Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 50-52)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
طلب الملك ليوسف وتمكثه في الإجابة لأجل التحقيق في مسألة النسوة : من المعلوم بالبداهة إن الرسول بلغ الملك وملأه ما قاله له يوسف عليه السلام وأنهم فهموا منه أن الخطب جلل ، وإن هذا الرجل ذو علم واسع ، وتدبير لا يستغنى عنه فيما يصفه من حالي السعة والشدة ، وقد طوي ذلك إيجازا لأنه يعلم من قوله تعالى : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ } [ يوسف : 50 ] لأسمع كلامه بأذني ، وأختبر تفصيل رأيه ودرجة عقله بنفسي { فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ } وبلغه أمر الملك { قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ } قبل شخوصي إليه ووقوفي بين يديه : { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي ما حقيقة أمرهن معي ، فالبال الأمر الذي يهتم به ويبحث عنه ، فهو يقول سله عن حالهن ليبحث عنه ويعرف حقيقته فلا أحب أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت عليها أو عقبها بالسجن وطال مكثي فيه وأنا غير مذنب فأقبل منه العفو { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } وقد صرفه عني فلم يمسني منه سوء معهن ، وربك لا يعلم ما علم ربه منه . وفي هذا التريث والسؤال فوائد جليلة في أخلاق يوسف عليه السلام وعقله وأدبه في سؤاله ( منها ) : دلالته على صبره وأناته ، وجدير بمن لقي ما لقي من الشدائد أن يكون صبورا حليما ، فكيف إذا كان نبياً وارثاً لإبراهيم الذي وصفه الله بالأواه الحليم ؟ وفي حديث أبي هريرة في المسند والصحيحين مرفوعا : " ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي " وفي لفظ لأحمد : " لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر " وأما ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة في تعجب النبي من صبره وكرمه وكونه لو كان مكانه لما أول لهم الرؤيا حتى يشترط عليهم أن يخرجوه من السجن ، ولو أتاه الرسول لبادرهم الباب … فهو مرسل لا يحتج به . ( ومنها ) : عزة نفسه وحفظ كرامتها إذ لم يرض أن يكون متهما بالباطل حتى يظهر براءته ونزاهته ( ومنها ) : وجوب الدفاع عن النفس وإبطال التهم التي تخل بالشرف كوجوب اجتناب مواقفها ( ومنها ) : مراعاته النزاهة بعد التصريح بشيء من الطعن على النسوة وترك أمر التحقيق إلى الملك يسألهن ما بالهن قطعن أيديهن وينظر ما يجبن به ( ومنها ) : أنه لم يذكر سيدته معهن وهي أصل الفتنة وفاء لزوجها ورحمة بها لأن أمر شغفها به كان وجدانا قاهرا لها ، وإنما اتهمها أولا عند وقوفه موقف التهمة لدى سيدها وطعنها فيه دفاعاً عن نفسه ، فهو لم يكن له بد منه . { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } [ يوسف : 51 ] الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب والبحث لغرابته أو إنكاره ومنه قول إبراهيم للملائكة { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } [ الحجر : 57 ] وقول موسى في قصة العجل { فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ } [ طه : 95 ] ؟ وقوله للمرأتين اللتين كانتا تذودان ماشيتهما عن مورد السقيا : { مَا خَطْبُكُمَا } [ القصص : 23 ] وهذه الجملة بيان لجواب سؤال مقدر دل عليه السياق كأمثاله والمعنى إن الرسول بلغ الملك قول يوسف وأنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق مسألة النسوة ، فجمعهن وسألهن : ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه هل كان عن ميل منه إليكن ، ومغازلة لكنّ قبلها ، هل رأيتين منه مواتاة واستجابة بعدها ؟ أم ماذا كان سبب إلقائه في السجن مع المجرمين ؟ { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ } أي معاذ الله ما علمنا عليه أدنى شيء يشينه ويسوءه لا كبير ولا صغير ، ولا كثير ولا قليل ، هذا ما يدل عليه نفي العلم مع تنكير سوء ودخول : " من " عليها وهو أبلغ من نفي رؤية السوء عنه { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } أي ظهر بعد خفائه وانحسرت رغوة الباطل عن محضه ، وهو تكرار من حصه إذا قطع منه حصة بعد حصة ( بالكسر ) وهي النصيب لكل شريك في شيء ، مثل كبكب وكفكف الشيء إذا كبه وكفه مرة بعد أخرى ، فهي تقول إن الحق في هذه القضية كان في رأي الذين بلغهم موزع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف ، لكل منا حصة ، بقدر ما عرض فيها من شبهة ، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه ولا شبهة عليه ، فإن كان هو اذلي شهدن بنفي السوء عنه وهي شهادة نفي ، فشهادتي له على نفسي شهادة إثبات ؟ { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } وهو لم يراودني ، بل استعصم وأعرض عني { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فيما اتهمني به من قبل ، وحمله أدبه الأعلى ووفاؤه الأسمى لمن أكرم مثواه وأحسن إليه - على السكوت عنه إلى الآن ، ونحن جزيناه بالسيئة على الإحسان ، وقد أقر الخصم وارتفع النزاع . { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [ يوسف : 52 ] أي ذلك الإقرار بالحق له ، والشهادة بالصدق الذي علمته منه ، ليعلم الآن - إذ يبلغه عني - أني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن بالنيل من أمانته ، أو الطعن في شرفه وعفته ، بل صرحت لجماعة النسوة بأنني راودته فاستعصم وهو شاهد ، وها أنا ذا أقر بهذا أمام الملك وملئه وهو غائب ، { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } من النساء والرجال ، بل تكون عاقبة كيدهن الفضيحة والنكال ، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا ، وسجناه فبرأه وفضح مكرنا ، حتى شهدنا له في هذا المقام السامي على أنفسنا ، وهذا تعليل آخر لإقرارها . ثم إنها على تبرئة نفسها من خيانته بالغيب اعترفت في الآية التالية بأنها لا تبرئ نفسها من الكيد له بالسجن ، وإن ذلك كان من هوى النفس الأمارة بالسوء لأن المراد منه تذليله لها ، وحمله على طاعتها . وفيهما وجه آخر وهو أنها تقول : ذلك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا ، وأن كل ما وقع أنني راودت هذا الشاب الفاتن الذي وضعه في بيتي ، وخلى بينه وبيني ، فاستعصم وامتنع ، فبقي عرضه أي الزوج مصونا ، وشرفه محفوظا ، ولئن برأت يوسف من الإثم فما أبرئ منه نفسي ، فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، وسيأتي إن من رحمته تعالى ببعض الأنفس صرفها عن الأمر السوء وهو أعلى الدرجات ، ومنها حفظه إياها من طاعة الأمر بوازع منها ، وهي دون ما قبلها ، ومنها عدم تيسر عمل السوء ، لها بامتناع من يتوقف عليه ذلك العمل على حد ( إن من العصمة ألا تجد ) . هذا هو المتبادر من نظم الآيتين المناسب للمقام بغير تكلف ، ولكن ذهب الجمهور اتباعا للروايات الخادعة إلى أنهما حكاية عن يوسف عليه السلام يقول : ذلك الذي كان مني إذ امتنعت من إجابة الملك واقترحت عليه التحقيق في قضية النسوة ليعلم العزيز من التحقيق أني لم أخنه في زوجه بالغيب إلخ وأنه صرح بعد ذلك بأنه لا يبرئ نفسه من باب التواضع وهضم النفس ، وهذا المعنى يتبرأ منه السياق والنظم ومرجع الضمير . ومن العجب إن ابن جرير اقتصر عليه ، ولكن قال العماد ابن كثير على كثرة اعتماده عليه مرجحا للقول الأول : وهذا هو القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام وقد حكاه الماوردي في تفسيره وانتدب لنصره الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة اهـ وشيخ الإسلام ابن تيمية من أعلم المحدثين بنقد الروايات فهو ما نصر هذا القول إلا وقد فند روايات القول الآخر . وقد علم من جملة الكلام أن يوسف عليه السلام كان مثل الكمال الإنساني الأعلى للاقتداء به في العفة والصيانة ، لم يمسه أدنى سوء من فتنة النسوة وأن امرأة العزيز التي اشتهرت في نساء مصر بل نساء العالم بسوء القدوة في التاريخ القديم والحديث كان أكبر إثمها على زوجها ، وكانت هي ذات مزايا في عشقها الذي كان اضطراريا لا علاج له إلا الحيلولة بينها وبين هذا الشاب الذي بلغ منتهى الكمال في الحسن والجمال ، فمن مزاياها أنها لم تتطلع إلى غيره من الرجال إجابة لداعية الجنسية للتسلي عنه بعد اليأس منه ، وإنها لم تتهمه بالجنوح للفاحشة قط ، وكل ما قالته لزوجها إذ فاجأهما لدى الباب { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا } [ يوسف : 25 ] تعني به همه بضربها ، وإنها في خاتمة الأمر أقرت بذنبها في مجلس الملك الرسمي إيثاراً للحق وإثباتا لبراءة المحق ، فأية مزايا أظهر من هذه لمن ابتليت بمثل هذا العشق ؟ وفي تاريخ الفردوسي أديب الفرس أنه صنف قصة غرامية في زليخا ويوسف صور فيها العفة بأجمل صورها ، وزليخا ( بالفتح ) اسم امرأة العزيز في أشهر تواريخنا وقيل : إن اسمها راعيل . وسنفصل العبر في القصة ، في التفسير الإجمالي للسورة إن شاء الله تعالى . تم تفسير الجزء الثاني عشر في العشر الأخير من المحرم سنة 1354 هـ ، وكان البدء به في صفر 1353 هـ والله نسأل توفيقنا لإتمام سائر هذا التفسير بما يرضاه ، وله الحمد والمنة