Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 108-109)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ } أي بالأمر الثابت الحق الذي لا مجال فيه للشكوك والشبهات ، ولا للإحتمالات والتأويلات ، فلا عذر لأمتك إذا إتبعت سنن من قبلها فتفرقت في الدين وذهبت فيه مذاهب وصارت شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون ، وبخلاف الآخرين مستمسكون ، فما أمروا في هذه الآيات بما أمروا به من الإعتصام ووعدوا عليه بالفلاح العظيم ، ولا نهوا عما نهوا عنه من التفرق والاختلاف وأوعدوا عليه بالعذاب الأليم ؛ إلا ليكونوا أمة واحدة متحدة في الدين متفقة في المقاصد يعذر بعضهم بعضاً إذا فهم غير ما فهم مع المحافظة على ما لا تختلف فيه الأفهام ، كوجوب الإتحاد والإعتصام ، وتوحيد الله وتقواه ؛ وإجتناب الفواحش والمنكرات { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ؛ وإنما يريد به هدايتهم إلى ما تكمل به فطرتهم ويتم به نظام إجتماعهم ، فإذا هم فسقوا عن أمره وحل بهم البلاء فإنما يكونون هم الظالمين لأنفسهم بتفرقهم واختلافهم ، وكذا بغير ذلك من الذنوب الإجتماعية . فالكلام في الأمم وعقوبتها ولا يمكن أن يحل بها بلاء إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن صراط الله الذي بينه في هذه الآيات وغيرها { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] . { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } فهو مالك العباد والمتصرف في شؤونهم وإلى سننه الحكيمة ترجع أمورهم ولكل سنة منها غاية تنتهي إليها لا تبديل لها ولا تحويل فلا يطمع أهل التفرق والخلاف بالوصول إلى غاية أهل الوحدة والإتفاق ، فهذه الآية وردت كالدليل على ما قبلها . ووجه الدلالة فيها على ما جرينا عليه في تفسير ما قبلها ظاهر ، فإننا بينا أن المراد بالظلم المنفي هو الظلم بالتشريع ؛ لأن الكلام في تلك الآيات وما فيها من الأحكام فهو على حد قوله في أحكام الصيام : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] وقوله بعد الأمر بالوضوء والغسل : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] إلخ والأمر ظاهر لا مجال فيه للخلاف وكثرة الآراء لولا المذاهب التي وضعت أصولها وقواعدها ثم نظر أصحابها في القرآن يلتمسون تأييدها به وحمله عليها . فقد قالت المعتزلة : إن الظلم في الآية جاء نكرة في سياق النفي فهو عام والمعنى أنه لا يريد الظلم مطلقاً من أفعاله ولا من أفعال عباده ، وما لا يريده لا يقع منه حتماً ، وقد ثبت في العقل والنقل أن من أفعال العباد ما هو ظلم فتعين أن تكون أفعالهم منهم لا منه ، ووجهوا الآية الثانية على إثبات هذا . وقالت الأشعرية : إن وقوع الظلم منه تعالى محال لأنه عبارة عن تصرف الإنسان في ملك غيره وليس لغير الله ملك فيكون ظالماً بتصرفه فيه . ولذلك بين بعد نفي إرادة الظلم أن له ما في السماوات والأرض . فهم يقولون إنه لو عذب الأتقياء الصالحين وأثاب الفجار المفسدين لم يكن ذلك منه ظلماً بل عدلاً لأنه تصرف في ملكه . ونحن نقول أولاً إن الآيتين في واد وهذه المسائل الكلامية في واد آخر وثانياً إن الظلم محال عليه تعالى لا لأن الظلم عبارة عن تصرف المتصرف في ملك غيره وأن تصرفه في ملكه لا يمكن أن يكون ظلماً فإن هذا غير صحيح وإنما يستحيل عليه الظلم لأنه ينافي الحكمة والكمال في النظام وفي التشريع ، ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال إنه قد ظلمها ، بل قالوا فيمن حفر الأرض ولم تكن موضعا للحفر إنه ظلمها وسموها الأرض المظلومة وسموا التراب الذي يخرج منها المظلوم ومن نقص إمرءا حقه فقد ظلمه قال تعالى : { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] ولعل هذا هو الأصل في معنى الظلم . وقال الراغب " الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه " فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه في الأحكام هو ما ينافي مصلحة العباد وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة وفي الخلق ما ينافي النظام والأحكام . ومن مباحث اللفظ والنظم في الآيات أنه جعل النشر في آية { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] إلخ على غير ترتيب اللف إذ ذكر في اللف الابيضاض قبل الإسوداد ، وذكر في النشر حكم من اسودت وجوههم قبل حكم من ابيضت وجوههم . وليس اللف والنشر يسمونه المرتب أبلغ مما يسمونه المشوش وإنما يختلف ذلك باختلاف الكلام فلا يرجح أحدهما على الآخر إلا بمرجح ، وقد قيل إن نكتة الترجيح هنا جعل مطلع الكلام ومقطعه في بيان حال المؤمنين وجزائهم فوافق ذلك إستحسان البلغاء جعلهما مما يسر ويشرح الصدر ، وقيل إن نكتة ذلك بيان أن المقصود من الخلق الرحمة دون العذاب ولذلك بدأ بذكر أهل الرحمة وختم بذكر جزائهم وأدمج ذكر الآخرين في الأثناء . والقول الأول ترجيح بحسب اللفظ والثاني ترجيح بحسب المعنى ، ومما يقوي هذا إنه تعالى ذكر إن أهل الرحمة خالدون فيها ولم يذكر إن أهل العذاب خالدون فيه . نبه على هذا المعنى الرازي وبين إنه تعالى أضاف الرحمة إلى نفسه دون العذاب ، وذكر علة العذاب وسببه وهو " بما كنتم تكفرون ثم ذكر إنه لا يريد ظلماً للعالمين قال " وهذا جار ومجرى الإعتذار عن الوعيد بالعقاب وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب " فيا ويل المتفرقين المختلفين المتعادين في دين الرحمة الذي يأخذ بحجزهم أن يتقحموا في العذاب وهم يتهافتون عليه بجهلهم وسوء اختيارهم .