Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 84-85)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كما ختم تعالى آية دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام بقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] جاء هنا بعد ذكر توليتهم عن الإسلام يأمرنا بالإقرار به فقال مخاطباً لنبيّه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ آمَنَّا بِٱللَّهِ } أي آمنت أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وكماله { وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } من كتابه بالتفصيل وهذه الآية نظير قوله تعالى : { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا } [ البقرة : 136 ] إلخ وقد عدى الإنزال هناك بإلى الدالّة على الغاية والإنتهاء وهنا بعلى التي للاستعلاء وكلا المعنيين صحيح كما قال في الكشاف رامياً بالتعسّف من فرق بين التعديتين باختلاف المأمور بالقول في الآيتين ، إذ هو هناك المؤمنون وهاهنا النبي صلى الله عليه وسلم لأنّ التعدية بإلى وردت في خطاب النبي والتعدية بعلى وردت في خطاب غيره في آيات أخرى . وقدّم الإيمان بالله على الإيمان بإنزال الوحي لأنّه الأصل الأول المقصود بالذات ، والوحي فرع له ، إذ هو وحيه تعالى إلى رسله . { وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ } أي وآمنا بما أنزل على هؤلاء بالإجمال أي صدّقنا بأنّ الله تعالى أنزل عليهم وحياً لهداية أقوامهم ، وأنّه موافق لما أنزل علينا في أصله وجوهره والقصد منه كما أخبرنا الله تعالى في مثل قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } [ الأعلى : 14 ] إلى آخر السورة وقوله : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ } [ النجم : 36 - 37 ] إلخ وقوله : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } [ النساء : 163 ] إلخ . وأمّا عين ما أوحي إليهم فلم يبق منه في أيدي الأمم شيء يعتمد على نقله . { وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ } من التوراة للأول والإنجيل للثاني ، { وَ } ما أوتي { ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } كداود وسليمان وأيّوب وغيرهم ممّن لم يقصّ الله علينا خبرهم ، فإنّ منهم من قصّه علينا ومنهم من لم يقصصه فإذا ثبت عندنا أنّ نبيّاً ظهر في الهند أو الصين قبل ختم النبوّة نؤمن به . وارجع إلى آية البقرة في استبانة الفرق بين التعبير بالإنزال والتعبير بالإيتاء . قال الأستاذ الإمام : وقد قدّم الإيمان بما أُنزل علينا على الإيمان بما أنزل على من قبلنا مع كونه أنزل قبله في الزمن لأنّ ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له ، ولا طريق لإثباته سواه لإنقطاع سند تلك وفقد بعضها ووقوع الشكّ فيما بقي منها ، فما أثبته كتابنا من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالاً فيما أجمل وتفصيلاً فيما فصّل ، وما أثبته لهم من الكتب كذلك . ونؤمن بأنّ أصول ما جاءوا به واحدة وهي الإيمان بالله وإسلام القلوب له والإيمان بالآخرة والعمل الصالح مع الإخلاص . فكما أنّ الإيمان بالله أصل للإيمان بما أنزل علينا كذلك ما أنزل علينا أصل للإيمان بما أنزل عليهم فقدّم عليه { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } كما يفرّق أهل الكتاب . فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، ولا نفرّق بينهم في الدين ، فنقول بعضهم على حق وبعضهم على باطل ، بل نقول إنّهم كانوا جميعاً على الحقّ لا خلاف بينهم في الأصول والمقاصد ، فمثلهم كمثل الولاة الصادقين يرسلهم الملك العادل متعاقبين لعمارة الولاية وإصلاح أهلها . وما يكون من التغيير في بعض قوانينهم إنّما يكون بحسب حال الولاية وأهلها ، والمقصد واحد وهو العمران والإصلاح { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } منقادون بالرضى والإخلاص منصرفون عن أهوائنا وشهواتنا في الدين لا نتّخذه جنسية لأجل حظوظ الدنيا وإنّما نبتغي به التقرّب إليه تعالى بإصلاح النفوس وإخلاص القلوب والعروج بالأرواح ، إلى سماء الكرامة والفلاح ؛ إفتتح الآية بذكر الإيمان وختمها بالإسلام الذي هو في كماله ثمرته وغايته وهذا هو الإسلام الديني الذي كان عليه جميع الأنبياء ، ولذلك قفى عليه بقوله : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } لأنّ الدين إذا لم يكن هو الإسلام الذي بيّنا معناه آنفاً فما هو إلاّ رسوم وتقاليد يتّخذها القوم رابطة للجنسية ، وآلة للعصبية ، ووسيلة للمنافع الدنيوية ، وذلك ممّا يزيد القلوب فساداً ، والأرواح إظلاماً ، فلا يزيد الناس في الدنيا إلاّ عدواناً ، وفي الآخرة إلاّ خسراناً ، ولذلك قال : { وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي أنّه يكون هنالك خاسراً للنعيم المقيم ، في جوار الربّ الرحيم ، لأنّه خسر نفسه إذ لم يزكّها بالإسلام لله ، وإخلاص السريرة له جلّ علاه : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأعراف : 53 ] في الدين ويزعمون أنّه مناط النجاة ووسيلة الفوز والسعادة إذ يهوون أن يسعدوا بغيرهم من الأنبياء والأولياء ، وإن خسروا أنفسهم بسلوك سبل الشقاء : { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي * فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [ الزمر : 14 - 15 ] ولم أر أحداً من المفسّرين نبّه في هذا المقام على إنّ الأصل في خسران الآخرة هو خسران النفس ، ولا نبّه إليه الأستاذ الإمام ، بل لم يقل في هذه الآية شيئاً لظهور معناها . وقد أورد الإمام الرازي هاهنا إشكالاً وأجاب عنه قال : واعلم أنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على أن الإيمان هو الإسلام وإذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً . لقوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } إلاّ أنّ ظاهر قوله تعالى : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] يقتضي كون الإسلام مغايراً للإيمان . ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي والآية الثانية على الوضع اللغوي . اهـ . كلامه وهذا الجواب مبهم وقد أراد بالآية الأولى الآية التي نفسّرها وبالثانية { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ } [ الحجرات : 14 ] والمعنى أنّ أولئك الأعراب الذين نزلت فيهم الآية لم يسلموا الإسلام الشرعي وإنّما انقادوا لأهله في الظاهر وهو يقتضي إتّحاد الإيمان والإسلام ، وقال في تفسير هذه الثانية من سورة الحجرات ما نصّه : المسألة الرابعة : المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنّة ، فكيف يفهم ذلك مع هذا ؟ نقول : بين العام والخاص فرق ، فالإيمان لا يحصل إلاّ بالقلب ، وقد يحصل باللسان ، والإسلام أعمّ لكن العام في صورة الخاص متّحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره . مثاله : الحيوان أعمّ من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمراً ينفكّ عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيواناً ولا يكون إنساناً فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود . فكذلك المؤمن والمسلم . وسنبيّن ذلك في تفسير قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ الذاريات : 35 - 36 ] . وقال في تفسير الآية الثانية من هاتين ما نصّه : والدلالة على أنّ المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة والحقّ أنّ المسلم أعمّ من المؤمن وإطلاق العامّ على الخاص لا مانع منه . فإذا سمّي المؤمن مسلماً لا يدلّ على اتّحاد مفهوميهما فكأنّه تعالى قال : أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعمّ منهم إلاّ بيتاً من المسلمين ، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين . وهذا كما لو قال قائل لغيره : من في البيت من الناس ؟ فيقول له ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد . فيكون مخبراً له بخلو البيت عن كلّ إنسان غير زيد " . اهـ . أقول : وأنت ترى إنّ في كلامه إضطراباً وسببه تزاحم الإصطلاحات الكلامية والإطلاقات اللغوية في ذهنه . والصواب أنّ مفهومي الإسلام والإيمان في اللغة متباينان فالإسلام الدخول في السلم وهو يطلق على ضدّ الحرب وعلى السلامة والخلوص وعلى الإنقياد كما تقدّم في أوائل السورة والإيمان التصديق ويكون بالقلب كأن يقول امرؤ قولاً فتعتقد صدقه . ويكون باللسان كأن تقول له صدقت . وقد أطلق كلّ من الإيمان والإسلام في القرآن على إيمان خاص جعل هو المنجي عند الله تعالى وإسلام خاص هو دينه المقبول عنده . أمّا الأول : فهو التصديق اليقيني بوحدانية الله وكماله وبالوحي والرسل وباليوم الآخر بحيث يكون له السلطان على الإرادة والوجدان فيترتب عليه العمل الصالح . ولذلك قال بعد نفي دخول الإيمان في قلوب أولئك الأعراب : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] وأمّا الثاني : فهو الإخلاص له تعالى في التوحيد والعبادة والإنقياد لما هدى إليه على ألسنة رسله . وهو بهذا المعنى دين جميع النبيين الذين أرسلهم لهداية عباده . فالإيمان والإسلام على هذا يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كلّ واحد منهما باعتبار ولذلك عدّا شيئاً واحداً في الآيات التي ذكرت آنفاً وفي قوله بعد ما ذكر عن إيمان الأعراب وإسلامهم في [ الحجرات : 15 ] ثمّ بيان حقيقة الإيمان الصادق { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 16 - 17 ] فهذا هو الإيمان الصادق والإسلام الصحيح وهما المطلوبان لأجل السعادة . وقد يطلق كلّ من الإيمان والإسلام على ما يكون منهما ظاهراً سواء كان ذلك عن يقين أو عن جهل أو نفاق . فمن الأول الشقّ الأول من قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 62 ] الآية فالمراد بالذين آمنوا في أوّل الآية الذين صدقوا بهذا الدين في الظاهر . وقوله : { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ } [ البقرة : 126 ] إلخ هو الإيمان الحقيقي الذي عليه مدار النجاة وقد تقدّم شرحه آنفاً . ومن الثاني قوله : { وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] أي دخلنا في السلم الذي هو مسالمة المؤمنين بعد أن كنّا حرباً لهم وليس معناه الإخلاص والإنقياد مع الإذعان وإلاّ لما نفى إيمان القلب . هذا هو التحقيق في المسألة ولله الحمد . أمّا إطلاق الإسلام بمعنى ما عليه هؤلاء الأقوام المعروفون بالمسلمين من عقائد وتقاليد وأعمال فهو إصطلاح حادث مبني على قاعدة " الدين ما عليه المتديّنون " فالبوذية ما عليه الناس المعروفون بالبوذية ، واليهودية ما عليه الشعب الذي يطلق عليه اسم اليهود والنصرانية ما عليه الأقوام الذين يقولون إنّا نصارى وهكذا . وهذا هو الدين بمعنى الجنسية وقد يكون له أصل سماوي أو وضعي فيطرأ عليه التغيير والتبديل حتّى يكون بعيداً عن أصله في قواعده ومقاصده ، وتكون العبرة بما عليه أهله لا بذلك الأصل المجهول أو المعلوم . وتحوّل دين أهل الكتاب إلى جنسية بهذا المعنى هو الذي صدّ أهل الكتاب عن اتّباع النبي عليه الصلاة والسلام على ما جاء به من بيان روح دين الله الذي كان عليه جميع الأنبياء على اختلاف شرائعهم في الفروع وهو الإسلام . فالإسلام معنى بيّنه القرآن فمن اتّبعه كان على دين الله المرضي ومن خالفه كان باغياً لغير دين الله ، وليس هو من معنى الجنسية المعروفة الآن التي تختلف باختلاف ما يحدث لأهلها من التقاليد . فالإسلام الحقيقي مباين للإسلام العرفي ، لذلك جرينا في هذا التفسير على إنكار جعل الإسلام جنسية عرفية مع الغفلة عن كونه هداية إلهية . نعم إنّه لو أقيم على أصله واستتبع مع ذلك رابطة الجنسية لم تكن هذه الرابطة إلاّ رابطة خير لأهلها غير ضارّة بغيرهم لبنائها على قواعد العدل والفضل والرحمة والإحسان ، ولكن جعل الجنسية هو الأصل مفسد للدين الذي هو مناط سعادة الدارين .