Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 272-273)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدّقوا إلاّ على أهل دينكم " فأنزل الله تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عبّاس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم " كان يأمرنا أن لا نتصدّق إلاّ على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية " وأخرج ابن جرير عنه أنّه قال : " كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة ، وكانوا يتّقون أن يتصدّقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت " والمعنى أنّ هذه الوقائع تقدّمت نزولها ؛ فلمّا نزلت كانت فصلاً فيها ، وإلاّ فهي مرتبطة بما قبلها وما قبلها نزل في الفقراء عامّة . قال الأستاذ الإمام : إنّ الآية السابقة قد أطلقت إيتاء الفقراء وجعلته على عمومه الشامل للمؤمن والكافر . وقد أرشد الله المسلمين في هذه الآية إلى عدم التحرّج من الإنفاق على المشركين لأنّهم غير مهديين ، فإنّ الرحمة بالفقير وسدّ خلّته لا ينبغي أن تتوقّف على إيمانه ، بل من شأن المؤمن أن يكون خيره عامّاً ، وأن يكون سابقاً لسائر الناس بالكرم والفضل . أقول : والخطاب على ما ورد في حديث سعيد وحديث ابن عبّاس الأول خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لنهيه عن الإنفاق . وعلى هذا فالتوجيه عام موجّه إلى المؤمنين كافّة وإن جاء بضمير المخاطب المفرد . ويؤيّده كونه في سائر الآية بضمائر جمع المخاطبين . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلّف هداية الكافرين بالفعل وإنّما كلّف البلاغ فقط ، وأعلم أنّ أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربّهم وما وضعه لسير عقولهم وقلوبهم من السنن فغيره أولى بألا يكلّف ذلك . فليس علينا إذن أن نمنع الخير عن الكافر عقوبة له على كفره أو جذباً له إلى الإيمان واضطراراً له إلى الهداية ، فإنّ الهداية ليست علينا { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } بتوفيقه إلى النظر الصحيح المؤدّي إلى الإعتقاد الجازم الذي يثمر العمل . وأمّا الباعث على الإنفاق فيجب أن يكون ما أرشدنا إليه سبحانه في قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } إلخ . قالوا معنى هذا أنّ نفع الإنفاق في الآخرة خاص بكم . هكذا صرّح بعضهم بتقييد النفع بالآخرة وقال الأستاذ الإمام هنا : أي لأنّ نفعه عائد عليكم في الدنيا والآخرة . وسيأتي أنّه يجعله خاصّاً بالدنيا . ومعنى كونه خيراً في الدنيا أنّه يكفّ شرّ الفقراء ويدفع عنهم أذاهم فإنّ الفقراء إذا ضاق بهم الأمر واشتدّت بهم الحاجة يندفعون إلى الإعتداء على أهل الثروة بالسرقة والنهب والإيذاء بحسب استطاعتهم . ثمّ يسري شرّهم إلى غيرهم وربّما صار فساداً عامّاً بسوء القدوة ، فيذهب بالأمن والراحة من الأمّة ، وقد تقدّم لهذا الكلام نظير في موضع آخر . قال : وقوله تعالى : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ } قد يكون خبراً على ظاهره ، أي لا تنفقون لأجل جاه أو مكانة عند المنفق عليه وإنّما تنفقون لوجه الله فلا فرق بين معطي ومعطى إلا إذا كان الفقير مستحقّاً يتقرّب بإزالة ضرورته إلى الرزاق الرحيم الذي لم يحرم أحداً من رزقه لإعتقاده . أقول : ويؤيّده قوله : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [ الإسراء : 20 ] . قال : وفي كون الإنفاق لا يكون إلاّ لوجه الله إشارة إلى أنّ الإنفاق على الكافرين إذا كان إعانة لهم على إيذاء المسلمين لا يكون جائزاً ، لأنّه لا يكون مرضيّاً لله تعالى يبتغي به وجهه . وأكثر المفسّرين على أنّه خبر بمعنى النهي ، أي لا تنفقوا إلاّ لوجهه وابتغاء مرضاته عزّ وجلّ . ثمّ قال في قوله تعالى : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي في الآخرة لا ينقصكم منه شيء ، وعد أولاً بأنّ خير الإنفاق عائد على المنفقين في الدنيا بقوله : { فَلأَنْفُسِكُمْ } ثمّ وعد بالجزاء عليه في الآخرة موفّى تامّاً ، وقال : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي لا تنقصون من الجزاء عليه شيئاً ولو نقيراً أو فتيلاً . أقول : وقد رأيت أنّه جعل هنا قوله تعالى : { فَلأَنْفُسِكُمْ } خاصّاً بالدنيا وما نقلناه عنه أولاً من أنّه عام قد قاله في الدرس ، فهل كان سبق لسان أم رجع عنه عند تمام تفسير الآية ، وكيف فاتنا أن نسأله عن ذلك ؟ هذا ما وجدته في مذكّرتي لا أذكر شيئاً غير ذلك . أقول : والذي كان تبادر إلى فهمي من قوله تعالى : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ } أنه بمعنى { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 265 ] أي إنّ أي نفقة من الخير أنفقتم فهي تفيدكم في تثبيت أنفسكم في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان ، والحال أنّكم ما تنفقون ذلك إلاّ ابتغاء وجه الله وإرادة رضوانه . ومتى كان الإنفاق كذلك كان مزكّياً ومثبتاً للنفس معدّاً لها ، ومؤهلاً لرضوان الله لا يمنع من ذلك كون المنفق عليه مؤمناً أو كافراً إذ الإنفاق ليس لأجل التقرّب إليه وابتغاء الأجر منه وبعد أن ذكر الفائدة الذاتية للإنفاق في نفس المنفق ذكر الجزاء عليه بقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } إلخ أي وإنّكم على استفادتكم من الإنفاق في أنفسكم بترقيتها وجعلها مستحقّة لقرب الله ورضوانه ، لا يضيّع عليكم ما تنفقونه بل توفّونه لا تظلمون منه شيئاً - ويدخل في ذلك الأجر عليه في الدنيا والآخرة . والكلام على هذا التفسير أشد التئاماً ، وأحسن نظاماً ، فالجملتان الشرطيتان فيه متعاطفتان وقوله : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ } جملة حالية قيد في الشرطية الأولى وللإنفاق على هذا فائدتان أُولاهما وهي المقصودة بالذات : تثبيت نفس المنفق وترقيتها بالإخلاص لله ابتغاء وجهه . والأخرى الثواب عليه في الدنيا والآخرة وهي دون الأولى عند العارفين . وابتغاء وجه الله بالعمل هو أن يعمل له دون سواه تقرّباً إليه وإرضاءً له لذاته لا للتشوّف إلى شيء آخر ، كأنّ المراد بذلك عرضه عليه ومقابلته به فقط . ولا يفهم هذا حقّ فهمه إلاّ من عرف مراتب الناس ومقاصدهم في خدمة الملوك . ذلك أنّ منهم من يعمل للملك خوفاً من العقوبة على ترك ما فرضه عليه قانونه أو التقصير فيه . ومنهم من يعمل لأجل اقتضاء الأجر الذي فرض للعمل فهو لا يفكّر في غيره . ومنهم من يعمل فيجيد العمل لأجل الإرتقاء من جزاء إلى أكبر منه ، ومنهم - وهو أعلاهم مرتبة - من يعمل العمل الحسن المرضي للملك لأجل أن يكون في نظره محسناً عارفاً قيمة العمل الذي أمر به وما وراءه من الحكمة التي كانت علّة الأمر فمثل هذا يصحّ أن يقال فيه إنّه مبتغ وجه الملك أي أن يكون في الجهة التي يراه فيها محسناً . فإنّ من يتعرّض لأن يرى فإنّما يأتي من تلقاء الوجه . ومن الناس من يعمل العمل لا يبتغي به إلاّ أن يواجه الناس - لا الملوك خاصّة - بما يعتقدون أنّه كمال لا يبتغي غير ذلك جلب نفع أو دفع ضرّ . فأرشد الله الإنسان أن يكون في عمله الصالح مع الله تعالى كذلك ، أي أن يكمل نفسه بالعمل ويبتغي أن يراه الله تعالى كاملاً يعمل العمل لأنّه حسن تتحقّق به حكمته تعالى ، وتقوم به سننه في صلاح البشر . ولك أن تقول : إنّ معنى ابتغاء وجه الله تعالى هو طلب إقباله ومحبته للعامل ، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف : { ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [ يوسف : 9 ] فمعنى خلو وجهه لهم أن لا يشاركهم في إقباله عليهم ومحبّته لهم مشارك . ولبعض الصوفية منزع دقيق في معنى وجه الله وهو أنّ لكلّ شيء وجهين وجهاً إلى هذا العالم الحادث وهو ما يكون عليه فيه ولا بقاء له لأنّ جميع المحدثات عرضة للزوال ووجهاً إلى الدوام والبقاء وهو وجه الله تعالى ، فمعنى إبتغاء وجه الله بالإنفاق على هذا النزع أن يقصد به ثمرته الدائمة في الآخرة ، وهي إنّما تكون بارتقاء النفس في الكمال الذي يؤهّلها للبقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر . إذا فهمت هذا علمت أنّه لا حاجة هنا إلى إيراد طريقتي السلف والخلف في المتشابهات وآيات الصفات ، كأن نقول إنّ الوجه صفة لله تعالى أو أنّها كناية عن الذات ، حتّى يكون المعنى على الأول وما تنفقون إلاّ ابتغاء صفة الله التي سمّاها وجهاً ، وآمنّا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات المحدثين - وعلى الثاني وما تنفقون إلاّ ابتغاء ذات الله تعالى . هذا ما لا يظهر معه للآية معنى ، وكلّ ما ذكرناه في تفسيرها أظهر منه وأجلى ، وقد رأيت أنّ الأستاذ اكتفى كالمفسّرين بجعله معنى مرضاة الله تعالى . وهو صحيح . ثمّ قال تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } الآية . قال الأستاذ الإمام : بعد ما أمر الله تعالى بالإنفاق في سبيله وبإيتاء الفقراء عامّة نبّه إلى أمرين أحدهما عدم التحرّج من الصدقة على غير المسلم وهو ما بيّنته الآية السابقة وثانيهما بيان أحقّ الناس بالصدقة وهم الفقراء الذين ذكرت صفاتهم في هذه الآية . وهي خمس صفات من أفضل الصفات وأعلاها ، وقد ورد أنّها نزلت في أهل الصفة وهم أربع مائة أرصدوا أنفسهم لحفظ القرآن والخروج مع السرايا : - ولعلّ ما ذكره كغيره هو أكثر ما انتهى إليه عددهم والمشهور أنّ متوسط عددهم كان ثلاث مائة والذين عرفت أسماؤهم منهم لا يبلغون مائة . وهم من فقراء المهاجرين لم يكن لأكثرهم مأوى لذلك كانوا يقيمون في صفة المسجد وهي موضع مظلّل منه فالصفة بالضمّ كالظلّة لفظاً ومعنًى - قال : أولئك الذين نزلت فيهم الآية كانوا من الذين هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها فهم محصرون في سبيل الله بهذه الهجرة ومحصرون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن . وقد كان حفظه أفضل العبادات على الإطلاق لأنّه حفظ للدين كلّه وأنتم تعرفون أنهم ما كانوا يحفظونه لأجل تلاوته أمام الجنائز ، ولا في الأعراس والمآتم ، ولا لاستجداء الناس به ولا لمجرد التعبّد بتلاوة ألفاظه وإنّما كانوا يحفظونه للفهم والاهتداء والعمل به ، ولحفظ أصل الدين بحفظه . وكانوا أيضاً يحفظون ما يبيّنه به النبي صلى الله عليه وسلم من سنّته . قال : ويحتجّ بأهل الصفة أكلة أموال الناس بالباطل من أهل التكايا الذين ينقطعون إليها تاركين للأعمال النافعة ، فلا يتعلّمون العلم ولا يجاهدون في سبيل الله وليس فيهم صفة من الصفات الخمس التي وصف الله بها أهل الصفة . وإنّما قصارى أمرهم أنّهم يأكلون بدينهم يأكلون الصدقات والأوقاف لأجل أن يعبدوا الله تعالى في هذه المواضع خاصّة . فهي لهم كالأديار للنصارى وهم فيها كالرهبان وإن كان بعضهم يتزوّج - وقد يخرج الذي يتزوّج من التكية لأنّه قد يكون من شروط المقيم فيها أن لا يتزوّج - ومنهم من لا يلتزم الإقامة في التكية وإنّما يجمعه بأصحابها اسم الطريقة ، كأصحاب السيارات الذين ينزل شيخ الطريقة منهم بزعنفة من جماعته بلداً بعد آخر فيكلّفون من يستضيفونه الذبائح والطعام الكثير ، ثمّ لا يخرجون إلاّ مثقلين ، يسألون فيحلفون ، بل يسلبون وينهبون ، فإذا منعوا ما أرادوا انتقموا لأنفسهم بكلّ ما قدروا عليه من أنواع الإنتقام . أقول : إنّ الناس يحفظون عنهم شيئاً كثيراً من ضروب الإيذاء ، ومنه ما يبرزونه في معرض الكرامات والخوارق حدّثني غير واحد أنّ من الفلاحين من قصر في إجابة مطالب بعض الشيوخ عندما نزل وزعنفته به فأحرقوا له جرن ( بيدر ) الحنطة وزعموا أنّ الله أحرقه بغير فعل فاعل كرامة لشيخهم . وحدثت أنّ بعضهم اتّخذ في رأس العلم الذي يحمل فوق رأسه عدسية من الزجاج كان يوجّهها من ناحية الشمس إلى الجرن الذي يريد إحراقه من حيث لا يشعر الفلاحون . ويقول إنّه يريد التصرف فيه فيقع الحريق فيه ولم يدن أحد منه ، فلا يشكّ الفلاحون الجاهلون في أنّ الحريق كان كرامة للشيخ الذي لا حرفة له إلاّ أكل أموال الناس بالكذب على الله تعالى وإدّعاء الولاية والقرب منه . وهؤلاء الأشرار الضالّون هم الذين يشبهون أنفسهم بأهل الصفة ، ويزعمون أنّه لأكلهم أموال الناس بالباطل أصلاً في الكتاب والسنّة ، وحاش لكتاب الله وسنّة رسوله من ذلك . ما ذكره الأستاذ الإمام من نزول الآية في أهل الصفة هو المروي عن ابن عبّاس ومحمّد بن كعب القرظي . وعن سعيد بن جبير أنّها نزلت في قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمني فجعل لهم في أموال المسلمين حقّاً . والقاعدة الأصولية : أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . فكلّ من اتّصف بهذه الصفة من الفقراء كان له حكم من نزلت فيهم الآية من استحقاق الصدقة . وقد رأيت المفسّرين أوجزوا في تفسير هذه الصفات فأحببت أن أبسط القول فيها فأقول : الصفة الأولى : الإحصار في سبيل الله فقوله تعالى : { أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } بالبناء للمفعول يدلّ على أنّ المراد بالإحصار المانع من الكسب ما كان ترك الكسب فيه بسبب اضطراري ويفهم منه أنّ حبس النفس في سبيل الله أي في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح كالجهاد والعلم لا ينبغي أن يمنع الإنسان عن الكسب الذي يستطيعه للقيام بأوده بل يطلب منه أن يعمل للمصلحة العامّة في أوقات الفراغ من العمل الذي به قوام معيشته فإنّ ترك الكسب مختاراً لم يحلّ له أن يأخذ الصدقة . أمّا السبب الاضطراري للإحصار عن الكسب فمنه ما هو طبيعي كالعجز وما هو شرعي كالعلم بتعطيل المصلحة العامّة التي أحصر فيها إذا هو تركها لأجل الكسب فإن تعيّن بعض الناس لذلك بأن كان غيرهم يعجز عن القيام بالمصلحة وكان جمعهم بينه وبين الكسب متعذّراً وجب عليهم ترك الكسب وحبس أنفسهم في سبيل الله وكانوا بذلك محصرين بالإضطرار الشرعي ، ووجبت نفقتهم في بيت المال ، وإلاّ فعلى أغنياء الأمّة . وإن لم يتعيّن لذلك أناس مخصوصون كان الأمر من فروض الكفاية كما هو ظاهر . ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية . الصفة الثانية : قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ } أي إنّهم عاجزون عن الكسب . والضرب في الأرض هو السفر لنحو التجارة ، وبذلك فسّره المفسّرون هنا . وهذا يؤيّد ما قلناه آنفاً من اشتراط الإضطرار فيما يحصر عنه وإن كان ما يحصر فيه اختيارياً ، وأنّ القادر على الكسب ولو بالسفر لا يحلّ له أن يأكل الصدقة . الصفة الثالثة : قوله : { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } أي إذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم يظنّهم أغنياء لما هم عليه من التعفّف وهو المبالغة في التنزّه عن الطمع فيما في أيدي الناس وكلّ ما لا يليق كالقبيح والمحرّم . وقد فسّر أهل اللغة التعفّف بالعفّة وبالصبر والنزاهة عن الشيء وجعله المفسّرون هنا للتكلّف ولكن صيغة تفعل تأتي لتكلّف الشيء وللمبالغة فيه والثاني أظهر هنا ، لأنّ من يتكلّف العفّة قلّما يخفى حاله على رائيه . وأمّا المبالغ في العفّة فهو الذي لا يكاد يظهر عليه أثر الحاجة ، فهو المتبادر هنا ، والمقام مقام المدح والمبالغ في الفضيلة أحقّ به من متكلّفها . الصفة الرابعة : قوله تعالى : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } أي بعلاماتهم الخاصة بهم . قيل هي الخشوع والتواضع . وقيل هي الرثاثة في الثياب أو الحال وليسا بشيء . وقيل بآثار الجوع والحاجة في الوجه . وهذا قريب والصواب أنّ هذه السيما لا تتعيّن بهيأة خاصّة لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال وإنّما تترك إلى فراسة المؤمن الذي يتحرّى بالإنفاق أهل الاستحقاق . فصاحب الحاجة لا يخفى على المتفرّس مهما تستّر وتعفّف فكم من سائل يأتيك رثّ الثياب خاشع الطرف والصوت تعرف من سيماه أنّه يسأل تكثّراً وهو غني وكم من رجل يقابلك بطلاقة وجه وحسن بزّة فتحكم بالفراسة في لحن قوله ومعارف وجهه أنّه مسكين عزيز النفس . الصفة الخامسة : قوله تعالى : { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } أي لا يسألون الناس شيئاً ممّا في أيديهم سؤال إلحاح ، كما هو شأن الشحاذين ، وأهل الكدية المعروفين ، فالإلحاف هو الإلحاح في السؤال . وظاهر العبارة نفي سؤال الإلحاف لا مطلق السؤال . وأمّا ظاهر السياق فهو أنّ القيد لبيان حال السائلين في العادة وأنّ النفي للسؤال مطلقاً . والمعنى أنّهم لا يسألون أحداً شيئاً لا سؤال إلحاف ، ولا سؤال رفق واستعطاف ، وعليه المحقّقون . وهذا الذي اخترناه هو ما تؤيّده الأخبار . ففي حديث أبي هريرة في الصحيحين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، إنّما المسكين الذي يتعفّف ، اقرأوا إن شئتم { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } " وفي لفظ : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس " . والسؤال محرّم في الإسلام لغير ضرورة . روى أحمد وأبو داود والترمذي وحسّنه وابن ماجه من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " المسألة لا تحلّ إلاّ لثلاثة ، لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع " فالفقر المدقع : هو الشديد الذي يلصق صاحبه بالدقعاء ، وهي الأرض التي لا نبات فيها . والغرم بالضمّ ما يلزم أداؤه تكّلفاً لا في مقابلة عوض . ومنه ما يحمله الإنسان من النفقة لإصلاح ذات البين ولنحو ذلك من أعمال البرّ ، كدفع مظلمة وحفظ مصلحة فله أن يسأل الناس مساعدته على ما يحمله من المغارم . وقد اشترط في الحديث أن يكون الغرم الذي تسأل الإعانة عليه مفظعاً أي شديداً فظيعاً . فإذا تحمّل غرماً خفيفاً يسهل عليه أداؤه فليس له أن يسأل لأجله . ويختلف ذلك باختلاف حال المتحمّلين . وأمّا ذو الدم الموجع فهو الذي يتحمّل الديّة عن الجاني من قريب أو حميم أو نسيب لئلاّ يقتل فيتوجّع لقتله . وروى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وأحمد من حديثهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوى " وقد حسّنه الترمذي ولبعضهم مقال في بعض رجاله . وروى أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني عن عبيد الله بن عدي بن الخيار " أنّ رجلين أخبراه أنّهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " قال أحمد في هذا الحديث هو أجودها إسناداً قاله في المنتقى وروي عنه أنّه قال ما أجوده من حديث . والمرّة في الحديث الأول - بكسر الميم - القوّة والسوى الخلق السليم الأعضاء . والمراد به القادر على الكسب . وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن سهل ابن الحنظلية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من جمر جهنّم ، قالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : ما يغدّيه أو يعشّيه " وعند أبي داود " يغدّيه ويعشّيه " وقد احتجّ الإمام أحمد بهذا الحديث وصحّحه ابن حبّان . وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدّق منه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه " وروى أحمد ومسلم وابن ماجه من حديثه أيضاً : " من سأل الناس أموالهم تكثّراً فإنّما يسأل جمراً ، فليستقلّ منه أو ليستكثر " . وأمّا الحديث المشهور : " للسائل حقّ وإن جاء على فرس " فقد رواه أحمد وأبو داود من حديث الحسين بن علي والروايات عنه كلّها مراسيل ، وفي إسناد الحديث يعلي بن أبي يحيى قال أبو حاتم الرازي مجهول . وقد حملوه على تحسين الظنّ بالمسلم وأنّه لم يسأل إلاّ لحاجة تبيح له السؤال المحرّم . قال في نيل الأوطار : فيه - أي الحديث - الأمر بحسن الظنّ بالمسلم الذي إمتهن نفسه بذل السؤال فلا يقابله بسوء الظنّ وإحتقاره بل يكرمه بإظهار السرور له ويقدر أن الفرس التي تحته عارية أو إنّه ممّن يجوز له أخذ الزكاة مع الغنى كمن تحمل حمالة أو غرم غرماً لإصلاح البين : وما قالوه في الحديث يقال في تفسير السائلين في الآية 177 من هذه السورة وتفسير قوله تعالى : { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] وقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ المعارج : 24 - 25 ] أي إنّ السائل المؤمن يحمل على الصدق في أنّه لم يسأل إلا لحاجة تبيح له السؤال المحرّم كتحمّل غرم أو دية أو ضرورة عارضة فما كلّ سائل يسأل لفقره هو . فالأستاذ الإمام رحمه الله تعالى كان يسأل بعض أصدقائه الموسرين ، أي يطلب منهم المال للجمعية الخيرية ولغيرها من أعمال البرّ . وما كلّ من يسأل لنفسه يسأل تكثّراً ويجعل السؤال حرفة . والأصل في المؤمن أن يكون عزيز النفس متنزّهاً عن الحرام فلا يسأل إلاّ لضرورة تبيح له السؤال فينبغي أن يجعل الغنى قدراً معيّناً من ماله الذي يعدّه للصدقات لما يعرض من أمثال هذه الحاجات أو الضرورات . ومن يعلم أنّه يسأل لنفسه تكثّراً كالشحاذين الذين جعلوا السؤال حرفة وهم قادرون على العمل فلا يعطون إذ لا حقّ لهم في هذا المال كما علم من الأحاديث السابقة وقد رأى عمر رضي الله عنه سائلاً يحمل جراباً فأمر أن ينظر ما فيه فإذا هو خبز فأمر بأن يؤخذ منه ويلقى إلى إبل الصدقة . ثمّ قال تعالى بعد بيان أحقّ الناس بالصدقة : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } لا يخفى عليه حسن النيّة فيه وتحرّي النفع به ووضعه في موضعه وإيتائه حقّ الناس فأحقّهم به ، فهو يجازي عليه بحسب ذلك . فالجملة تذييل مرغّب في الإنفاق على الوجه الذي سيقت الهداية إليه .