Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 231-231)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا حكم جديد غير ما تقدّم في قوله : { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } [ البقرة : 229 ] فهذه الآية بيان للواجب في معاملة المطلّقات ، ونهي عن ضدّه ، ووعيد على هذا الضدّ ، وإرشاد إلى المصلحة ، والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والإنتهاء عن هذا النهي . وتلك بيان لكيفية الطلاق المشروع وعدده وكون الأصل فيه أن يكون بغير عوض ، وكون أخذ العوض من المرأة لا يحلّ إلاّ بشرط . ولا ينافي هذا ما ورد في سبب نزولها وذكرناه في تفسيرها ، وهو أليق بهذه ، فإنّ هذه الآيات كلّها نزلت في إبطال ما كان عليه الناس من سوء معاملة النساء في الطلاق ، فجميع الوقائع التي كانت تقع على العادات الجاهلية كانت تعدّ من أسباب النزول لها ، وقد ورد في أسباب نزول هذه ما نقله السيوطي في كتابه عن ابن جرير وهو في معنى رواية الترمذي والحاكم هناك قال : أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عبّاس قال : كان الرجل يطلّق امرأته ثمّ يراجعها قبل انقضاء عدّتها ، ثمّ يطلّقها ، ثمّ يفعل ذلك يضارّها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية . وأخرج عن السدي قال نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلّق امرأته حتّى انقضت عدّتها إلاّ يومين أو ثلاثة راجعها ثمّ طلّقها مضارّة فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } اهـ . ولا تحسبنّ أنّ قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ } نزل وحده ، بل القول فيه كالقول في مجموع هذه الآيات في مسائل الطلاق ، نزلت كلّها مرّة واحدة فيما يظهر من سياقها ، ولكن بعد وقوع حوادث جعلت من أسبابها . الأجل في قوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } هو زمن العدّة ، ومعنى بلغن أجلهنّ قاربن إتمام العدّة ، قال القرطبي هذا إجماع لم يفهم أحد من الآية غيره ، وهو مبني على قاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه تجوّزاً قرينته العرف : يقول المسافر بلغنا البلد أو وصلنا إليه إذا دنا منه وشارفه . وقوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } معناه فاعزموا أحد الأمرين - إمساك المرأة بالمراجعة أو إطلاق سبيلها - وليكن ما تختارونه من أحد الأمرين بالمعروف الذي شرّع لكم في آية الطلاق مرّتان { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } أي ولا تراجعوهن إرادة مضارّتهنّ وإيذائهنّ للإعتداء عليهنّ بتعمّد ذلك ، فالضرار بمعنى الضرر ، وذكر بالصيغة التي تأتي للمشاركة للإشعار بأنّ ضرّه إيّاها يستلزم ضرّها إيّاه ، فالرجال يضرّون أنفسهم بإيذاء النساء ، ويؤيّد هذا قوله { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } في الدنيا بسلوك طرق الشرّ والاعتداء ، التي لا راحة لضمير صاحبها ، ويجعل المرأة وعصبتها أعداء له يناصبونه ويناوئونه ، والعدو القريب أقدر على الإيذاء من العدو البعيد . وبتنفير الناس منه ، حتّى يوشك ألا يصاهره أحد ، وظلم نفسه في الأخرى أيضاً بما خالف أمر الله وتعرّض لسخطه . ثمّ قال تعالى : { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً } وهذا وعيد بعد وعيد ، وتهديد لمن يتعدّى حدود الله في هذه الأحكام أي تهديد ، والسبب فيه حمل المسلمين على إحترام صلة الزوجية ، وتوقّي ما كانوا عليه في عهد الجاهلية ، فقد كانوا يتّخذون النساء لعباً ، ويعبثون بطلاقهنّ وإمساكهنّ عبثاً ، وفي أسباب النزول : أخرج ابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلّق ثمّ يقول : لعبت ، ويعتق ثمّ يقول : لعبت ، فأنزل الله { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً } أي أنزله فيما أنزل من آيات أحكام الطلاق ، لا أنّه أنزله على حدة كما تقدّم نظيره في نظيره ، والمعنى : لا تتهاونوا بحدود الله تعالى التي شرّعها لكم في آية ، جرياً على سنن الجاهلية ، فإنّ هذا التهاون والإعتداء للحدود بعد هذا البيان والتأكيد من الله تعالى ، يعدّ استهزاءً بآياته ، ومن هنا قال بعض السلف : المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه ، ولا شك أنّ الذي يخالف أمر الله وينقض هذه العهود بعد توثيقها طلباً لشهوة من شهواته ، أو استمساكاً بعادة من عاداته ، فهو جدير بأن يعدّ مستهزءاً بآيات الله غير مذعن لها . بعد التحذير من التهاون بحقوق النساء ، وجعل العابث بأحكام الله فيها مستهزئاً بآياته - وفي ذلك من الوعيد والترهيب ما فيه - أراد تعالى أن يقرّر هذه الأحكام في النفوس بباعث الترغيب فيها ، بالتذكير بفوائدها ومزاياها ، وبيان المنّة في هداية الدين التي هي منها ، فقال : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } أي امتثلوا ما ذكر آنفاً من أمر ونهي ، وتذكّروا نعمة الله عليكم بالفطرة السليمة في الرابطة الزوجية المعبّر عنها بقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم : 21 ] وما أنزله عليكم من آيات الأحكام المكمّلة للفطرة في الزوجية والحكمة فيها ، حال كونه يعظكم بالجمع بينهما ( أي الأحكام وحكمتها ) فإنّ معرفة الشيء مع حكمته ، هي التي تحدث العظة والعبرة الباعثة على الامتثال ، ولا يبعد أن تكون هذه الآيات النفسية هي المرادة بقوله تعالى : { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً } . وقد أفسد على الناس تلك المودّة والرحمة ، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة ، وأضعف في نفوس الأزواج ذلك السكون والإرتياح ، غرور الرجال بالقوّة وطغيانهم بالغنى ، وكفران النساء لنعمة الرجال ، وحفظ سيّئاتهم ، وتماديهن في الذمّ لها والتبرّم بها ، وما مضت به عادات الجاهلية في بعض المتقدّمين وعادات التفرنج في المعاصرات والمعاصرين ، وقلّد به الناس بعضهم بعضاً ، فالله سبحانه وتعالى ذكّرنا أولا بنعمته علينا في أنفسنا ؛ لنزيح عن الفطرة السليمة ما غشيها بسوء القدوة واتّباع الهوى ، ونشكرها له سبحانه بالمحافظة عليها بتمكين صلة الزوجية وإحترامها وتوثيقها ، وثانياً بهذا الدين القويم الذي هدانا إلى ذلك ، وحدّ لنا كتابه الحدود ، ووضع الأحكام مبيّناً حكمها وأسرارها ، مؤيّداً لها بالوعظ السائق إلى اتّباعها . وما ذكّرنا بالكتاب هنا إلاّ لنجعله إماماً لنا في تقويم الفطرة ، على ما مضت به السنّة وعزّزته الحكمة ، ولكنّنا قد أعرضنا عنه ، فمن نظر في شيء من هذه الأحكام فإنّما ينظر فيما كتبه بعض البشر ممّا هو خلو من حكمة التشريع ، غير مقرون بشيء من الترغيب والترهيب ، فهو لا يحدث للنفوس عظة ولا ذكرى ، ولا يبعث في القلوب هداية ولا تقوى ، على إنّ أكثر المسلمين لا ينظر فيها ، ولا يسأل العارفين بها عنها ، إلاّ أن يكون لأجل الإستعانة على حقوق يهضمها ، أو صلات يقطعها وعرى يفصمها ، فهو يستفتي غالباً ليأمن مؤاخذة الحكّام لا ليقيم حدود الإسلام ، وإذا قام فيهم داع يدعو إلى الله ، ويذكر المؤمنين بآيات الله ، رماه الرؤساء بسهام الملام ، وأغروا به الساسة وأهاجوا عليه العوام ، خائفين أن يحيي ما أماتوه من الإجتهاد في فهم الكتاب والسنّة ، زاعمين إنّه يبطل مذاهب الأئمّة ، على إنّ التذكير هو الذي يحيي علم المجتهدين ؛ لأنّهم كانوا مذكّرين به ومبيّنين ، لا صادّين عنه ولا ناسخين ، وما كلّ من اهتدى بهديهم في التذكير والتبيين يلحقهم في الإستنباط والتدوين . فيا أيّها العلماء أحيوا كتاب الله ، فوالله إنّه لا حياة لهذه الأمّة بسواه ، ولذلك عادت بترك هديه إلى عادات الجاهلية ، وما هو شرّ منها من إباحة الإفرنج العصرية ، اتّباعاً للهوى ونزغات البهيمية . هذا وإنّ جمهور المفسّرين فسّروا نعمة الله هنا بالدين والرسالة ، وجعلوا ما أنزل من الكتاب والحكمة تفصيلا للنعمة المجملة . قال الأستاذ الإمام ( واذكروا نعمة الله عليكم ) بإرسال هذا الرسول ، وبيان الحدود والحقوق التي تحفظ لكم الهناء في الدنيا ، وتضمن لكم السعادة في الآخرة ، وذكر إنّ ما بعد هذا تفصيل له ، وفسّر الحكمة بسرّ الكتاب ، ثمّ قال : وفي النعمة وجه آخر ، وهي هذه الرحمة التي جعلها الله بين الرجال والنساء ، وامتنّ بها علينا في قوله : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم : 21 ] وإنّما أوردنا هذا الوجه أولا بالبيان والتفصيل ؛ لأنّه هو المختار عندنا ، وذهب بعضهم إلى إنّ النعمة هنا عامّة تشمل نعم الدنيا والدين . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أمر بعد كلّ ما تقدّم من التأكيد والتشديد والتهديد بتقواه بامتثال أمره ونهيه زيادة في العناية بأمر النساء وصلة الزوجية ، وهو ما تقتضيه البلاغة في هذا المقام ، مقاومة لما ملك النفوس قبل ذلك من عدم المبالاة بعقد الزوجية ، إذ كانوا يرونه كعقد الرقّ والبيع والإجارة في المتاع الخسيس والنفيس ، بل كانوا يرونه دون ذلك ؛ لأنّ الرجل لم يكن يشتري متاعاً ، ثمّ يرمي به في الطريق زهداً فيه ، ولم يكن يمسك قنّه ليعذّبه وينتقم منه ، ولكنّهم كانوا يطلّقون المرأة لأدنى سبب ، كالملل والغضب ، ثمّ يعودون إليها يفعلون ذلك المرّة بعد المرّة ، وكانوا يمسكونها للضرار والإهانة كما تقدّم آنفاً ، وقد يستبدل الواحد منهم امرأة الآخر بامرأته . فاعتياد هذه المعاملة السوءى والأنس بها لا تكون مقاومته ، إلاّ بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة في تأكيده بالترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، إذ لا يسهل على الرجل الذي كان يرى المرأة مثل الأمة أو دونها أن يساويها بنفسه بمجرّد الأمر ، ويرى لها عليه مثل ما له عليها ، ويحظر على نفسه مضارّتها وإيذاءها ، ويلتزم معاملتها بالمعروف في حال إمساكها عنده ، وفي حال تسريحها إن اضطرّ إليه ، ولكن هذه العظات والتشديدات المشتملة على الإقناع وبيان المصلحة ، هي التي تعمل في نفسه ، وتؤثّر بتكرارها في قلبه ، وإن كان كالحجارة في القسوة . @ أما ترى الحبل بتكراره في الصخرة الصمّاء قد أثّرا @@ نعم إنّه قد كان له أحسن التأثير في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام ، وفيمن اتّبعهم بإحسان ، ثمّ خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن ، وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام ، حتّى صاروا شرّاً ممّا كان عليه أهل الجاهلية وسائر الأمم من ظلم النساء ، فلم يتّقوا الله في ذلك ولا تدبّروا قوله بعدما تقدّم . وقوله : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهو أبلغ في موضعه من كل ما تقدّم من التأكيد والتشديد في حقوق النساء ؛ لأنّ الإنسان قد يراعي الأحكام الظاهرة بقدر الإمكان بغير إخلاص ، فيطبّق العمل على الحكم على وجه يعلم إنّ من ورائه ضرراً ، فهذه الجملة تذكّره بأنّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء ممّا يسرّه العبد أو يعلنه ، فلا يرضيه إلاّ إلتزام حدوده والعمل بأحكامه ، مع الإخلاص وحسن النيّة ، حتى يكون ظاهره كباطنه في الخير ، ولا يتمّ له ذلك إلاّ بمراقبة الله تعالى في عمله ، والعلم اليقين بأنّه مطّلع عليه فيه ، لا يبيّت قولا أو فعلا ، ولا ينوي خيراً أو شرّاً ، ولا يطوف في ذهنه خاطر ، ولا تختلج في قلبه خلجة ، إلاّ وهو سبحانه عالم بذلك ومطّلع عليه ، فلا طريق له إلى مرضاة ربّه إلاّ بتطهير قلبه ، وإخلاص نيّته في معاملة زوجه ، وفي سائر المعاملات . قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : من حسنت نيّته ، حسن عمله غالباً ، بل كان موفقاً دائماً أقول : ومن التوفيق أن يستفيد من خطئه الذي لم يرد به سوءاً ، فيعرف كيف يتوقّى مثل هذا الخطأ ، ويزداد بصيرة في الخير ، فليزن المؤمنون أنفسهم بميزان هذه الآية الكريمة وأمثالها ، وهي الموازين القسط ، ليعلموا أنّ منشأ فساد البيوت وشقاء المعيشة ، هو الإعراض عن هدي الكتاب المبين ، وأنّه لا سبيل إلى السعادة إلاّ بالرجوع إليه ، وفّقنا الله لذلك بمنّه وكرمه .