Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 79-80)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أخرج ابن إسحاق والبيهقي عن ابن عبّاس قال : قال أبو رافع القرظي حين إجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمّد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ؟ قال : " معاذ الله " فأنزل الله في ذلك : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } إلى قوله { مُّسْلِمُونَ } وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن قال : بلغني أنّ رجلاً قال : يا رسول الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : " لا ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحقّ لأهله ، فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله " فأنزل الله { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } الآيتين . ذكر ذلك السيوطي في لباب النقول . وقال الأستاذ الإمام : إنّ ما روي من إنّ بعض الصحابة طلب أن يسجدوا للرسول هو من الروايات التي لم يق الله المسلمين شرّها ولا حاجة إليها في القرآن . فإنّ الآية متصلة بما قبلها فهي في سياق الردّ على أهل الكتاب إبطال لما ادّعاه بعضهم من أنّ لله تعالى إبناً أو أبناء حقيقة ، وأنّ بعض الأنبياء أثبت ذلك لنفسه . وصرّح بأن هذه الدعوى ممّا يدخل في ليّ اللسان بالكتاب وتحريفه بالتأويل . ويصحّ أن تكون ردّاً على أصحاب هذه الدعوى ابتداءً مستأنفاً استئنافاً بيانياً كأنّ النفس تتشوّف بعد بيان حال فرق اليهود إلى بيان حال النصارى وما يدّعون في المسيح فجاءت الآيتان في ذلك . فقوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الوقوع خاصّة ؛ لأنّه نفي للوقوع مع بيان السبب والدليل ، وهو أنّ هذا غير ممكن { أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ } به والعمل بإرشاده قال في الكشّاف الحكم الحكمة التي هي السنّة ، ووافقه الأستاذ الإمام قائلاً : إنّ عبارات الكتاب ربّما تذهب النفس فيها مذاهب التأويل ، فالعمل هو الذي يقرّر الحقّ فيها . وقد تقدّم عنه تفسير الحكمة بفقه الكتاب ومعرفة أسراره وأنّ ذلك يستلزم العمل به ، وإنّما قال : { وَٱلنُّبُوَّةَ } بعد قوله يؤتيه الله الكتاب لأنّ المرسل إليهم يقال إنّهم أوتوا الكتاب { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي } العباد جمع عبد بمعنى عابد ، والعبيد جمع له بمعنى مملوك أي بأن تتّخذوني إلهاً أو ربّاً لكم { مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي كائنين لي من دون الله أو كونوا عابدين لي من دونه . وقيل معناه حال كونكم متجاوزين الله تعالى أي متجاوزين ما يجب من إفراده بالعبادة وتخصيصه بالعبودية . وقطع أبو السعود بأنّ ذلك يصدق بعبادة غيره استقلالاً أو اشتراكاً وله عندي وجهان : أحدهما : أنّ العبادة الصحيحة لله تعالى لا تتحقّق إلا إذا خلصت له وحده فلم تشبها شائبة ما من التوجّه إلى غيره كما قال : { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } [ الزمر : 14 ] وقال : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ } [ البينة : 5 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة . فمن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله ، بل وإن أمرهم بعبادة الله . ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله لأنّ هذه الوساطة تنافي الإخلاص له وحده . ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة ولذلك قال : { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } [ الزمر : 2 - 3 ] الآية فلم يمنع توسّلهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول إنّهم اتّخذوهم من دونه . ويدلّ عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " - وفي رواية - " فأنا منه بريء ، هو للذي عمل له " رواه مسلم وغيره ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله . فإنّ الله أغنى الشركاء عن الشرك " رواه أحمد . والوجه الثاني : أنّ من يتوجّه بعبادته إلى غير الله تعالى على أنّه وسيلة إليه ومقرّب منه وشفيع عنده ، أو على أنّه متصرف بالنفع ودفع الضرّ لقربه منه فتوجّهه هذا إليه عبادة له مقدّرة بقدرها فهو عبد له في هذا القدر من التوجّه إليه من دون الله . وهذا الوجه معقول في نفسه والأول أقوى لأنّ النصوص مؤيّدة له . وقد غفل عنه من أجازوا للعامّة اتّخاذ أولياء يتوجّهون إليهم بالدعاء وطلب الحاجات ويسمّون ذلك توسلاً بهم إلى الله وإنّما هو عبادة لهم من دون الله . ففي الحديث الصحيح " الدعاء هو العبادة " وتلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ } [ غافر : 60 ] الآية رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم { وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتي الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الربّ مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه وإنّما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهي تعليم الكتاب ودراسته . فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربّانياً مرضيّاً عند الله تعالى . فالكتاب هو واسطة القرب من الله تعالى ، والرسول هو الواسطة المبلغة للكتاب كما قال تعالى : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ الشورى : 48 ] فلا يمكن لأحد أن يتقرّب إلى الله بشخص الرسول بل بما جاء به الرسول راجع تفسير آية [ 31 ] { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } والآيات المقرّرة لهذه الحقيقة كثيرة جدّاً . قال الأستاذ الإمام : ما مثاله مفصّلاً : أفادت الآية أنّ الإنسان يكون ربّانياً بعلم الكتاب ودرسه وبتعليمه للناس ونشره ومن المقرّر أنّ التقرّب إلى الله تعالى لا يكون إلا بالعمل بالعلم ، والعلم الذي لا يبعث إلى العمل لا يعدّ علماً صحيحاً . لأنّ العلم الصحيح ما كان صفة للعالم وملكة راسخة في نفسه وإنّما الأعمال آثار الصفات والملكات ، والمعلّم يعبّر عمّا رسخ في نفسه . ومن لم يحصل من علم الكتاب إلاّ صوراً وتخيّلات تلوح في الذهن ولا تستقرّ في النفس لا يمكنه أن يكون معلّماً له يفيض العلم على غيره ، كما أنّه لا يكون عاملاً به على وجهه كما ثبت بالمشاهدة والاختبار ، أي في نحو العلوم الفنية . فإنّ من لا يعرف من الهندسة إلاّ بعض الإصطلاحات والمسائل الناقصة لا يمكنه أن يكون مهندساً بالفعل ولا أن يكون معلّماً للهندسة ، ومراد الأستاذ أنّ العلم لمّا كان يستلزم العمل استغني بذكره عن التصريح بالعمل كما يستغنى عن ذكر العلم عنه ما يعلّق الجزاء على العمل لأنّ العمل الصحيح لا يكون إلاّ عن العلم الصحيح فتارةً يذكر الملزوم وتارةً يذكر اللازم ولكلّ مقام مقال . { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً } قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب ( يأمركم ) بالنصب عطفاً على { ثُمَّ يَقُولَ } { وَلاَ } هذه هي التي يجاء بها لتأكيد النفي السابق . وهو هنا قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف . وقرأ أبو عمرو باختلاس الهمزة على الأصل عنده . تنقل عبادة الملائكة عن مشركي العرب وعن بعض أهل الكتاب واتّخذ بعض اليهود عزيراً والنصارى المسيح إبناً لله ، فجاء الإسلام يبيّن أنّ كلّ ذلك مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له والنهي عن عبادة غيره . ولذلك قال : { أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } بمقتضى الفطرة ، وقال الأستاذ الإمام : معناه أنّه ما كان للمسيح أن يأمر أهل الكتاب الذين بعث فيهم بعبادته بعد إذ كانوا موحّدين بمقتضى ما جاءهم به موسى ، وحمله أكثر من عرفنا من المفسّرين على جواب من طلب السجود للنبي صلى الله عليه وسلم بناءً على أنّهم هم المسلمون دون غيرهم ، وقد نسوا هنا أنّ الإسلام في عرف القرآن هو دين جميع الأنبياء كما أنّه دين الفطرة راجع تفسير الآية [ 19 ] { إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ }