Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 114-115)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أقول ما تقدم في بيان سبب نزول الآيات التي قبل هذه إن ( طعمة ) الخائن لم يكد يفتضح أمره حتى فرّ إلى المشركين وأظهر الشرك والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم كأنه كان قد أسلم ليتخذ من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أعواناً ونصراء يعينونه على اتباع الهوى والخيانة بالعصبية على المخالفين ، وما علم إن الإسلام قد جاء ليبطل الخيانة والضلال ويمحق الأباطيل ويؤيد الحق والفضيلة ، أفلا يسمع هذا المبطلون من أهل أوربة الذين لا يزالون يقلدون قسوس قرونهم المظلمة مثيري الحروب الصليبية في زعمهم إن المسلمين كانوا في العصر الأول جمعية لصوص وقطاع طريق ! ! ألا يدلوننا على حكومة من أرقى حكوماتهم أوصلها دينها ومدنيتها وعلومها وحضارتها إلى الرضا بمساواة أبنائها وأوليائها بأعدى أعداءها ، ويشددون في ذلك مثلما شددت الآيات التي تقدم تفسيرها في قضية ( طعمة ) مع اليهودي ؟ ؟ . كيف ونحن نراهم في بلادنا لا يرضون بالمساواة بيننا وبينهم ، وإن الرجل من أشرار جناتهم وتحوت صعاليكهم قد يقتل الواحد من خيار الناس في مصر فيحاكمه قنصل دولته كما يريد ، ويحكم عليه بأن يغيب عن الأرض التي لوثها بدم الجناية زمناً طويلاً أو قصيراً ثم يعود إن شاء ؟ . فعلى هذا الذي تقدم يكون قوله تعالى : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } وما بعده نزل في سياق تلك القصة وإن ضمير { نَّجْوَاهُمْ } يعود على أولئك المختانين لأنفسهم الذين يبيتون في ليلهم من الأقوال ما لا يرضي ربهم ، وهذا هو المختار . والنجوى مصدر أو اسم مصدر ومعناه المسارة بالحديث ، قيل أصله من النجوة وهي المكان المرتفع عما حوله بحيث ينفرد من فيه عمن دونه ، وقيل من النجاة كأنه نجا بسره ممن يحذر اطلاعهم عليه ، ويوصف به فيقال قوم نجوى ورجلان نجوى . ومنه قوله تعالى في سورة الإسراء { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [ الإسراء : 47 ] ومن استعماله بالمعنى المصدري في القرآن قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] وقوله : { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى } [ الأنبياء : 3 ] وأجاز المفسرون هنا أن تكون النجوى بمعنى المتناجين أي المتسارّين ويكون المعنى : لا خير في كثير من المتناجين الذين يسرون الحديث من جماعة ( طعمة ) الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته ، ومن سائر الناس إلا من أمر منهم بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس . وهذه الثلاثة هي مجامع الخيرات التي يحتاج فيها إلى النجوى ، فيكون الاستثناء متصلاً على ظاهر قواعد النحو . وأما على القول بأن النجوى هنا بمعنى التناجي فالظاهر أن الاستثناء منقطع أي لا خير في كثير من تناجي هؤلاء الناس ولكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فذلك هو الخير الذي يكون في نجواه الخير - وإلا فإنهم يقدرون للإعراب مضافاً محذوفاً والتقدير لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف إلخ وقد تقدم تحرير مثل هذه المسألة في تفسير { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } [ البقرة : 177 ] من سورة البقرة ورأي الأستاذ الإمام فيه ( فليراجع في الجزء الثاني من هذا التفسير ) . وقال الأستاذ هنا إن الكلام في الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، ومعناه إن الغالب عليهم الشر فهو الذي يجري في نجواهم لأنه أكبر همهم - وذكر مسألة الاستثناء ثم قال - إن النكتة في ذكر الكثير هنا هو إن من النجوى ما يكون في الشؤون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلاً فلا توصف بالشر ، ولا هي مرادة من الخير ، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي الخير عنها النجوى في شؤون الناس ولذلك استثنى الأمور الثلاثة التي هي مجامع الخير للناس . اهـ . أقول إذا كان الكلام هنا في أولئك الخائنين فنفي الخير عن الكثير من نجواهم ظاهر ، ولكننا نرى الكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنة الإثم والشر مطلقاً ولذلك خاطب المؤمنين بقوله في سورة المجادلة { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ المجادلة : 9 - 10 ] وهذا بعد إن بين إن بعض الناس نهوا عن النجوى ثم هم يعودون إليها ، وهم اليهود والمنافقون . والحكمة في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر هي أن العادة الغالبة وسنة الفطرة المتبعة هي استحباب إظهار الخير والتحدث به في الملإِ ، وإن الشر والإثم هو الذي يُخفى ، ويذكر في السر والنجوى ، وفي الحديث الشريف : " الإِثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس " وقلما يكتم الناس شيئاً من الخير المطلق المتفق على كونه خيراً ، وإنما الغالب في كتمان بعض الخير وإسراره وجعل الحديث فيه نجوى أن يكون ذلك الخير خيراً للمتناجين وشراً لغيرهم أو مؤذياً له ولو من بعض الوجوه . كأسرار الحرب والسياسة التي يتوخى بها أهلها نفع أنفسهم وضرر غيرهم فيكتمون أخبارها ويجعلونها نجوى بينهم لئلا تصل إلى خصمهم وعدوهم الذي يضره ما ينفعهم ، وينفعه ما يحبط عملهم ويبطل كيدهم . ويشبه ذلك ما يكون بين التجار وغيرهم من طلاب الكسب من التناجي فيما يخافون إن يطلع عليه غيرهم فيسبقهم إليه أو يشاركهم فيه ، فإن ما يريدون إن يفوته من الكسب خير لهم وشر له . وهنالك أمور من الخير تتوقف خيريتها أو كمال الخير فيها وخلوه من الشوائب على كتمانه وجعل التعاون عليه سراً والحديث فيه نجوى ، وهو ما ذكره الله تعالى من هذه الأمور الثلاثة . فما استثناها الله تعالى من النجوى التي لا خير في أكثرها إلا لأنها يحتاج فيها إلى النجوى وإني لم أفطن لهذا إلا عند كتابة تفسير الآية وليس عندي فيه نقل ، وقد عجبت للأستاذ الإمام كيف ذهل عنه فلم يبينه ما لم أعجب لغيره ، فإنه أبو عذرة هذه الدقائق في علم الإنسان والقرآن على أنني كنت أود لو كان بين يدي جميع كتب التفسير المعتبرة لأراجع تفسير الآية فيها . أما الصدقة فهي من الخيرات التي لا مرية فيها وإن إظهارها قد يؤذي المتصّدق عليه ويضع من كرامته ، وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة له من إيتائه إياها جهراً ولو كان ذلك مع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى ولهذا قال عز وجل { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 271 ] فقد مدحها الله تعالى مطلقاً ، وجعل إخفاء ما يؤتاه الفقير منها خير من إظهاره لأن بعض الفقراء يتأذى بالإظهار ويراه إهانة له ، ولو كان جميع الفقراء أو أكثرهم يتأذون بالإظهار لحرمه الله تعالى وأوجب الإخفاء إيجاباً . فلما ذم الله تعالى النجوى وبين إنه لا خير في كثير منها وكان مما قد يترتب على ذلك أن لا يتناجى المتعاونون على الخير فيما بينهم في أمر بعضهم بعضاً بالصدقة الخفية على المستحقين لها من أهل الحياء والكرامة الذين يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف ، استثنى الحكيم الخبير هذا النوع من النجوى حتى لا يتحاماه المتورعون خوفاً إن يدخل فيما لا خير فيه . وأما المعروف فقد يخفى وجه استثنائه وهو في اللغة ضد المنكر أي ما تعرفه وتقره النفوس وتتلقاه بالقبول ، لموافقته للمصالح وانطباقه على الطباع والعقول ، قال بعض أهل الفراسة من العرب : إني لأعرف في عيني الرجل إذا عرف ، وأعرف في عينه إذ أنكر ، وأعرف فيهما إذا لم يعرف ولم ينكر ، إلخ . ولما كان الشرع مهذباً للنفوس ومرشداً للعقول ، ومقوماً لما مال وانآد من أحكام الفطرة البشرية بسوء اجتهاد الناس ، صار أعرف المعروف ما أرشد إليه أو أقره واستحسنه ، وأنكر المنكر ما نهى عنه وذمه وكرهه ، فالذي يؤمر بالمعروف على مسمع من الناس يستاء في الغالب من الآمر ، ولا سيما إذا كان من أقرانه حقيقة أو ادعاء ، لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل ، واتهاماً له بالتقصير أو الجهل ، وإشرافاً عليه بالتعليم والتهذيب ، من أجل هذا كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء ، وأقرب إلى القبول والإمضاء ، وكان من هداية اللطيف الخبير إن يدخله في هذا الاستثناء ، ليكف عنه محبو الاستعلاء ، ولا يتأثم به من يعرفون فائدة الإخفاء . وأما الإصلاح بين الناس فهو أيضاً من الخير الذي قد يترتب على إظهاره والتحدث به في الملإِ شر كبير ، وضرر مستطير ، فينقلب الإصلاح المطلوب إفساداً ، وهذا مما لا يكاد يخفى على أحد عاش بين الناس واختبر أحوالهم فيما يكون بينهم من الخصام والشقاق والتنازع والصلح والتراضي بسعي محبي الإصلاح . فإن منهم من إذا علم إن ما يطالب به من الصلح كان بأمر زيد من الناس ، لا يستجيب ولا يقبل ، ومنهم من يصده عن الرضا بذلك ذكره بين الناس وعلمهم بأنه كان بسعي وتواطؤ ، ومنهم من يشترط إن يكون خصمه هو الذي طلب مصالحته ، ومنهم من يشترط إن يظن الناس ذلك ، والجهر بالحديث في ذلك قد يبطل ذلك . فالإصلاح بين الناس يحتاج فيه إلى الكتمان وإن يكون الأمر به والسعي إليه بين من يتعاونون عليه بالنجوى فيما بينهم . لو أطلق القول في الكتاب بأن كثيراً من النجوى لا خير فيه ولم يستثن من ذلك شيء لذهب اجتهاد كثير من المتورعين إلى إن هذه الأمور من ذلك الكثير فيتركون النجوى بها خوفاً من الوقوع فيما لا خير فيه ، وحينئذٍ إما إن يرجحوا الجهر بالأمر بها فيفوت الغرض المقصود منها ، ولو في بعض دون بعض ، وإما إن يرجحوا ترك الأمر بها ألبتة ، لئلا يترتب على النفع المقصود من الصدقة الضرر ، وتأخذ من يؤمر بالمعروف العزة بالإِثم ، ويتحول إصلاح ذات البين إلى إفساد . فهذا ما ظهر لي الآن في المسألة . { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 114 ] بغى الشيء طلبه بالفعل وابتغاه أبلغ من بغاه في الدلالة على الطلب لأنه يدل على الاجتهاد فيه والاعتمال له ، وإنما تنال مرضاة الله تعالى بالشيء إذا فعل على الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجله ، ويكون الفاعل له مظهراً لرحمته تعالى وحكمته ، مع تذكر هذا عند العمل والشعور به ، وبهذا القيد يكون المؤمن أرقى من الفيلسوف في عمله ، وأبعد عن الغرور والدعوى فيه ، وأرسخ قدماً في الإخلاص ، وتحري نفع الناس ، والثبات على ذلك وعدم مزاحمة الأهواء الشخصية له وترجيحها عليه ، ذلك بأن الفلاسفة - وأخص منهم فلاسفة هذا الزمان - يقولون إن الخير والفضيلة والكمال في الإنسانية هو أن يفعل الإنسان الخير لأنه خير نافع للهيأة الإجتماعية التي هو منها . والإيمان يهدينا إلى هذا وإلى ما هو أعلى منه وأشرف ، وهو أن نشعر أنفسنا عند عمله أننا مظاهر لرحمة الله تعالى ورأفته بعباده ، ومجالي لحكمته في إصلاح خلقه ، وإن لنا بذلك قرباً معنوياً من ربنا ، وإننا نلنا به مرضاته عنا ، وصرنا به أهلاً للجزاء الأوفى . في حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى ، وإن هذا الجزاء هو المعبر عنه بالأجر العظيم ، وناهيك بما يشهد الله تعالى بعظمه في كتابه الحكيم ، وليس هو من قبيل جزاء الملوك والكبراء لمن يحسن خدمتهم ، وينال مرضاتهم ، بل هو أثر فطري طبيعي لارتقاء النفس بتلك الأعمال الصالحة ، التي لا يقصد بها رياء ولا سمعة ، إلى ما يزيد الله صاحبها بفضله وكرمه . إن المؤمن الفقيه في دينه ، الذي هو على بصيرة منه ، يعمل الخير على هذا الوجه ، حتى ترتقي روحه ارتقاء تصل به إلى ذلك الفضل ، وأما صاحب تلك النظرية الفلسفية فقلما يعمل بها ، وإن عمل بها أحياناً فقلما يكون مخلصاً في عمله ، وإذا تعارض هواه وشهوته مع خير غيره ومنفعته ، فإنه يؤثر نفسه ولو بالباطل ، على غيره من أصحاب الحق ، فإذا كان مما وصف الله تعالى به المؤمنين إنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، فهؤلاء الفلاسفة ومقلدتهم يؤثرون أنفسهم على غيرهم ولو عن ظهر غنى ، ثم إنهم يميلون في تأويل الخير والنفع مع الهوى . وقد جرى لي حديث مع بعض كبراء المصريين في تحديد معنى الفضيلة فكان يتكلم بلسان الفلسفة ، وأتكلم بلسان الإسلام الجامع بين الدين والحكمة ، فلما حددها بما ينفع الهيئة الاجتماعية ، قلت إذا كان هذا هو المعنى فما هو الباعث للنفوس على العمل به ؟ قال هو اعتقاد كل فرد أن نفع الهيئة الإجتماعية نفع له فإذا صلحت عاش فيها سعيداً ، وإذا فسدت لحقه شيء من فسادها فكان به شقياً ، قلت معنى الفضيلة إذاً أن يطلب الإنسان نفع نفسه مع ملاحظة نفع الهيئة الإجتماعية التي يعيش فيها ، فتختلف الأعمال التي تندرج في مفهومها الكلي باختلاف آراء أفراد الناس فيما ينفع الهيئة الإجتماعية وفيما هو أرجح من المنافع عند تعارضها . مثال ذلك إذا قدرت أن تسرق مال رجل أو تخونه فيه إذا استودعك إياه ففعلت ذلك لاعتقادك أنك تقدر على ما لا يقدر صاحب المال عليه من نفع الهيئة الإجتماعية أو تنفقه فيما هو أنفع لها تكون بهذه السرقة وهذه الخيانة معتصماً بعروة الفضيلة . قال نعم قلت وإذا قدر رجل على أن يخون آخر في عرضه ويزني بامرأته معتقداً إنه لا ضرر في ذلك على الهيئة الإجتماعية لأن في الخفاء فلا يثير نزاعاً ولا خصاماً فلا ينافي الفضيلة ، أو أنه ربما ينفع الهيئة الإجتماعية بإِيلادها ولداً يرث من ذكائه ما يكون به خيراً ممن تلدهم تلك المرأة من زوجها الشرعي ، أو بما هو أوضح من هذا عنده كأن تكون تلك المرأة لا تلد من ذلك الرجل - فهل يكون هذا العمل من مقومات الفضيلة المحدودة بما ذكرتهم ؟ قال نعم كل من هذا وذاك يعد من الفضيلة في الواقع ونفس الأمر إذا كان اعتقاد الفاعل بنفعه للهيئة الإجتماعية صحيحاً ، وإن كان القانون لا يجيز الحكم له بحسب اعتقاده إذا ظهر الأمر ورفع إلى القاضي ! ! . أقول وقس على السرقة والخيانة والفاحشة جميع الرذائل حتى القتل فإنها يمكن أن تعد من الفضائل على ذلك التعريف إذا ظن فاعلها إنه ينفع الهيئة الإجتماعية كأن يقتل من يرى هو في سياسته أو اعتقاده أو عمله ضرراً وإن كان المقتول يرى ذلك نافعاً ، فهذا المذهب الجديد في الفلسفة العملية هو شر مذهب أخرج للناس ، فإن الرذائل فيه قد تسمى عقائل الفضائل ، والمفاسد تعد فيه من أنفع المصالح ، والحاكم في ذلك هو الهوى . ولولا افتنان ضعفاء النفوس ببعض من يقولون به لما استحق أن يحكى . وكان للفلاسفة الأولين مذاهب في الفضيلة معقولة ، وآراء صحيحة ، وقد أنطقهم الله تعالى بكثير من الحكم ، ولكن ثمرات عقولهم لم تكن دانية القطوف ، يجنيها القوي والضعيف ، ولم يكن لها ما لهداية الوحي من السلطان على القلوب والأرواح ، والتأثير السريع في إصلاح شؤون الاجتماع ، فمن ثم كان الدين أنفع من الفلسفة للناس وليس عندي شيء عن الأستاذ الإمام في تفسير هذه الآية إلا ما أسندته إليه في أول الكلام عليها . وقوله في تفسير ابتغاء مرضاة الله إنها إنما تطلب بالإخلاص ، وعدم إرادة السمعة والرياء كما يفعل المتفاخرون من الأغنياء : تصدقنا أعطينا منحنا عملنا وعملنا - فهؤلاء إنما يبتغون الريح بما يبذلون أو يعملون لا مرضاة الله تعالى ، ولذلك يشق عليهم أن يكون خفياً ، وأن يخلُصوا في الحديث عنه نجياً ، لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم ، وتسخير الناس لخدمتهم ، ورفعهم لمكانتهم ، إنما تكون بإظهاره لهم ، ليتعلق الرجاء فيهم . اهـ . ببسط وإيضاح . { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } إلخ . قال الأستاذ الإمام لما بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه وعده بالجزاء الحسن للذين يتناجون بالخير . ويبتغون بنفع الناس مرضاة الله عز وجل ، أراد أن يبين في هذه الآية وعيده لأولئك الذين يتناجون بالشر ، ويبيتون ما يكيدون به للناس ، فهو يقول إن أولئك القوم مشاقون للرسول إذا كانوا يفعلون ما يفعلون بعد أن ظهرت لهم الهداية على لسانه صلى الله عليه وسلم ، وقامت عليهم الحجة بحقيقة ما جاء به ، وأما من لم تتبين لهم الهداية فلا يستحقون هذا الوعيد ، وهم متفاوتون ، فمن نظر منهم في الدليل فلم يظهر له الحق وبقي متوجهاً إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص فهو معذور غير مؤاخذ كالذي لم تبلغه الدعوى ، وعليه جمهور الأشاعرة . والمشاقة بعد تبين الهدى إنما تكون عناداً وعصبية أو اتباعاً لشهوة تفوت بهذه الهداية . اهـ . أقول المشاقة المعاداة مشتقة من شق العصا ، أو هي مفاعلة من الشق كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق غير الذي فيه الآخر كما قالوا . والكلام جاء بصيغة العموم وهو يصدق على ( طعمة ) كما ذكر في قصته وعلى قليل من الناس منهم بعض علماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قلنا إنه يصدق على قليل من الناس لأن أكثر الناس فطروا على ترجيح الهدى على الضلال والحق على الباطل والخير على الشر إذا تبين لهم ذلك وعرفوه وناهيك بمن دخل فيه وعمل به ورأى الفرق بينه وبين ما كان عليه هو وقومه ( كطعمة ) ولا يشترط في هذا الترجيح الفطري والعمل به أن يكون قد تبين بالبرهان اليقيني المنطقي الذي لا يقبل النقض بل يكفي أن يظهر للمرء أن هذا هو الهدى أو أنه أهدى من مقابله إذا كان هناك مقابل . وسبب هذا ومنشؤه أن الإنسان فطر على حب نفسه وحب الخير والسعادة لها والسعي إلى ذلك واتقاء ما ينافيه ويحول دونه لذلك كانت شريعة الإسلام التي هي دين الفطرة مبنية على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح فكل ما حرم فيها على الناس فهو ضارّ بهم وكل ما فرض عليهم أو استحب لهم فيها فهو نافع لهم ، ولهذا كان غير معقول أن يتركها أحد بعد أن يعرفها وتتبين له وكان إن وقع لا بد له من سبب ، وهو ما أشار إليه القرآن الحكيم في قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] أي لا أحد يرغب عنها إلا من احتقر نفسه وأزراها بالسفه والجهالة ، ونحن نبين أصناف الناس في اتباع الهدى وتركه وسبب ذلك فنقول . الصنف الأول : من تبين له الهدى بالبرهان الصحيح ، ووصل فيه إلى حق اليقين ، وهذا لا يمكن أن يرجع عنه اعتقاداً ، ويندر جداً أن يرجع عنه عملاً . وللأستاذ الإمام كلمة كبيرة في هذا المقام لا يقولها إلا مثله من الإعلام ، وهي : " الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في الحق كلاهما قليل في الناس " . وهو يعني الرجوع بالعمل إذ الإنسان يملك من عمله ما لا يملك من اعتقاده فمن كان موقناً بأن المخلوق لا يكون إلهاً ولا شريكاً لله يؤثر في إرادته ويحمله على فعل ما لم يكن ليفعله لولاه - لا يستطيع بعد اليقين الحقيقي في ذلك إن يعتقد إن المسيح أو غيره ممن عبد ومما عبد من دون الله أو مع الله آلهة أو شركاء لله ، ولكنه يستطيع ويدخل في إمكانه إن يدعوها من دون الله أو مع الله ، وإن يعبدها بغير الدعاء أيضاً كالتمسح بها والتعظيم الذي يعده أهلها من شعائر العبادات ، لا من عموم العبادات ، وهو وإن كان يستطيع ما أشرنا إليه من عباداتها لا يفعله ، أي لا يرجع عن الحق بالعمل ، إلا إن يكون لما أشرنا إليه من السبب ، وسنبينه بعد . الصنف الثاني : من تبين لهم الهدى بالدلائل المعتادة التي يرجح بها بعض الأشياء على بعض بحسب أفهامهم وعقولهم ، لا بالبرهان المنطقي المؤلف من اليقينيات البديهية أو المنتهية إليها ، وهؤلاء لا يرجعون عن الهدى إلى الضلال وهم يعلمون أنه الهدى بهذا النوع من العلم الذي أشرنا إليه إذ يكفي أنهم معتقدون به أنهم على الحق والخير والصلاح ، فلا يشاقون من جاءهم بذلك ولا يتبعون غير سبيل أهله إلا لسبب يقل وقوعه كما سيأتي . الصنف الثالث : من اتبع الهدى تقليداً لمن يثق به من الناس كآبائه وخاصة أهله ورؤساء قومه وهذا لا يدخل فيمن تبين لهم الحق والهدى لأنه لم يتبين لهم شيء ولذلك يتركون الهدى إلى كل ما يقرهم عليه رؤساؤهم من البدع والضلالات كما هو مشاهد في جميع الملل والأديان . الصنف الرابع : من لم يتبع الهدى لأنه نشأ على تقليد أهل الضلال ، فلما دعي إلى الهدى لم ينظر في دعوة النبي الذي دعي إلى دينه ، ولا تأمل في دليله ، لأنه صدق الرؤساء الذين قلدهم بأنه ليس أهلاً للاستدلال وأن الله حرم عليه وعلى أمثاله النظر في الأدلة والبينات ، وفرض عليهم أن يقلدوا أهل الاجتهاد ، ومن ينقل إليهم مذاهبهم من العلماء ، فمن قلد عالماً ، لقي الله سالماً ، ومن نظر واستدل ، زل وضل . وهذا ما كان عليه جمهور أهل الكتاب في زمن بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وكذلك غيرهم من أصحاب الأديان المدونة كالمجوس ، وأمثال هؤلاء إذا ترك رؤساؤهم دينهم أو مذهبهم يتبعونهم في الغالب ، ولا سيما إذا دخلوا في مذهب أو دين جديد ليس بينهم وبين أهله عداوات دينية ولا سياسية تنفرهم منهم تنفيراً طبيعياً ، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم ملوكهم ورؤساءهم إلى الإسلام وكتب لكل رئيس إن عليه إثم قومه أو مرءوسيه إذا هو تولى عن الإيمان ، ولم يجب دعوة الإسلام . الصنف الخامس : كالذي قبله في التقليد لأهل الضلال تعظيماً لجمهور قومه ومن نشأ على احترامهم من آبائه وأجداده ، واستبعاداً لكونهم كانوا متفقين على اتباع الضلال ، وإن يكون هذا الداعي قد عرف الهدى من دونهم ، أو أوحي إليه ولم يوح إليهم ، وهذا ما كانت عليه عامة العرب عند ظهور الإسلام ، والآيات المبينة لحالهم هذه كثيرة ليس هذا محل سردها ، وإنما الفرق بينهم وبين مقلدة أهل الكتاب والأديان المدونة ذات الكتب والهياكل والرؤساء الروحيين ، إن تقليد هؤلاء العرب أضعف ، وجذبهم إلى النظر والاستدلال أسهل ، وكذلك كان ، وهو من أسباب ظهور الإسلام فيهم دون سائر الناس . الصنف السادس : علماء الأديان الجدليون المغرورون بما عندهم من العلم الناقص بها ، الذين دعوا إلى الهدى فلم يتولوا عنه اتباعاً لرؤساء فوقهم ، ولم ينظروا فيه بالاستقلال والإخلاص ، بل أعرضوا احتقاراً له لأنه غير ما جروا عليه ووثقوا به ، وجعلوه مناط عظمتهم ، وحسبوه منتهى سعادتهم ، وهم في الحقيقة مقلدون كعامتهم ، ولكن عندهم من الصوارف عن قبول الهدى ما ليس عند العامة من معرفة عظمة أسلافهم الذين ينتمون إليهم وما ينسب إليهم من العلم والصلاح والفضائل والكرامات ، ومن الأدلة الجدلية على حقية ما هم عليه . الصنف السابع : الذين بلغتهم دعوة الهدى على غير وجهها الصحيح المحرك للنظر فلم ينظروا فيها ولم يبالوا بها لأنهم رأوها بديهية البطلان ، ومن هؤلاء أكثر كفار هذا الزمان الذين لا يبلغهم عن الإسلام إلا أنه دين من جملة الأديان الكثيرة المخترعة فيه وفي أهله من العيوب والأباطيل وما هو كذا وكذا - كما اخترع وافترى رؤساء النصرانية وغيرهم على الإسلام ولا سيما ما كتبوه قبل تأليب الشعوب الأوربية على الحرب الشهيرة بالصليبية . فهؤلاء لا يبحثون عن حقيقة الإسلام كما أن المسلمين لا يبحثون عن دين المورمون مثلاً . الصنف الثامن : من بلغتهم دعوة الهدى على وجهها أو غير وجهها فنظروا فيها بالإخلاص ولم تظهر لهم حقيقتها ولا تبينت لهم هدايتها ، فتركوها وتركو إعادة النظر فيها . الصنف التاسع : هم أهل الاستقلال الذين نظروا في الدعوة كمن سبقهم ولا يتركون النظر والاستدلال إذا لم يظهر لهم الحق من أول وهلة بل يعودون إليه ويدأبون طول عمرهم عليه وهم الذين نقل الأستاذ الإمام عن محققي الأشاعرة القول بنجاتهم لعذرهم . الصنف العاشر : من لم تبلغهم دعوة الحق والهدى البتة ، وهم الذين يعبر عنهم بعضهم بأهل الفترة ، ومذهب الأشاعرة إنهم معذورون وناجون . هذه هي أصناف الناس في الهدى والضلال ، بحسب ما خطر للفكر القاصر الآن ، ولا يصدق على صنف منها إنه تبين له الهدى إلا الأول والثاني ، فمن يشاقق الرسول من أفرادهما في حياته ، أو يعادي سنته من بعده ، { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الذين هم أهل الهدى ، وإنما سبيلهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الذي يقول الله تعالى فيه { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } وهو الذي يصدق عليه قوله تعالى في سورة أخرى { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الجاثية : 23 ] وهم أجدر الناس بدخول جهنم وصليها والاحتراق بها وسائر أنواع عذابها لأنهم استحبوا العمى على الهدى ، وعاندوا الحق واتبعوا الهوى . وأما سائر الأصناف فيولي الله كلا منهم ما تولى أيضاً كما هي سنته في الإنسان الذي خلقه مريداً مختاراً حاكماً على نفسه وعلى الطبيعة المحيطة به بحيث يتصرف فيهما التصرف الذي يراه خيراً له ولذلك غير في أطوار كثيرة أحوال معيشته وأساليب تربيته وسخر قوى الطبيعة العاتية لمنافعه { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] فهو مربي نفسه ومربي الطبيعة التي ألّهها بعض أصنافه جهلاً منهم بأنفسهم وهو لا متصرف فوقه في هذه الأرض إلا رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم . أقول هذا نسفاً لأساس جبرية الفلسفة الأوربية الحاضرة بعد نسف أساس جبرية الفلسفة الغابرة ، هؤلاء الذين يظنون أن ما يسمونه الأفعال المنعكسة تعمل في الإنسان عملها وأنه لا عمل له بها ، والصواب إنه حاكم عليها كحكمها عليه فإن ترك لها الحكم استبدت وإن أراد أن يتصرف فيه وفيها فعل . قلت إن من سنته تعالى في الإنسان أن يولي كلا من تلك الأصناف ما تولى ولكنه لا يصلي كلا منهم جهنم التي ساء مصيرها ، لأن إصلاء جهنم هو تابع لما يتولاه الإنسان من الضلالة في اعتقاده ، وناهيك به إذا تولاها بعد أن ظهرت الهداية له ، وذلك إن الجزاء أثر طبيعي لما تكون عليه النفس في الدنيا من الطهارة والزكاء والكمال بحسب تزكية صاحبها لها أو من ضد ذلك بحسب تدسيته لها ، ويدل على هذا وذاك قوله تعالى : { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ } . وإنني لا أتذكر أنني اطلعت على تفسير واضح لهذه الجملة الحكيمة العالية { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ } وإنما يفسرون اللفظ بمدلوله اللغوي كأن يقولوا نوجهه إلى حيث توجه ، أو نجعله والياً لما اختار أن يتولاه ، أو يزيدون على ذلك استدلال كل فرقة بالآية على مذهبها أو تحويلها إليه أعني مذاهبهم في الكسب والقدر والجبر ، وتعلق الإرادة الإلهية أو عدم تعلقها بالشر ، والذي أريد بيانه وتوجيه الأذهان إلى فهمه هو إن هذه الجملة مبينة لسنة الله تعالى في عمل الإنسان ، ومقدار ما أعطيه من الإرادة والاستقلال ، والعمل بالاختيار ، فالوجهة التي يتولاها في حياته ، والغاية التي يقصدها من علمه ، يوليه الله إياها ويوجهه إليها أي يكون بحسب سنته تعالى والياً لها ، وسائراً على طريقها ، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه ، ولو شاء تعالى لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة في الطاعة كالملائكة ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه من تفاوت الاستعداد والإدراك وعمل كل فرد بحسب ما يرى إنه خير له وأنفع في عاجله أو آجله أو فيهما جميعاً إلخ ما لا محل لشرحه هنا من طبائع البشر . وذهب بعضهم إلى أن المراد من تولية الله لمثل هذا ما تولى هو ما يلزمها من عدم العناية والألطاف ، بناء على أن لله تعالى عناية خاصة ببعض عباده وراء ما تقتضيه سننه في الأسباب والمسببات ، وجعل الجزاء في الدنيا والآخرة أثراً طبيعياً للأعمال ، وما في ذلك من النظام والعدل العام ، والظاهر أن المراد بالجملة ما ذكرنا من حقيقة معناها وحاصله أن من كان هذا شأنه فهو الجاني على نفسه لأن من سنة الله أن يكون حيث وضع نفسه واختار لها ، وأن مصيره إلى النار وبئس القرار . نعم إن الله تعالى يختص برحمته من يشاء ويهب للذين أحسنوا الحسنى ويزيدهم من فضله ، ولكن ليس هذا المقام مقام بيان سبب الحرمان من مثل هذا الاختصاص إذ ليس من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مظنة له ، فيصرح بنفيه عنه ، وليت شعري أيقول الذين فسروا التولية بهذا النفي والحرمان من العناية والألطاف : إن هذا الصنف وحده هو المحروم من ذلك . أم الحرمان شامل لغيره من أصناف الضالين ؟ وهل يستلزم حرمانه من ذلك اليأس من هدايته ثانية أم لا ؟ لا يمكنهم أن يقولوا في هذا الباب ما تقوم به الحجة ويسلم من الإيرادات التي لا تدفع . والصواب أنه لا مانع يمنع من عودة هذا الصنف من الضالين إلى الهدى لأن علمه بحقيقة ما كان عليه ، وبطلان ما صار إليه ، لا يبرح يلومه ويوبخه على ما فعله ، ولا يبعد أن يجيء يوم يكون فيه الفلج له . أما السبب الذي يحمل من تبين له الهدى على تركه فهو لابد أن يكون حالاً من الأحوال النفسانية القوية كالحسد والبغي ، وحب الرياسة والكبر ، والشهوة الغالبة على العقل ، والعصبية للجنس . والقول الجامع فيه اتباع هوى النفس ، وقد ثبت أن بعض أحبار اليهود قد تبين لهم صدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتولوا عنها حسداً له وللعرب أن يكون منهم خاتم النبيين ، وإيثاراً لرياستهم في قومهم ، على أن يكونوا مرءوسين في غيرهم ، وارتداد جبلة بن الأيهم عن الإسلام ، لما رأى أنه يساوي بينه وبين من لطمه من السوقة ، وارتد أناس في أزمنة مختلفة عن دينهم لافتتانهم ببعض النساء من الكفار . وعلة ذلك كله أي علة تأثير هذه الأسباب في نفوس بعض الناس هي ضعف النفس ومرض الإرادة بجريان صاحبها من أول نشأته على هواه وعدم تربيتها على تحمل ما لا تحب في العاجل لأجل الخبر الآجل ، وهذا هو مرادنا من إرجاع جميع الأسباب إلى اتباع الهوى وهو ما أشرنا إليه من قبل . وهو يرجع إلى ما قلنا من إن الإنسان مفطور عليه من ترجيح ما يرى إنه خير له وأنفع ، وصاحب الهوى المتبع لا يتمثل له النفع الآجل ، كما يستحوذ عليه النفع العاجل ، ولضعف نفسه ومهانتها وعجزها عن الوقوف في مهب الهوى من غير إن تميل معه . وقد حكي أن الحجاج مد سماطاً عاماً للناس فجعلوا يأكلون وهو ينظر إليهم ، فرأى فيهم أعرابياً يأكل بشره شديد فلما جاءت الحلوى ترك الطعام ووثب يريدها ، فأمر الحجاج سيافه إن ينادي : من أكل من هذه الحلوى قطعت عنقه بأمر الأمير - والحجاج يقول ويفعل - فصار الأعرابي ينظر إلى السياف نظرة وإلى الحلوى نظرة - كأنه يرجح بين حلاتها ومرارة الموت ولم يلبث أن ظهر له وجه الترجيح ، فالتفت إلى الحجاج وقال له : " أوصيك بأولادي خيراً " وهجم على الحلوى وأنشأ يأكل والحجاج يضحك ، وهو إنما أراد اختباره . ومن مباحث الأصول في هذه الآية استدلال بعضهم بها على حجية الإجماع لأن مخالفه متبع غير سبيل المؤمنين وعبر بعضهم في بيان حجيته بأنه هو سبيل المؤمنين وقد علمت إن الإجماع الذي يعنونه هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها في أي عصر على أي أمر . والآية إنما نزلت في سبيل المؤمنين في عصره لا بعد عصره . وأتذكر أنني بينت عدم اتجاه الاستدلال بالآية على حجية الإجماع في المنار . وكذلك رده الأستاذ الإمام ، والإمام الشوكاني في إرشاد الفحول . والآية التي تدل على الإجماع الصحيح هي قوله تعالى في هذه السورة { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] وقد تقدم تفسيرها وبحث الإجماع فيها ، وزدته بياناً في المسألة الخامسة من المسائل التي جعلتها متممة لتفسيرها .