجاب باللام نحو لا جرم لأفعلن كذا ، أي حقا إنهم في الآخرة لأشد الناس خسراناً . وترى مثل هذا في أول سورة النمل ، بهذا وصف الفريق الذي لا يؤمن بالقرآن هنا ، وإن كان فيه من يقول بلسانه أنه يؤمن به ، ويليه الفريق الآخر جعلنا الله من خياره وأنصاره ، وهو : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } أي خشعوا له واطمأنت نفوسهم بالإيمان ، ولانت قلوبهم إلى ذكره ، فلم يبق فيها زلزال ولا اضطراب . وأصل الإخبات قصد الخبت وهو المكان المطمئن المنخفض من الأرض والنزول فيه ، يقولون أخبت الرجل كما يقولون أنجد وأسهل وأنهم . ويقال أخبت إليه وأخبت له ، ومن الثاني من قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الحج : 54 ] وذكر هؤلاء العلماء المخبتين في سورة الحج وسطاً بين الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم من إلقاء الشيطان ، وبين الكافرين الذين لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ، فعلم منه أنه ليس للشيطان عليهم من سبيل وما أحسن ما فعله الراغب من التنظير بين هؤلاء المخبتي القلوب وبين من قال فيهم { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 74 ] { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أولئك المتصفون بما ذكر أصحاب الجنة المستحقون لها بالذات الخالدون فيها أبداً . { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ } أي مثل الفريقين من الكافرين والمؤمنين اللذين تقدم وصفهما وبيان حالهما في هذه الآيات المبينة لابتلائه تعالى للناس ليظهر أيهم أحسن عملا ، والصفة الحسية المطابقة لحالهما كمثل الأعمى الفاقد لحاسة البصر في خلقته ، والأصم الفاقد لحاسة السمع كذلك في حرمانه من مصادر العلم والعرفان الإنسانية والحيوانية ، ومن هو كامل حاستي البصر والسمع كلتيهما ، فهو يستمد العلم من آيات الله في التكوين والتشريع بما يسمع من القرآن وبما يرى من الأكوان ، وهما الينبوعان اللذان يفيضان العلم والهدى على عقل الإنسان { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } أي هل يستوي الفريقان صفةً وحالاً ، ومبدأ ومآلا ؟ كلا إنهما لا يستويان { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أتجهلون أيها المخاطبون هذا المثل الحسي الجلي أو أتغفلون عنه فلا تتذكرون ما بينهما من التباين فتعتبروا به ؟ أي يجب أن تتفكروا فتتذكروا فتعتبروا وتهتدوا . شبه فريق الكافرين أولاً بالأعمى في عدم استعمال بصره فيما يفضل به بصر الحيوان الأعجم من فهم آيات الله التي تزيده علماً وعقلاً وهدىً روحياً ، ثم شبهه بالأصم كذلك بدليل عطفه على الأعمى ليتأمل العاقل كل تشبيه وحده ، وأما قوله تعالى في المنافقين : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] بدون عطف فالمراد به من أول وهلة التهويل بجمعهم للنقائص الثلاث كلها دفعة واحدة فلم يبق في استعدادهم منفذ للهدى ، ولذلك عطف عليه بفاء السببية قوله تعالى في الآية : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] وفي الآية في قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ومن الإيجاز في الآية عطفه هذه الصفات المتقابلة للفريقين ، وتركه للسامع والقارئ التوزيع والتفريق بين ما لكل منهما من التشبيهين المتضامنين .