Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 265-266)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول : ذاك الذي تقدّم هو مثل أهل الرياء ، وأصحاب المنّ والإيذاء ، { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي لطلب رضوان الله ولتثبيت أنفسهم وتمكينها في منازل الإيمان والإحسان حتّى تكون مطمئنة في بذلها لا ينازعها فيه زلزال البخل ولا إضطراب الحرص لإيثارها حبّ الخير عن أمر الله على حبّ المال ، عن هوى النفس ووسوسة الشيطان . وإنّما يكون هذا التثبيت بتعويد النفس على البذل حيث يفيد البذل حتّى يصير الجود لها طبعاً وخلقاً . وإنّما قال : " من أنفسهم " ولم يقل لأنفسهم لأنّ إنفاق المال في سبيل الله يفيد بعض التثبيت والطمأنينة ، وإنّما كمال ذلك ببذل الروح والمال جميعاً في سبيله كما قال تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] وقد هدانا تعليل الإنفاق بهاتين العلّتين إلى أن نقصد بأعمالنا أمرين . أوّلهما : ابتغاء رضوانه لذاته تعبّداً له . وثانيهما : تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حبّ المال . على أنّ هذا وسيلة لذاك وفائدة كلّ من الأمرين عائدة علينا والله غني عن العالمين . فإذا صدقنا في القصدين صدق علينا هذا المثل وكنّا في نفع إنفاقنا { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي بستان بمكان مرتفع من الأرض - قرأ ابن عامر وعاصم بفتح راء ربوة والباقون بضمّها - قالوا : وما كان كذلك من الجنّات كان عمل الشمس والهواء فيه أكمل فيكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً أمّا الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلاّ قليلاً فلا تكون كذلك . وقال بعضهم واختاره الإمام الرازي إنّ المراد بالربوة الأرض المستوية الجيّدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو كما قال { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ } [ الحج : 5 ] الآية ويؤيّده كون المثل مقابلاً لمثل الصفوان الذي لا يؤثّر فيه المطر . { أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } أي فكان ثمرها مثلي ما كانت تثمر في العادة أو أربعة أمثاله على القول بأنّ ضعف الشيء مثله مرتين . والأكل كلّ ما يؤكل وهو بضمّتين وتسكن الكاف تخفيفاً ، وبها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } أي فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها لجودة تربتها وكرم منبتها وحسن موقعها والطل المطر الخفيف المستدقّ القطر . أقول : وقد عرف بالاختبار أنّ الأرض الجيّدة في المواقع المعتدلة يكفيها القليل من الري لرطوبة ثراها وجودة هوائها فإنّ الشجر يتغذّى من الهواء كما يتغذّى من الأرض والمعنى : أنّ هذه الجنّة أُكلها دائم وظلّها ، كثر ما يصيبها من المطر أو قلّ فإن لم يكن ثمرها مضاعفاً لم يكن معدوماً فإذا لا يكون طالبه قطّ محروماً . ووجه الشبه عندي أنّ المنفق ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفسه هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه كالجنّة الجيّدة التربة الملتفة الشجر العظيمة الخصب في كثرة برّه وحسنه . فهو يجود بقدر سعته فإن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدره . فخيره دائم وبرّه لا ينقطع ، لأنّ الباعث عليه ذاتي لا عرضي كأهل الرياء وأصحاب المنّ والإيذاء . هذا ما سبق إلى فهمي عند الكتابة . فالوابل والطل على هذا عبارة عن سعة الرزق وما دون السعة . ثمّ رجعت إلى ما كتبت في مذكّرتي عن الأستاذ الإمام فإذا هو قد قال في الدرس إن النيّة الصالحة في الإنفاق كالوابل للجنّة فبها تكون النفقة نافعة للناس ، لأنّ أصحابها يتحرّون فيضعون نفقتهم موضع الحاجة لا يبذّرون بغير رويّة ، ثم قال عند ذكر الطل : أي أنّ أمثال هؤلاء المخلصين لا يخيب قاصدهم لأنّ رحمة قلوبهم لا يغور معينها فإن لم تصبه بوابل من مَنّ عطائها لم يفته طله فهم كالجنّة التي لا يخشى عليها اليبس والزوال . وقد ختم الآية بقوله عزّ وجلّ : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ليذكّرنا بأنّه لا يخفى عليه المخلص من المرائي تحذيراً لنا من الرياء الذي يتوهّم صاحبه أنّه يغشّ الناس بإظهاره خلاف ما يضمر . فكأنّه يقول الله لا يخفى عليه ما تنطوي عليه سريرتك أيّها المنفق فعليك أن تخلص له . وأمّا المثل الثاني فقوله : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ } . المفردات : ودّ الشيء أحبّه مع تمنّيه . والأعناب جمع عنب وهو ثمر الكرم الطري واحدته عنبة والنخيل جمع نخل أو اسم جمع وهو شجر التمر يذكّر ويؤنث وواحدته نخلة والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره وقالوا في تعليل ذلك إنّ كلّ شيء في النخيل نافع للناس في ارتفاقهم : ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيله فمنه يتّخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغير ذلك . والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثمّ تنعكس عنها إلى السماء حاملة للغبار فتكون كهيئة العمود جمعه أعاصر وأعاصير . والمراد بالنار السموم الشديد أو البرد الشديد روايتان عن السلف ذكرهما ابن جرير بأسانيده وهو دليل على أنّ النار تطلق على كلّ ما يحرق الشيء ولو بتجفيف رطوبته ، والصرّ أي البرد الشديد كالحرّ الشديد في ذلك كلاهما يحرق الشجر والنبات . التفسير : الاستفهام لإنكار وقوع أن يودّ الإنسان لو تكون له جنّة معظم شجرها الكرم والنخل اللذان هما أجمل الشجر وأنفعه ، كثيرة المياه حاوية لأنواع من الثمرات الكثيرة قد نيطت بها آماله ، ورجا أن ينتفع بها عياله ، ويصيبه الكبر الذي يقعده عن الكسب في حال كثرة ذريته وضعفهم عن أن يقوموا بشأنه وشأنهم حتّى لا يبقى له ولا لهم مورد للرزق غير هذه الجنّة وبينا هو كذلك إذا بالجنّة قد أصابها الإعصار ، فأحرقها بما فيه من سموم النار ، وقد اختلف في تفسير { لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } مع كون الجنّة من نخيل وأعناب فقال بعضهم إنّ المراد بالثمرات هنا المنافع أي هو متمتع بجميع فوائدها : وقيل المعنى . له فيها رزق من كلّ الثمرات على حدّ { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي ما منّا أحد إلاّ له إلخ وقيل إنّ { مِن } بمعنى بعض وهي مبتدأ . وقال الأستاذ الإمام ما معناه : إذا التفتنا عن قواعد النحو الوضعية ، ولم نلتزم تعليلاتها وتدقيقاتها الفلسفية ، وكسرنا قيود سيبويه والخليل ، أمكننا أن نفهم العبارة من غير تقدير ولا تأويل ، فإنّ العربي الصريح ، الذي طبع على القول الفصيح ، لا يفهم من قولك عندي من كلّ شيء ، أولى في بستاني من كلّ ثمر إلاّ أنّك تريد إنّ لك حظاً من كلّ شيء وسهماً من كلّ ثمر لا يحتاج في ذلك إلى تقدير قول محذوف ، ونظم غير مألوف ، وهذا هو الصواب ، فطبّق عليه ولا تطبّقه على قواعد الإعراب . أمّا وجه التمثيل فقد خصّوه بالمرائي وقالوا إنّ المعنى أنّه سيكون في يوم القيامة عند شدّة الحاجة إلى ثواب نفقته التي راءى بها كذلك الشيخ الكبير الذي إحترقت جنّته التي لا معاش له سواها عندما كثر عياله الضعفاء وعجز هو عن العمل فلا يملك من ثوابها شيئاً ولا يقدر أن يكسب ما يغنيه عنه . وأقول : إنّ المثل ينطبق أيضاً على من أبطل صدقته بالمنّ والأذى وأنّه ليس خاصاً بالآخرة فإنّ باذل المال للفقراء وفي المصالح العامّة يكون له من الجاه والمكانة عند الناس ما يشبه تلك الجنّة التي وصفها المثل في رونقها ومنافعها ، ويوشك أن يذهب مال هذا المنفق وتشتدّ حاجته وتقصر يده حتّى لا يكون له مرتزق إلاّ ما غرسته يده من جنّته تلك فيحاول أن يجني منها فيحول دون ذلك إعصار من المنّ والأذى أو من ظهور الرياء فيحرقها حتّى تكون كالصريم لا تؤتي ثمرتها ، ولا تسرّ رؤيتها ، كذلك تكون عاقبة أهل الرياء وذوي المنّ والإيذاء ، ينبذهم الناس ، عند شدة حاجتهم إلى الناس ، ولذلك أرشدنا تعالى بعد المثل ، إلى التفكّر في عاقبة هذا العمل ، فقال : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ } أي إنّه تعالى يبيّن لكم الآيات الدالّة على حقائق الأمور وغاياتها وفوائدها وغوائلها مثل هذا البيان البارز في أبهى معارض التمثيل { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } في العواقب فتضعون نفقاتكم في المواضع التي يرضاها مع الإخلاص وقصد تثبيت النفس حتّى لا يستحفّها الطيش والإعجاب ، فيدفعها إلى المنّ والأذى . ثمّ قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ … } .