Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 47-48)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تقدّم تذكير بني إسرائيل بالنعمة في آية قبل هذه الآية مقروناً بالأمر بالوفاء بعهد الله ، وبالوعد بالجزاء عليه ، والأمر بالخشية منه والرهبة له وحده . ( وهي آية 39 ) وتلاها آياتٌ أمرهم فيها بالإيمان بالقرآن ، ونهاهم عن لبس الحقّ بالباطل وكتمانه ، ثمّ أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثمّ وبّخهم على نسيان أنفسهم من البرّ ، مع أمرهم للناس به وتلاوتهم الكتاب الداعي إليه ، ودلّهم على الطريق التي لو سلكوها ، عوفوا من هذا النسيان ، تلك الطريق ، هي : الإستعانة بالصبر والصلاة التي فقدوها بفقد روحها وهو الإخلاص والخشوع ، وبعد هذا عاد إلى التذكير بالنعمة بنوع من التفصيل ، فإنّ النعمة في الآية الأولى مجملة ، والإجمال ينبّه الفكر إلى الذكر في الجملة ، فإذا تلاه التفصيل والبيان ، كان على استعداد تام لكمال الفهم [ فيكون التذكّر أتمّ والتأثّر أقوى ، والشكر على النعمة أرجى ] . ثمّ طلب منهم أن يذكروا نعمته عليهم ، وتفضيله إيّاهم على الناس ، إحياءً لشعور الكرامة في نفوسهم ، ووصله بالأمر باتّقاء يوم الدين والجزاء . وهذا أسلوب حكيم في الوعظ ، فينبغي لكلّ واعظ أن يبدأ وعظه بإحياء إحساس الشرف وشعور الكرامة في نفوس الموعوظين ؛ لتستعدّ بذلك لقبول الموعظة [ وتجد من ذلك الإحساس معونة من العزيمة الصادقة التي هي من خصائص النفوس الكريمة على عوامل الهوى والشهوة ، فإنّ النفس إذا استشعرت كرامتها وعلوّها ونظرت إلى ما في الرذائل من الخسّة ، أبى لها ذلك الشعور - شعور العلوّ والرفعة - أن تنحطّ إلى تعاطي تلك الخسائس ، وكان ذلك من أقوى الوسائل لمساعدة الواعظ على بلوغ قصده من نفس من يوجّه إليه وعظه . ثمّ إنّ في الوعظ مسّاً يؤلم نفس الموعوظ وجرحاً يكاد يحملها على النفرة من تلقينه والإستنكاف من سماعه ، فذكر الواعظ لما يشعر بكرامة المخاطب ورفعة شأنه ، وإباء ما ينمي إليه من الشرف أن يدوم على مثل ما يقترف : يقبل بالنفس على القبول ، كما يقبل الجريح على من يضمد جراحه ويسكّن آلامه ] . ألا وإنّ هذا الشعور - شعور الشرف والرفعة - ملازم للإنسان لا يفارقه ، ولكنّه قد يضعف حتّى لا يظهر له أثر . وفي تحريك الواعظ له ، اعتراف ضمنيّ بكرامة وفضل للموعوظ ، يشفعان له بما يستلزمه الوعظ من مظنّة الإهانة ، فيسهل احتماله ويقرب قبوله . شعور العزة والكرامة أمر شريف يحييه الإيمان في نفوس المؤمنين الصادقين بل يستلزمه على وجه أكمل ؛ لأنّ صاحب الإيمان الصحيح يرى أنّ له نسبة إلى الربّ العظيم خالق السماوات والأرض ، وأنّه سنده وممدّه ، وعند ذلك تعلو نفسه وترتفع كما قيل : @ قوم يخالجهم زهو بسيّدهم والعبد يزهو على مقدار مولاه @@ من كان يشعر لنفسه بقيمة ، أو يجد لها حقاً في أن تعزّ وتكرم ، تراه إذا خلا بنفسه وتذكّر أنّه ألمّ بنقيصة يتألّم ويتململ ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم . وإذا تذكّر المؤمن أنّ قلبه الذي تشرّف بمعرفة الله تعالى [ وأنّ شرف تلك المعرفة خلّصه من العبوديّة لغيره ، وصيّره مربوباً لربّ العالمين وحده ، فهو في ذلك مع أرفع رفيع وأكرم كريم سواء . إذا ذكر ذلك لم يرَ من اللائق بمثل هذا الإختصاص ، أن يجاوره ما يدنّسه من الإستعباد لما يذلّه ، بل يرى أنّ ذلك الشعور الظاهر والعرفان الهادي إلى مقامات الكرامة ، لا ينبغي أن يزاحمه في موطنه من القلب دنس من رجس الرذائل ] ؛ فينفرّ من هذه المزاحمة ، وتثقل عليه ، ويسهل عليه التزكّي ممّا ألمّ به ، والإنابة إلى الله تعالى . قال : لهذا بدأ الله تعالى تذكير بني إسرائيل بما بدأ وثنّى بما ثنّى ، وهو يتضمّن من التقريع والتوبيخ ما يشعر بغلظ طباعهم ، وفساد قلوبهم ، فإنّ من لا يتأدّب بإحياء إحساس الكرامة ، يؤدّب بالتأنيب والإهانة . @ العبد يقرع بالعصا والحرّ تكفيه الإشارة @@ فقوله تعالى : { يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } مؤكّد لمثله في الآية 39 ، وتمهيد لما عطفه عليه من تفصيل الإجمال في الآية وما بعدها من الآيات ، وما اقترن به من بيان كفرهم للنعم ، وما تخلّلها من المواعظ والحجج ، وأولّه وأعلاه قوله : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ } أي أعطيتكم من الفضل - وهو الزيادة فيما يحسن - ما لم أعط غيركم من الشعوب ، حتّى ذات المزايا الدنيويّة ، كالمصريّين وسكان البلاد المقدّسة . قال الأستاذ الإمام : ما معناه ناداهم باسم أبيهم الذي هو أصل عزّهم وسؤددهم ومنشأ تفضيلهم ، وأسند النعمة إليهم جميعاً لا إليه وحده ؛ لأنّ النعمة عمّتهم والتفضيل شملهم ، ثمّ طفق يفصّل النعمة التي ذكرها مجملةً فيما سبق ، بذكر أمّهات أنواعها فذكر تفضيلهم على العالمين بمحض كرمه وفضله ، فإنّ بني إسرائيل كغيرهم من البشر ، والتفضيل هو مناط الأخذ بالفضائل وترك الرذائل ؛ لأنّ الذي يرى نفسه رذلاً خسيساً ، لا يبالي ما يفعل ، ومن يرى نفسه مفضّلا مكّرماً ، فإنّه يترفّع عن الدنايا والخسائس التي تدنّس شرفه وتذهب بفضله . والحكمة في التذكير بالتفضيل : أن يتذكروا أنّ الذي فضّلهم ، له أن يفضّل غيرهم كمحمّد صلى الله عليه وسلم وأمّته ، وتنبيههم إلى عدم الذهول عن أنفسهم ليذكروها عند أمر الناس بالبرّ ، ويعلموا أنّهم أولى بأن يبرّوا ممّن يأمرونهم بالبرّ ؛ لأنّهم يتلون الكتاب الداعي إليه وهو آية تفضيلهم ، وإلى أنّهم أحقّ بإستعمال الفكر في الآيات التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم وأجدر من جميع الشعوب بالإيمان به ، فإنّ المفضّل أولى بالسبق إلى الفضائل ، ممّن فضّل هو عليه . ثمّ إنّ الفضل على العالمين إنْ كان بكثرة الأنبياء فيهم ، فهو ظاهر على عمومه ؛ لأنّه لا يعرف شعب من الشعوب يزاحمهم في هذه المزّية ، ولا تقضي هذه الفضيلة بأن يكون كلّ فرد منهم أفضل من كلّ فرد من غيرهم ، ولا تنافي أن يفضلهم أخسّ الشعوب - بله غيره - إذا هم انحرفوا عن هدي أنبيائهم وتركوا سنّتهم ، واهتدى إليها ذلك الشعب الذي كان مفضولاً . وإن كان المراد من التفضيل : هو القرب من الله تعالى بمرضاته ، فلا بدّ من تخصيصه بأولئك الأنبياء والمهتدين بهم من أهل زمانهم والتابعين لهم فيه ، ومن تقييده بمدّة الإستقامة على العمل الذي استحقّوا به التفضيل . ثمّ قال تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } أي واحذروا يوماً عظيماً أمامكم ، سيقع فيه من الحساب والجزاء ما لا منجاة من هوله ، إلاّ بتقوى الله في جميع الأحوال ، ومراقبته في جميع الأعمال ، فهو يوم لا تقضى فيه نفس - مهما يكن قدرها عظيماً - عن نفس مهما يكن ذنبها صغيراً - شيئاً ما ، كحمل وزرها ، أو تكفير ذنبها : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [ فاطر : 18 ] وصف اليوم بهذا الوصف ، ولم يقل يوم القيامة - مثلا - للإشعار بأنّ التصرّف - في ذلك اليوم - والأمر كلّه لله . فليس فيه ما اعتاد الناس في هذه الدنيا من دفاع بعضهم عن بعض . وعبّر عن هذا المعنى في أوّل سورة بقوله : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] ثمّ وصفه هنا بوصف آخر يناسب الأوّل فقال : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ولا تقبل } بالتاء ، والمعنى : لا يقبل منها أن تأتي بشفيع يشفع لها ، ولا يؤخذ منها فداء أو بدل ، إن هي استطاعت أن تأتي بذلك ، كما يظنّ أكثر الكفّار ، ولن تستطيع . قال البيضاوي : وكأنّه أريد بالآية نفي أن يدفع أحد عن العذاب من كلّ وجه محتمل ، وفصّل هذه الوجوه بما يشمل الثلاث المنفيّة ، وجملة المعنى : أنّه يوم لا تأثير لأحد فيه ولا كسب ، ولا ينطق فيه أحد إلاّ بإذن الله تعالى . وقال ( الجلال ) : أي ليس لها شفاعة فتقبل ، واستدلّ بقوله تعالى حكاية عن المجرمين في الآخرة : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } [ الشعراء : 100 ] الآية ، وفسّر العدل بالفداء ، قال : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } أي يمنعون من عذاب الله . قال الأستاذ الإمام : ولا دليل في هذا على أنّ المراد ما ذكره في مسألة الشفاعة ، وإنّما السياق في الآية وأمثالها يدلّ على أنّ المراد بيان أنّ ذلك اليوم ، يوم تتقطّع فيه الأسباب ، وتبطل منفعة الأنساب ، وتتحوّل فيه سنّة هذه الحياة من انطلاق الإنسان في اختياره يدفع عن نفسه بالعدل والفداء ، ويستعين على المدافعة بالشفاعة عند السلاطين والأمراء ، وقد يوجد له فيها أنصار ينصرونه بالحقّ وبالباطل على سواء . بل يكون له في ذلك اليوم شأن آخر مع ربّه تضمحلّ فيه جميع الوسائل ، إلاّ ما كان من إخلاصه في عمله قبل حلول أجله ، ورحمة الله العليّ الكبير له ؛ لضعف حوله ، وضيق طوله ، وأنّه يوم لا يتحرّك فيه عضو إلاّ بإذن الله ، ولا يقدر أحد أن ينبس بكلمة إلاّ بإذن الله : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] . كان اليهود المخاطبون ببيان هذه الحقيقة كغيرهم من أمم الجاهليّة وأهل الملل الوثنيّة ، كقدماء المصريّين واليونان ، يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا فيتوهّمون أنّه يمكن تخلّص المجرمين من العقاب بفداء يدفع بدلا وجزاء عنه - كما يستبدل بعض حكّامهم منفعة ماليّة بعقوبة بدنيّة - أو بشفاعة من بعض المقرّبين إلى الحاكم يغيّر بها رأيه ويفسخ إرادته . ولقد اكتسح الإسلام هذه العقائد وآثارها العمليّة بالتوحيد الخالص ، وأتى بنيانها من القواعد ، ولكنّ المسلمين لم يسلموا منها ، فقد دخل في الإسلام أقوام يحملون أوزاراً ممّا كانوا عليه من الوثنيّة ، ولم يلقّنوا الدين من القرآن ولا كما أرشد القرآن ، ولكنّهم تقلّدوه ممّن لا يعرفه حقّ المعرفة ، ولقّنوه كما ترشد إليه كتب التقليد من مصطلحات مبتدعة ، فكانوا على بقيّة ممّا كان عندهم وعلى جهل بالإسلام . وجاء قوم آخرون تعمّدوا الإفساد ، فجعلوا بالتأويل : الباطل - حقاً ، والكذب صدقاً . وذكر الأستاذ الإمام هنا بعض العادات المصريّة التي لا تزال يعمل بها باسم الدين ، وهي من إرث قدماء الوثنيّين ، كإعطائهم لغاسل الميّت شيئاً من النقد يسمّونه " أجرة المعدّية " أي أجرة نقله إلى الجنّة ، وغير ذلك ممّا يعملونه للأموات ، ولمن يعتقدون فيهم الولاية والقرب من الله ، ومثله أكثر تقاليدهم في بناء المقابر وإحتفالاتها . ثمّ ذكر المكفّرات التي يعتقدها اليهود ، كقربان الإثم ، وقربان الخطيئة ، وقربان السلامة ، والمحرقة ، والإكتفاء ممّن لم يجد القربان بحمامتين يكفّر بهما عن ذنبه ، وقال : وكانوا يفهمون أنّ هذه الأشياء تكفّر الذنوب بذاتها . والحقّ أنّها عقوبات لا مكفّرات ، فإنّ من فهم التوراة حقّ فهمها يعلم أنّ المكفّر الحقيقيّ هو التوبة والإقلاع عن الذنب ، ثمّ تقديم القربان يكون تربية وعقوبة . وقد أخبرهم الله تعالى في هذه الآية : بأنّ يوم القيامة لا يقبل فيه عدل يفتدي الإنسان به . قال : وكانوا يعتقدون أنّهم بإنتسابهم للأنبياء لا يدخلون النار ، أو لا تمسّهم إلاّ أيّاماً معدودة ؛ لأنّ لهم الجاه والتأثير يوم القيامة ، ولا يرضون أن يتركوا أبناءهم في العذاب ، ثمّ زادوا على ذلك شفاعة الأحبار لمن ينتسب إليهم . ومتى ضعف الدين ، يوجد من رؤسائه من يروجّ هذه العقائد في العامّة لما تسوق إليهم من المنافع . وكذلك كان اليهود حتّى جاء الإسلام بهذه الآية وأمثالها ، فمحا هذه العقيدة ؛ ليعلم المؤمنون به أنّه لا ينفع الإنسان يوم القيامة إلاّ مرضاة الله تعالى بالإيمان الخالصّ والعمل الصالح . في القرآن آياتٌ ناطقة بنفي الشفاعة مطلقاً ، كقوله تعالى في وصف يوم القيامة : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 254 ] وأخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة ، كقوله عزّ وجل : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] وآيات تفيد النفي بمثل قوله : { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وقوله : { إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [ الأنبياء : 28 ] فمن الناس من يحكّم الثاني بالأول ، ومنهم من يرى أنّه لا منافاة بينهما فنحتاج إلى حمل أحدهما على الآخر ؛ لأنّ مثل هذا الإستثناء ( أي الإستثناء بالإذن والمشيئة ) معهود في أسلوب القرآن في مقام النفي القطعيّ ، للإشعار بأنّ ذلك بإذنه ومشيئته عزّ وجل ، كقوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [ الأعلى : 6 - 7 ] وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [ هود : 107 ] فليس في القرآن نصّ قطعيّ في وقوع الشفاعة ، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟ الشفاعة المعروفة عند الناس : هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك كان أراد غيره - حكم به أم لا - فلا تتحقّق الشفاعة إلاّ بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع . فأمّا الحاكم العادل ، فإنّه لا يقبل الشفاعة إلاّ إذا تغيّر علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن كان أخطأ ثمّ عرف الصواب ، ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به . وأمّا الحاكم المستبدّ الظالم فإنّه يقبل شفاعة المقرّبين عنده في الشيء ، وهو عالم بأنّه ظلم وأنّ العدل في خلافه ، ولكنّه يفضّل مصلحة إرتباطه بالشافع المقرّب منه على العدالة . وكلّ من النوعين محال على الله تعالى ؛ لأنّ إرادته تعالى على حسب علمه ، وعلمه أزليّ لا يتغيّر . قال شيخنا : فما ورد في إثبات الشفاعة يكون على هذا من المتشابهات ، وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم ، وأنّها مزيّة يختصّ الله بها من يشاء يوم القيامة ، عبّر عنها بهذه العبارة " الشفاعة " ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جلّ جلاله عن المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفيّ . وأمّا مذهب الخلف في التأويل ، فلنا أن نحمل الشفاعة فيه ، على أنّها دعاء يستجيبه الله تعالى ، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدلّ على هذا ، ففي رواية الصحيحين وغيرهما " أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد يوم القيامة ، ويثني على الله تعالى بثناء يلهمه يومئذ ، فيقال له : " ارفع رأسك وسلْ تعطَهْ واشفع تشفع " وليس في الشفاعة بهذا المعنى أنّ الله سبحانه يرجع عن إرادة كان أرادها لأجل الشافع ، وإنّما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ الإرادة الأزليّة عقيب دعائه ، وليس فيها أيضاً ما يقوّي غرور المغرورين الذين يتهاونون بأوامر الدين ونواهيه إعتماداً على شفاعة الشافعين ، بل فيه أنّ الأمر كلّه لله ، وأنّه لا ينفع أحداً في الآخرة إلاّ طاعته ورضاه : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 48 - 49 ] و { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [ الأنبياء : 28 ] .