Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 228-228)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ للمؤلين من نسائهم حالين الفيئة بالرجوع إلى معاشرتهن وعزم الطلاق وإمضاءه ، ناسب أن يذكر بعده شيئاً من أحكام الطلاق معطوفاً على ما قبله متمّماً له فقال : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } إلخ . قال الأستاذ الإمام قدّس الله روحه المراد بالمطلّقات ، الأزواج اللواتي تحقّق فيهنّ معنى الزوجية ، وعهدن أن يكن مطلّقات ، وأن يتزوّجنّ بعد الطلاق ، وهنّ الحرائر ذوات الحيض بقرينة السياق ، فلا يأتي هنا ما يقوله الأصوليون في كلمة المطلّقات هل اللام فيها للإستغراق أم للجنس ؟ وهل هو عامّ مخصوص أم لا ؟ لأنّ وصل الآية بما قبلها يمنع كلّ ذلك ، كما يمنعه التربّص بالزواج ، ولولا ذلك لكان البحث في موضعه ، وأمّا حكم من لسن كذلك في الطلاق كاليائسة والتي لم تبلغ سنّ الحيض ، فمذكور في سورة الطلاق ، وهن كأنهنّ لا يدخلن في مفهوم المطلّقات ، فإنّ اليائسة من شأنها أن لا تطلّق ؛ لأنّ من أمضى زمن الزوجية مع امرأة حتّى يئست من المحيض ، كان من مقتضى الطبع والفطرة ومن أدب الشرع والدين أن يحفظ عهدها ويرعى ودّها بإبقائها على عصمة الزوجية ، وإن كان بعض السفهاء لا يحترمون تلك العشرة الطويلة ، ولا يراعون ذلك الميثاق الغليظ ، فيقدموا على طلاق اليائسة ، ثمّ إنّ اليائسة إذا طلّقت فلا تكاد تتزوّج ، وما خرج عن مقتضى الشرع واستقامة الطبع فلا يعتدّ به ، والتي لم تبلغ سنّ المحيض ، قلّما تكون زوجاً ، ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة فيندر أن يتحوّل فيطلّق ، وحاصل ما تقدّم أنّ ما يتبادر في هذا المقام من لفظ المطلّقات يفيد أنّهنّ الزوجات المعهودات المستعدّات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزوجية ، فينتظر أن يرغب الناس في التزوّج بهنّ . ومعنى التربّص مدّة ثلاثة قروء ، هو أن لا تتزوّج المطلّقة حتّى يمرّ عليها ثلاثة قروء ، وهي جمع قرء بضمّ القاف وفتحها ، ويطلق في اللغة على حيض المرأة وعلى طهرها منه ، والأصل فيه الإنتقال من الطهر إلى الحيض كما نقل عن الشافعي في قول له ؛ ولذلك لا يقال للطاهر التي لم تر الدم ذات قرء أو قروء ، ولا للحائض التي استمرّ لها الدم ، فلمّا كان القرء وسطاً بين الدم والطهر أو عبارة عن الصلة بين هاتين الحالتين ، عبّر به قوم من الفقهاء عن أحدهما ، وقوم عن الآخر ، ولكلّ منهم شواهد في اللغة أطال المفسّرون في إيرادها والترجيح بينها ، فالمالكية والشافعية وآل البيت على أنّ القرء هو الطهر ، والحنفية والحنابلة في أصحّ الروايتين على أنّ القرء هو الحيض ، وأدلّة الأوّلين أقوى . قال الأستاذ الإمام : والخطب في الخلاف سهل ؛ لأنّ المقصود من هذا التربّص العلم ببراءة الرحم من الزوج السابق ، وهو يحصل بثلاث حيض كما يحصل بثلاثة أطهار ، ومن النادر أن يستمرّ الحيض إلى آخر الحمل ، فكلّ من القولين موافق لحكمة الشرع في المسألة . وأورد الحكم بلفظ الخبر دون الأمر وغيره من ضروب الإنشاء - كقوله كتب على المطلّقات كذا - لتأكيده والإهتمام به ، كأنّه يقول إنّ هذا التربّص واقع كذلك لا محالة ، كما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني في هذا النوع من الإسناد الخبري في مقام الأمر ، فعندما يقال المطلّقات يلتفت ذهن السامع ويكون متهيّئاً لسماع ما يقال عنهنّ ، فإذا قيل { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } إلخ - وفيه الإسناد والحكم - يتقرّر عنده أنّه مأمور به أمراً مؤكّداً ، كأنّه قال إنّنا أمرناهنّ بذلك وفرضناه عليهنّ فامتثلن الأمر وجرين عليه بالاستمرار ، حتّى صار شأناً من شؤونهنّ اللازمة لهنّ لا ينصرفنّ عنه ، بل لا يخطر في البال مخالفتهنّ له ، وليس في الأمر بصيغته ما يفيد هذا التأكيد والإهتمام ، لأنّ المأمور بالشيء قد يمتثل وقد يخالف ، وهذا الضرب من التعبير معهود في التنزيل في مقام التأكيد والإهتمام يقع في الكتاب مواقعه لا يعدوها ، ولا يخفى ذلك على من طعم البلاغة وذاقها . وفي التعبير بقوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } من الإبداع في الإشارة ، والنزاهة في العبارة ، ما عهد في كلّ القرآن ، ولم يبلغ مراعاة مثله إنسان ، فالكلام في المطلّقات وهنّ معرّضات للزواج ، وخلو من الأزواج ، والأنسب فيه ترك التصريح بما يتشوفّن إليه ، والإكتفاء بالكناية عمّا يرغبن فيه ، على إقرارهن عليه ، وعدم إيئاسهنّ منه ، مع اجتناب إخجالهنّ ، وتوقّي تنفيرهنّ أو التنفير منهنّ ، وقد جمع هذه المعاني قوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } على ما فيه من الإيجاز ، الذي هو من مواقع الإعجاز ، فأفاد أنّه يجب عليهن أن يملكن رغبتهن ، ويكففن جماح أنفسهنّ ، إلى تمام المدّة الممدودة ، والعدّة المعدودة ، ولكن بطريق الرمز والتلويح ، لا بطريق الإبانة والتصريح ، فإنّ التربّص في حقيقته وظاهر معناه التريّث والإنتظار ، وهو يتعلّق بشيء يتريّث عنه ، وينتظر زوال المدّة المضروبة دونه ، ولولا كلمة { بِأَنْفُسِهِنَّ } لما أفادت الجملة تلك المعاني الدقيقة ، والكنايات الرشيقة ، وما كان ليخطر على بال إنسان يريد إفادة حكم العدّة أن يزيد هذه الكلمة على قوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } ولو لم تزد لكان الحكم عارياً عن تأديب النفس والحكم على شعورها ووجدانها ، ولعلّ الإرشاد إلى ما تنطوي عليه نفوس النساء من تلك النزعة ، في ضمن الإخبار عنهنّ بأنّ من شأنهنّ امتلاكها والتربّص بها إختياراً ، هو أشدّ فعلاً في أنفسهنّ وأقوى إلزاماً لهنّ أن يكن كذلك طائعات مختارات ، كما إنّ فيه إكراماً لهنّ ولطفاً بهنّ ، إذ لم يؤمرن أمراً صريحاً ، وهذا من الدقائق التي نحمد الله تعالى أن هدانا إلى فهمها ، فأنّى لأمثالنا من البشر أن يأتوا بمثلها ؟ ! قال الأستاذ الإمام بعد بيان هذه النكتة التي شرحناها : وزعم بعض الناس أنّ معنى التربّص بالأنفس هنا ضبطها ومنعها أن تقع في غمرة الشهوة المحرّمة ، وعلّلوا ذلك بأنّ النساء أشدّ شهوة من الرجال ، ومنهم من قدّر هذه الشدّة والزيادة بأضعاف كثيرة حدّها وعدّها عدّاً ، وهذا من نبذ الأقوال وطرحها بغير بيّنة ولا علم ، فإنّ الرجال كانوا وما زالوا هم الذين يطلبون النساء ويرغبون فيهنّ ، ثمّ يظلمونهنّ حتّى بالتحكّم في طبائعهنّ والحكم على شعورهنّ ، ويأخذ بعضهم ذلك من بعض بالتسليم والتقليد . وأقول : إنّ من دقّق النظر في أقوال الرجال في النساء في كلّ عصر ، ولا سيّما أقوال كتاب الصحف في زماننا ، ووزنها بموازينها ، رأى فيها من الأغلاط والأوهام ، ما يبطله النظر والإختبار ، وأظهر أوهامهم ما يكتبونه في حبّ المرأة وفي الموازنة بينها وبين الرجل فيما تقدّم وفي غيره ، وأنّ المقلّدين للمخطئ في ذلك أضعاف المقلّدين للمصيب . ثمّ بيّن تعالى حكمة هذا التربّص بالزواج في سياق حكم آخر فقال : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ } كما كنّ يفعلنّ أحياناً في الجاهلية إذ كانت المرأة تتزوّج بعد فراق رجل بآخر ، ويظهر لها أنّها حبلى من الأول فتلحق الولد بالثاني ، فهذا محرّم في الإسلام ، لأنّه شرّ ضروب الغشّ والزور والبهتان ، ينفي عن قوم من هو منهم ، ويلحق بآخرين من ليس منهم ، وفي ذلك من المضارّ ما لا يجهل . وقد حرّمه الله في الإسلام ، وأمر بأن تعتد المرأة بعد فراق زوجها ليظهر إنّها بريئة من الحمل ، ونهى أن تكتم الحمل إذا علمت به . واختار كثير من المفسّرين أنّ ما خلق الله في أرحامهنّ يشمل الولد والحيض ، وهو المروي عن ابن عمر ، فقد تكتم المرأة حيضتها ، لتطيل أجل عدّتها ، وذلك محرّم أيضاً ، وقد فشا في مطلّقات هذا الزمان اللواتي لا يطمعن في الزواج ، لأنّ الحكّام يفرضون لهنّ نفقة ما دمن في العدّة ، فيرغبن في استدامة هذه النفقة بكتمان الحيض ، وادّعاء عدم مرور القروء الثلاثة عليهنّ ، وما يأخذنه بعد إنقضاء العدّة حرام ، وما هنّ ممّن يتفكّرن في ذلك إذ لا علم لهنّ بأحكام الحلال والحرام ، ولا يبالين ما عساهنّ يعرفنه منها ، لأنهنّ لم يتربّين على آداب الدين وأعماله ، بل لم يلقن عقائده ولم يذكّرن بآياته ، حتّى صار أكثرهنّ أقرب إلى أهل الإباحة منهنّ إلى أهل الدين ، وإنّما يجتنب الحرام ويتحرّى الوقوف عند حدود الحلال أهل الإيمان الصحيح ، ولذلك قال تعالى عقب النهي : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وهذا وعيد شديد وتهديد عظيم ، كأنّه يقول إذا كنّ يعرفن من أنفسهنّ الإيمان بالله الذي أنزل الحلال والحرام لمصلحة الناس ، وباليوم الآخر الذي يكون فيه الجزاء بالقسطاس ، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ ، وإلاّ كنّ غير مؤمنات بما أنزله الله تعالى من هذه الأحكام التي هي خير لهنّ ولأزواجهنّ ، وحافظة لحقوقهم وحقوقهنّ ، إذ التصديق الجازم بأنّ الله تعالى أنزل هذا الحكم وجعل في اتّباعه المثوبة والرضوان ، وفي تركه الشقاء والخسران ، يكون سبباً طبيعيّاً لامتثاله ، مع إعظامه وإجلاله ، وعلى هذا الحدّ ما ورد في الحديث الصحيح " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إلخ . فمن لنا بمن يبلغ النساء المؤمنات هذا التشديد ؟ ومن لنا بمن يهتمّ بتلقين البنات عقائد الإيمان ، وتربيتهنّ على الأعمال التي تمكّن هذه العقائد في العقل والوجدان ؟ وأي الرجال يفعل هذا والرجال أنفسهم ، لم يعد لهم همّ في الدين إلاّ قليلا منهم ؟ وهؤلاء يرون النساء متاعاً لا أناسيّ مثلهم ، فيدعونهنّ وشأنهنّ ، لا يتفكّرون في أسباب ما يلقون من عواقب إهمالهنّ ، ورزايا جهلهنّ . { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً } قال الأستاذ الإمام قدّس الله روحه : هذا لطف كبير من الله سبحانه وتعالى ، وحرص من الشارع على بقاء العصمة الأولى ، فإنّ المرأة إذا طلّقت لأمر من الأمور سواء كان بالإيلاء أو غيره فقلّما يرغب فيها الرجال ، وأمّا بعلها المطلّق فقد يندم على طلاقها ، ويرى إنّ ما طلّقها لأجله لا يقتضي مفارقتها دائماً ، فيرغب في مراجعتها ولا سيّما إذا كانت العشرة السابقة بينهما جرت على طريقتها الفطرية ، فأفضى كلّ منهما إلى الآخر بسرّه حتّى عرف عجره وبجره ، وتمكّنت الألفة بينهما على علاتهما ، وإذا كانا قد رزقا الولد فإنّ الندم على الطلاق يسرع إليهما ، لأنّ الحرص الطبيعي على العناية بتربية الولد وكفالته بالاشتراك ، تغلب بعد زوال أثر المغاضبة العارضة على النفس ، وقد يكون أقوى إذا كان الأولاد إناثاً ، لهذا حكم الله تعالى لطفاً منه بعباده بأنّ بعل المطلّقة أي زوجها أحقّ بردّها في ذلك أي في زمن التربّص وهي العدّة . وفي هذا بيان حكمة أخرى للعدّة غير تبيّن الحمل أو براءة الرحم ، وهي إمكان المراجعة ، فعلم بذلك أنّ تربّص المطلّقات بأنفسهنّ فيه فائدة لهنّ وفائدة لأزواجهنّ ، وإنّما يكون بعل المرأة أحقّ بها في مدّة العدّة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة ، وأمّا إذا قصد مضارّتها ومنعها من التزوّج بعد العدّة حتّى تكون كالمعلّقة لا يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى ، ولا يمكّنها من التزوّج ، فهو آثم بينه وبين الله تعالى بهذه المراجعة ، فلا يباح للرجل أن يرد مطلّقته إلى عصمته ، إلاّ بإرادة إصلاح ذات البين ونيّة المعاشرة بالمعروف ، وإنّما قال الإمام إنّه آثم بينه وبين الله تعالى ، لإفادة إنّ ذلك محرّم لأمر خفي يتعلّق بالقصد ، فلم يكن شرطاً في الظاهر لصحّة الرجعة ، وما كل ما صحّ في نظر القاضي يكون جائزاً تديّناً بين الإنسان وربّه ، لأنّ القاضي يحكم بالظاهر ، والله يتولّى السرائر ، والطلاق الذي تحلّ فيه الرجعة قبل انقضاء العدّة يسمّى طلاقاً رجعياً ، وهناك طلاق بائن لا تحلّ مراجعة المطلّقة بعده وسيأتي ذكره في محلّه ، ومن مباحث اللفظ أنّ كلمة أحقّ هنا بمعنى حقيقين كما قالوا . ولمّا كانت إرادة الإصلاح بردّ الرجل امرأته إلى عصمته ، إنّما تتحقّق بأن يقوم بحقوقها ، كما يلزمها أن تقوم بحقوقه ، ذكر جلّ شأنه حقّ كل منهما على الآخر بعبارة مجملة تعدّ ركناً من أركان الإصلاح في البشر وهي قوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } . هذه كلمة جليلة جدّاً ، جمعت على إيجازها ما لا يؤدّى بالتفصيل إلاّ في سفر كبير ، فهي قاعدة كلّية ناطقة بأنّ المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق ، إلاّ أمراً واحداً عبّر عنه بقوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } وسيأتي بيانه ، وقد أحال في معرفة ما لهنّ وما عليهنّ على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهم ، وما يجري عليه عرف الناس ، هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم ، فهذه الجملة تعطي الرجل ميزاناً يزن به معاملته لزوجه في جميع الشؤون والأحوال ، فإذا همّ بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكّر إنّه يجب عليه مثله بإزائه ، ولهذا قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما : إنّني لأتزيّن لامرأتي كما تتزيّن لي لهذه الآية ، وليس المراد بالمثل المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها ، وإنّما المراد إنّ الحقوق بينهما متبادلة وأنّهما أكفّاء ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلاّ وللرجل عمل يقابله لها ، إن لم يكن مثله في شخصه ، فهو مثله في جنسه ، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال ، كما إنّهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل ، أي أنّ كلّ منهما بشر تامّ ، له عقل يتفكّر في مصالحه ، وقلب يحبّ ما يلائمه ويسرّ به ، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه ، فليس من العدل أن يتحكّم أحد الصنفين بالآخر ، ويتّخذه عبداً يستذلّه ويستخدمه في مصالحه ، ولا سيّما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التي لا تكون سعيدة إلاّ باحترام كلّ من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه . قال الأستاذ الإمام قدس الله روحه : هذه الدرجة التي رفع النساء إليها لم يرفعهنّ إليها دين سابق ، ولا شريعة من الشرائع ، بل لم تصل إليها أُمّة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده ، وهذه الأمم الأوربية التي كان من آثار تقدّمها في الحضارة والمدنية ، أن بالغت في تكريم النساء واحترامهنّ ، وعنيت بتربيتهنّ وتعليمهنّ العلوم والفنون ، لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها ، ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حقّ التصرّف في مالها بدون إذن زوجها ، وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إيّاها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة عشر قرناً ونصف ، وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في كلّ شيء ، كما كنّ في عهد الجاهلية عند العرب أو أسوأ حالا ، ونحن لا نقول إنّ الدين المسيحي أمرهم بذلك لأنّنا نعتقد أن تعليم المسيح لم يخلص إليهم كاملا سالماً من الإضافات والبدع ، ومن المعروف إنّ ما كانوا عليه من الدين ، لم يرق المرأة وإنّما كان ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي . وقد صار هؤلاء الإفرنج - الذين قصّرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن النساء - يفخرون علينا ، بل يرموننا بالهمجية في معاملة النساء ، ويزعم الجاهلون منهم بالإسلام أنّ ما نحن عليه هو أثر ديننا ، ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أنّ أحد السائحين من الإفرنج زاره في الأزهر وبينا هما مارّان في المسجد رأى الإفرنجي بنتاً مارّة فيه فبهت وقال : ما هذا ؟ أنثى تدخل الجامع ! ! ! فقال له الإمام : وما وجه الغرابة في ذلك ؟ قال : إنّنا نعتقد إنّ الإسلام قرّر أنّ النساء ليس لهنّ أرواح وليس عليهنّ عبادة . فبيّن له غلطه وفسّر له بعض الآيات فيهنّ . قال فانظروا كيف صرنا حجّة على ديننا ؟ وإلى جهل هؤلاء الناس بالإسلام حتّى مثل هذا الرجل الذي هو رئيس لجمعية كبيرة فما بالكم بعامّتهم ؟ إذا كان الله قد جعل للنساء على الرجال مثل ما لهم عليهنّ إلاّ ما ميّزهم به من الرياسة ، فالواجب على الرجال بمقتضى كفالة الرياسة ، أن يعلّموهنّ ما يمكنهنّ من القيام بما يجب عليهنّ ، ويجعل لهنّ في النفوس احتراماً يعين على القيام بحقوقهنّ ويسهل طريقه ، فإنّ الإنسان بحكم الطبع يحترم من يراه مؤدّباً عالماً بما يجب عليه عاملا به ، ولا يسهل عليه أن يمتهنه أو يهينه ، وإن بدرت منه بادرة في حقه رجع على نفسه باللائمة ، فكان ذلك زاجراً له عن مثلها . خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات والمعاملات كما خاطب الرجال ، وجعل لهنّ عليهم مثل ما جعله لهم عليهنّ ، وقرن أسماءهنّ بأسمائهم في آيات كثيرة ، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما بايع المؤمنين ، وأمرهنّ بتعلّم الكتاب والحكمة كما أمرهم ، وأجمعت الأمّة على ما مضى به الكتاب والسنّة من أنهنّ مجزيّات على أعمالهنّ في الدنيا والآخرة ، أفيجوز بعد هذا كلّه أن يحرمن من العلم بما عليهنّ من الواجبات والحقوق لربّهنّ ولبعولتهنّ ولأولادهنّ ولذي القربى وللأمّة والملّة ؟ العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجّه النفس إليه ، إذ يستحيل أن تتوجّه إلى المجهول المطلق ، والعلم التفصيلي به ، المبيّن لفائدة فعله ومضرّة تركه ، يعدّ سبباً للعناية بفعله والتوقّي من إهماله ، فكيف يمكن للنساء أن يؤدّين تلك الواجبات والحقوق مع الجهل بها إجمالا وتفصيلا ؟ وكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمّة نصفها كالبهائم لا يؤدّي ما يجب عليه لربّه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس ، والنصف الآخر قريب من ذلك ؛ لأنّه لا يؤدّي إلاّ قليلا ممّا يجب عليه من ذلك ويترك الباقي ، ومنه إعانة ذلك النصف الضعيف على القيام بما يجب عليه من علم وعمل ، أو إلزامه إيّاه بما له عليه من السلطة والرياسة . إنّ ما يجب أن تعلمه المرأة من عقائد دينها وآدابه وعباداته محدود ، ولكن ما يطلب منها لنظام بيتها وتربية أولادها ونحو ذلك من أمور الدنيا كأحكام المعاملات - إن كانت في بيت غني ونعمة - يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال ، كما يختلف بحسب ذلك الواجب على الرجال ، ألا ترى الفقهاء يوجبون على الرجل النفقة والسكنى والخدمة اللائقة بحال المرأة ؟ ألا ترى إنّ فروض الكفايات قد اتّسعت دائرتها ؟ فبعد أن كان اتّخاذ السيوف والرماح والقسي كافياً في الدفاع عن الحوزة ، صار هذا الدفاع متوقّفاً على المدافع والبنادق والبوارج ، وعلى علوم كثيرة صارت واجبة اليوم ، ولم تكن واجبة ولا موجودة بالأمس ، ألم تر إنّ تمريض المرضى ومداواة الجرحى كان يسيراً على النساء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم ، وقد صار الآن متوقّفاً على تعلّم فنون متعدّدة وتربية خاصّة ، أي الأمرين أفضل في نظر الإسلام ؟ أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض ، أم اتّخاذ ممرّضة أجنبية تطّلع على عورته وتكتشف مخبّآت بيته ؟ وهل يتيسّر للمرأة أن تمرّض زوجها أو ولدها إذا كانت جاهلة بقانون الصحّة وبأسماء الأدوية ؟ نعم قد تيسّر لكثيرات من الجاهلات قتل مرضاهنّ بزيادة مقادير الأدوية السامّة ، أو بجعل دواء مكان آخر . روى ابن المنذر والحاكم وصحّحه وغيرهما عن علي كرّم الله تعالى وجهه إنّه قال في تفسير قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم ، والمراد بالأهل النساء والأولاد ذكوراً وإناثاً ، وزاد بعضهم هنا العبد والأمة ، وهو من أهل المكان أهو لا عمر ، وأهل الرجل وتأهّل تزوّج ، وأهل الرجل زوجه ، وأهل بيته الذين يسكنون معه فيه والأصل فيه القرابة . وجمع الأهل أهلون وربّما قيل الأهالي ( المصباح ) وإذا كان الرجل يقي نفسه وأهله نار الآخرة بتعليمهم وتأديبهم ، فهو كذلك يقيهم بذلك نار الدنيا وهي المعيشة المنغّصة بالشقاء وعدم النظام . والآية تدلّ على اعتبار العرف في حقوق كلّ من الزوجين على الآخر ما لم يحلّ العرف حراماً أو يحرّم حلالا ممّا عرف بالنصّ ، والعرف يختلف باختلاف الناس والأزمنة ، ولكن أكثر فقهاء المذاهب المعروفة يقولون إنّ حقّ الرجل على المرأة أن لا تمنعه من نفسها بغير عذر شرعي ، وحقّها عليه النفقة والسكنى إلخ . وقالوا لا يلزمها عجن ولا خبز ولا طبخ ولا غير ذلك من مصالح بيته أو ماله وملكه ، والأقرب إلى هداية الآية ما قاله بعض المحدّثين والحنابلة . قال في حاشية المقنع بعد ذكر القول : بأنّه لا يجب عليها ما ذكر . وقال أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني عليها ذلك واحتجّا بقضيّة علي وفاطمة رضي الله عنهما فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى على إبنته بخدمة البيت ، وعلى علي ما كان خارجاً من البيت من عمل . رواه الجوزجاني من طرق ، قال وقد قال عليه السلام : " لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولو إنّ رجلا أمر امرأته أن تنتقل من جبل أسود إلى جبل أحمر أو من جبل أحمر إلى جبل أسود لكان نولها ( أي حقّها ) أن تفعل ذلك " ورواه بإسناده . قال : فهذا طاعة فيما لا منفعة فيه فكيف بمؤنة معاشه ؟ وقال الشيخ تقي الدين : يجب عليها المعروف من مثلها لمثله . قال في الإنصاف والصواب أن يرجع في ذلك إلى عرف البلد اهـ . وما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم بين بنته وربيبه وصهره ( عليهما السلام ) هو ما تقضي به فطرة الله تعالى ، وهو توزيع الأعمال بين الزوجين ، على المرأة تدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه ، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه . وهذا هو المماثلة بين الزوجين في الجملة ، وهو لا ينافي استعانة كلّ منهما بالخدم والأجراء عند الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه ، ولا مساعدة كلّ منهما للآخر في عمله أحياناً إذا كانت هناك ضرورة ، وإنّما ذلك هو الأصل والتقسيم الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس ، وهم لا يستغنون في ذلك ولا في غيره عن التعاون { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ المائدة : 2 ] . وما قاله الشيخ تقي الدين وما بيّنه به في الإنصاف من الرجوع إلى العرف ، لا يعدو ما في الآية قيد شعرة . وإذا أردت أن تعرف مسافة البعد بين ما يعمل أكثر المسلمين وما يعتقدون من شريعتهم ، فانظر في معاملتهم لنسائهم ، تجدهم يظلمونهن بقدر الإستطاعة ، لا يصد أحدهم عن ظلم امرأته إلاّ العجز ، ويحملونهنّ ما لا يحملنه إلاّ بالتكلّف والجهد ، ويكثرون الشكوى من تقصيرهنّ ، ولئن سألتهم عن اعتقادهم فيما يجب لهم عليهنّ ، ليقولنّ كما يقول أكثر فقهائهم : إنّه لا يجب لنا عليهنّ خدمة ، ولا طبخ ، ولا غسل ، ولا كنس ولا فرش ، ولا إرضاع طفل ، ولا تربية ولد ، ولا إشراف على الخدم الذين نستأجرهم لذلك ، إن يجب عليهنّ إلاّ المكث في البيت والتمكين من الاستمتاع ، وهذا الأمران عدميان أي عدم الخروج من المنزل بغير إذن ، وعدم المعارضة بالاستمتاع ، فالمعنى إنّه لا يجب عليهنّ للرجال عمل قطّ ، ولا للأولاد مع وجود آبائهم أيضاً . وأقول : إنّ هذه مبالغة في إعفائهنّ من التكاليف الواجبة عليهنّ في حكم الشرع والعرف ، يقابلها المبالغة في وضع التكاليف عليهنّ بالفعل ، ولكن الجاهلين بالمذاهب الفقهية يتّهمون رجالها بهضم حقوق النساء ، وما هو إلاّ غلبة التقاليد والعادات مع عموم الجهل . وأمّا قوله تعالى : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } فهو يوجب على المرأة شيئاً وعلى الرجل أشياء . ذلك إنّ هذه الدرجة هي درجة الرياسة والقيام على المصالح المفسّرة بقوله تعالى : { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ } [ النساء : 34 ] فالحياة الزوجية حياة اجتماعية ولا بدّ لكلّ إجتماع من رئيس ، لأنّ المجتمعين لا بدّ أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور ، ولا تقوم مصلحتهم ، إلاّ إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف ، لئلاّ يعمل كلّ على ضدّ الآخر ، فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ، ويختلّ النظام ، والرجل أحقّ بالرياسة لأنّه أعلم بالمصلحة ، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله ، ومن ثمّ كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها ، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف ، فإن نشزت عن طاعته كان له تأديبها بالوعظ والهجر والضرب غير المبرح إن تعيّن تأديباً ، يجوز ذلك لرئيس البيت لأجل مصلحة العشيرة وحسن العشرة ، كما يجوز مثله لقائد الجيش ولرئيس الأمّة ( الخليفة أو السلطان ) لأجل مصلحة الجماعة ، وأمّا الإعتداء على النساء لأجل التحكّم أو التشفّي أو شفاء الغيظ ، فهو من الظلم الذي لا يجوز بحال ، قال صلى الله عليه وسلم : " كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيّته ، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيّته ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها - إلى أن قال - فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته " متّفق عليه من حديث ابن عمر . وسيأتي تفصيل لهذه السلطة في سورة النساء إن شاء الله تعالى . وختم الآية بقوله عزّ وجلّ : { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قال الأستاذ الإمام : إنّ لذكر العزّة والحكمة هاهنا وجهين : أحدهما إعطاء المرأة من الحقوق على الرجل مثل ما له عليها ، بعد أن كانت مهضومة الحقوق عند العرب وجميع الأمم . والثاني جعل الرجل رئيساً عليها ، فكأنّ من لم يرض بهذه الأحكام الحكيمة يكون منازعاً لله تعالى في عزّة سلطانه ، ومنكراً لحكمته في أحكامه ، فهي تتضمّن الوعيد على المخالفة كما عهدنا من سنّة القرآن .