Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 90-91)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } وشهادتهم أنّ الرسول حقّ { ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً } بمقاومة الحقّ وإيذاء الرسول والصدّ عن سبيل الله بالكيد والتشكيك وبالحرب والكفاح ، أو الكلام على عمومه لا يختصّ بأولئك الذين سبق ذكرهم ، فازدياد الكفر عبارة عمّا ينميه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان ، فالكفر يزداد قوّة واستقراراً وتمكّناً بالعمل بمقتضاه ، كما أنّ الإيمان كذلك . وقوله : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } يعدّونه من المشكلات ، إذ هو مخالف في الظاهر للآية السابقة ولمثل قوله : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25 ] فقال القاضي والقفّال وابن الأنباري : أنّه تعالى لمّا قدّم ذكر من كفر وبيّن أنّه أهل اللعنة إلاّ أن يتوب ذكر في هذه الآية أنّه لو كفر مرّة أخرى بعد تلك التوبة فإنّ التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتّى كأنّها لم تكن . ويكون التقدير في الآية وما قبلها : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 89 ] . فإن كانوا كذلك ثمّ ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم . اهـ . من التفسير الكبير بتصرف . وفيه أن هذا الوجه أليق بالآية من كلّ الوجوه وإنّه مطرد في الآية سواء حملت على المعهود السابق أو على الاستغراق . وفي الكشّاف أنّ عدم قبول توبتهم كناية عن موتهم على الكفر . وقال البيضاوي : " لن تقبل توبتهم " لأنّهم لا يتوبون ، أو لا يتوبون إلاّ إذا أشفوا على الهلاك فكنّى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظاً في شأنهم وإبراز حالهم في صورة الآيسين من الرحمة ، أو لأنّ توبتهم لا تكون إلاّ نفاقاً لإرتدادهم وزيادة كفرهم ، ولذلك لم يدخل الفاء فيه . اهـ . واختار ابن جرير إنّ الكلام في أهل الكتاب الذين تقدّم ذكرهم وأنّ المراد بالتوبة التوبة عن الذنوب فهي لا تنفعهم مع بقائهم على الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم . وروي في الآية عدّة روايات وقال عن هذا الذي قلنا إنّه اختاره إنّه أولاها بالصواب قال : وإنّما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب لأنّ الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذا كانت في سياق واحد ، وإذ كان ذلك كذلك وكان من حكم الله في عباده أنّه قابل توبة كلّ تائب من كلّ ذنب وكان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 89 ] علم إنّ المعنى الذي لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه . وإذ كان ذلك كذلك فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره لأنّ الله لا يقبل من مشرك عملاً ما أقام على شركه وضلاله . فأمّا إن تاب من شركه وكفره وأصلح فإنّ الله كما وصف نفسه غفور رحيم . اهـ . ثمّ بيّن ضعف سائر الروايات حتّى رواية من قال إنّ المراد بذلك التوبة عند الموت وجزم ( أي ابن جرير ) بأنّ الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين فإنّ إيمانه يكون مقبولاً وليس هذا محل الخوض في ذلك . فأنت ترى إنّ هذه الأقوال وهي أظهر ما قيل في الآية منها ما يرجع إلى وقت التوبة ومنها ما يتعلّق بالذنب الذي تيب عنه . وللأستاذ الإمام وجه يتعلّق بصفة التوبة وكيفيتها . فقد ذكر في الدرس إنّ أولئك الكافرين الذين ازدادوا كفراً قد يحدث لهم في أنفسهم ألم من مقاومة الحقّ وقد يحملهم ذلك الألم على ترك بعض الذنوب والشرور ، قال فهذا النوع من التوبة لا يقبل منهم ما لم يصلحوا أمرهم ويخلصوا لله في اتّباع الحقّ ونصرته ، فالتوبة التي يزعمونها على ما هم عليه من مقاومة المحقّين لا يقبلها الله تعالى ، يعني أنّه قد يقع من هؤلاء نوع من التوبة لا يكون مطهّراً لأنفسهم من جميع ما لصق بها من الكفر والأوزار وليس هذا عين قول من قال إنّ توبتهم هذه التي لا تقبل هي توبة في الظاهر دون الباطن وباللسان دون القلب ، فإنّ ذلك نفي للتوبة وهذا إثبات لها بل هو قريب من قول ابن جرير الذي هو أظهر الأقوال السابقة . وقد يكون مراد الأستاذ الإمام أنّ النفوس قد توغل في الشرّ وتتمكّن في الكفر حتّى تحيط بها خطيئتها وتصل إلى ما عبّر عنه القرآن بالرين والطبع والختم على القلوب . فإذا كان صاحب هذه النفس قد جحد الحقّ عناداً واستكباراً وضلّ على علم فلا يبعد أن تحدثه نفسه بالتوبة وأن يحاولها ولكن يكون له في نفسه من الموانع والحوائل دون قبولها للخير والحقّ ما يكون هو السبب لعدم قبولها فإنّ قبول التوبة المستلزم لمغفرة ذنب التائب ليس من قبيل العطاء الجزاف والأمر الأنف ، وإنّما يكون بموافقة سنن الله في الفطرة الإنسانية ذلك أنّ من مقتضى الفطرة السليمة أن يحدث لها العلم بقبح الذنب وسوء عاقبته ألماً يحملها على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثراً مضادّاً لذلك الأثر وبهذا تكون التوبة معدّة صاحبها ومؤهلة له للمغفرة التي هي ترك العقوبة على الذنب المترتب على محو سببه وهو تدنيس النفس وتدسيتها : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] فإذا بلغت التدسية من بعضها مبلغاً تتعذّر معه التزكية على مريدها أو محاولها صحّ أن يعبّر عن ذلك بعدم قبول توبة صاحب هذه النفس . مثال ذلك الثوب الأبيض الناصع يصيبه لوث فيستقبح ذلك صاحبه فيغسله فينظف فإذا كان اللوث قليلاً وبادر إلى غسله بعيد طروئه يرجى أن يزول حتّى لا يبقى له أثر . ولكن هذا الثوب إذا دسّ في الأقذار سنين كثيرة حتّى تخللت جميع خيوطه وتمكّنت منها فاصطبغ بها صبغة جديدة ثابتة تعذّر تنظيفه وإعادته إلى نصاعته الأولى . وبيّن هذه الدرجة وما قبلها درجات كثيرة . وقد أشير إلى الطرفين بقوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 17 - 18 ] . تلك حالة هذا الصنف من الهازئين بالدين المتقلّبين في الكفر العريقين في الشرّ . ولذلك سجّل عليهم الرسوخ في الضلال بصيغة القصر أو الحصر فقال : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ } المتمكّنون من الضلال حتّى كأنّه محصور فيهم ، وحسبك بضالّ لا ترجى هدايته ، ولا تقبل توبته ، ونعوذ بالله من الخذلان . { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } وهؤلاء هم القسم الثالث من أقسام الكافرين في الآيات . فالأول : من يتوبون توبة مقبولة من الكفر ويعملون الصالحات فيستحقّون المغفرة والرحمة . والثاني : من يتوبون توبة غير مقبولة إمّا لفسادها في نفسها وإمّا لأنّها توبة عن بعض أعمال الكفر مع البقاء عليه وقد تقدّم حكمها . أمّا هؤلاء الذين يقيمون على الكفر وأعماله حتى يدركهم الموت على ذلك { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً } إذا كان قد تصدّق به في الدنيا لأنّ الكفر يحبط كلّ عمل : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] فهو لا يفيد في نجاتهم من العذاب الآتي ذكره في الآية لأنّ من لم ترتق روحه في الدنيا إلى درجة الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر فإنّها لا ترتقي في الآخرة من الهاوية التي تسمّى النار والجحيم إلى درجة من الدرجات العلى التي تكون في الجنّة { وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ } في الآخرة على فرض أنّه يملكه بأن أراد أن يجعله جزاء نجاته والعفو عنه كما يفعل الناس مع الحكّام الظالمين فإنّه لا يقبل منه أيضاً . قال تعالى في وعيد المنافقين : { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [ الحديد : 15 ] بل لا تقبل الفدية من غيرهم أيضاً ، كما في آيات أخرى عامّة . وليست علّة ذلك ما قالوه من كون الله تعالى غنياً عن الذهب وغيره ممّا يفتدي به ، فإنّه تعالى غني أيضاً عن إيمان الناس وأعمالهم ، وإنّما علّته أنّه تعالى لم يجعل أمر نجاة الناس من عذاب الآخرة ولا أمر فوزهم بنعيمها ممّا يكون بالأمور الخارجية كمال يبذل وعظيم ينفع بل جعل ذلك أمراً متعلّقاً بأمر داخلي ، متعلّقاً بجوهر النفس ، فمن زكّاها بالإيمان مع العمل الصالح أفلح ومن دسّاها بالكفر والأعمال السيّئة خاب وخسر - راجع تفسيره : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً } [ البقرة : 48 ، 123 ] إلخ وتفسير الآية : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم } [ البقرة : 254 ] إلخ . وقال الأستاذ الإمام في الآية : الكلام في هذا الجزاء من التمثيل لأنّه ليس هناك حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه ، لأنّ الأشقياء لا نصير لهم فينفق عليه والأولياء في غنى بفضل الله ورحمته عمّن ينفق عليهم والمراد أنّه لا طريق للإفتداء لو أريد . ليس عندنا عنه غير هذا . { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ينصرونهم بدفع العذاب عنهم أو إيصال الخير إليهم ، أي لا يجدون لهم نصيراً ما كما تفيده { مِّن } الدالة على استغراق النفي ويسمّونها زائدة ؛ لأنّها لا متعلّق لها في إصطلاح النحاة لا لأنّها لا معنى لها في الكلام . ومن مباحث اللفظ مع المعنى في الآية أنّه قال في هذه الآية : { فَلَن يُقْبَلَ } وفي الآية التي قبلها { لَّن تُقْبَلَ } بغير فاء وقد بيّن صاحب الكشّاف النكتة في ذلك وتبعه غيره فيها قال : قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بني على الشرط والجزاء وإنّ سبب إمتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وبترك الفاء أنّ الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبّب ، كما تقول : الذي جاءني له درهم : لم تجعل المجيء سبباً في استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك : " فله درهم " أي فإنّه يفيد أنّ الدرهم جزاء لمجيئه . والنكتة في غاية الجلاء والظهور . فإنّ عدم قبول توبة أولئك ليس مسبباً عن كونهم كفروا ، ولا عن كونهم ازدادوا كفراً . لأنّ الكافر ومن إزداد كفراً تقبل توبتهما إذا صحّت ، وقد علم سببّه ممّا تقدّم . ومنها : إنّهم اختلفوا في موقع الواو من قوله : { وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ } على ظهوره فيما جرينا عليه من تفسير الآية . ويقرب منه قول الزجاج النحوي أنّها للعطف والتقدير لو تقرّب إلى الله بملء الأرض ذهباً لم ينفعه ذلك ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لم يقبل منه . قال الرازي : وهذا اختيار ابن الأنباري قال وهذا أوكد في التغليظ لأنّه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه . أقول : وما قدّرناه أظهر وبالنظم أليق . قال الرازي بعد إيراد رأي الزجاج . الثاني : الواو دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأنّ قوله : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً } يحتمل الوجوه الكثيرة فنصّ على نفي القبول بجهة الفدية أقول : ولو قال التخصيص بعد التعميم لكان أظهر لأنّ ذكر واحد ممّا يتناوله أو يحتمله المجمل ليس تفصيلاّ له . ثمّ قال الثالث : وهو وجه خطر ببالي وهو أنّ من غضب على بعض عبيده فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة ، إلاّ أنّه قد يقبل الفدية فأمّا إذا لم يقبل منه الفدية أيضاً كان ذلك غاية الغضب والمبالغة إنّما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية ، فحكم الله تعالى بأنّه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهباً ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيهاً على أنّه لما لم يكن مقبولاً بهذا الطريق فبأن لا يكون مقبول منه بسائر الطرق أولى . اهـ . وفي الكشّاف : هو كلام محمول على المعنى كأنّه قيل فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله - وأورد لذلك شواهد وأمثلة ثمّ قال - وأن يراد فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً كان قد تصدّق به ولو افتدى به أيضاً لم يقبل . اهـ .