Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 131-134)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اقتضت حكمة الله في ترتيب كتابه إن يجيء بعد تلك الأحكام العملية في شؤون النساء واليتامى أو بعدها ما قبلها من الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب أيضاً وإن يعقب عليها بآيات في العلم الإلهي تذكر المخاطبين بتلك الأحكام بعظمته وسعة ملكه واستغنائه عن خلقه ، وقدرته على ما يشاء من التصرف فيهم أو إثابتهم على طاعته فيما شرعه لهم لخيرهم ومصلحتهم ، - تذكرهم بذلك ليزدادوا بتدبرها إيماناً يحملهم على العمل بها ، والوقوف عند حدودها ، وهي هذه الآيات . { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ملكاً وخلقاً وعبيداً فبأمره وحده قام نظام الأكوان ، وله وحده التدبير والتكليف الذي ينتظم به أمر الإنسان { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في إقامة سننه ، وإقامة دينه وشريعته ، فبإقامة السنن تعلو معارفكم الإلهية ، وترتقي مرافقكم الدنيوية ، وبإقامة الأحكام والآداب الدينية ، تتزكى أنفسكم وتنتظم مصالحكم المدنية والاجتماعية . { وَإِن تَكْفُرُواْ } نعمه عليكم وتتركوا تقواه في ذلك { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } لا ينقص كفركم من ملكه شيئاً وإنما ضرره عليكم ، كما أن منفعة الشكر خاصة بكم { وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } غنياً عن كل شيء بذاته لذاته ، ولأن كل شيء له ومنه ، محموداً بذاته لذاته وكمال صفاته ، محموداً على جميع أفعاله ، لأنه أحسن كل شيء خلقه ، فهو لا يحتاج إلى شكركم لتكميل نفسه ، ولا إلى حمدكم لتحقيق حمده . { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] وفي الحديث القدسي المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل : " يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منك ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي ! لو إن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أدخل البحر ، يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " رواه مسلم وهو آخر حديث طويل اكتفينا منه بمحل الشاهد في موضوعنا . { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أعاد تذكيرهم بكونه مالك السماوات والأرض أي العوالم كلها ليتمثلوا عظمته ، ويستحضروا الدليل على غناه وحمده ، فيعلموا إنه إذا كان قد توكل بإغناء كل من الزوجين إذا أقاما حدوده في تفرقهما فإنه قادر على ذلك كما إنه قادر على إنجاز كل ما وعد وأوعد به ، فيجب إن يكتفوا به في التوكل لهم ، ويستعمل الوكيل بمعنى المهيمن والمسيطر والرقيب . { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } إذا علمتم أيها الناس إن لله ما في السماوات وما في الأرض يتصرف فيه كيف شاء فاعلموا إنه إن يشأ أن يذهبكم بعذاب ينزله بكم أو أمة قوية يسلطها عليكم فتسلب استقلالكم حتى تجعلكم عبيداً أو كالعبيد لها لا تستطيعون إن تقوموا بمصالحكم ومنافعكم التي بها وحدتكم فإنه يذهبكم { وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } يحلون محلكم في الوجود أو الحكم والتصرف . وقال في سورة أخرى { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19 - 20 ] . وفي سورة أخرى { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] قيل إن الآية من قبيل هاتين الآيتين في تهديد المشركين الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقاومون دعوته . والظاهر أنها تنبيه للناس وتوجيه لأفكارهم إلى التأمل في سننه تعالى بحياة الأمم وموتها وكون هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة لا مرد لها . { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } لأن بيده ملكوت كل شيء . { مَّن كَانَ يُرِيدُ } منكم بسعيه وكدحه وجهاده في حياته { ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } ونعيمها بالمال والجاه { فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } جميعاً وقد وهبكم من القوى والجوارح وهداية الحواس والعقل والوجدان والدين ما يمكنكم به نيل ذلك فعليكم إن تطلبوا الثوابين جميعاً ولا تكتفوا بالأدنى الفاني عن الأعلى الباقي والجمع بينهما ميسور لكم ، ومما تناله قدرتكم ، فمن سفه النفس ، وأفن الرأي ، إن ترغبوا عنه . والآية تدل على أن الإسلام يهدي أهله إلى سعادة الدارين ، وإن يتذكروا إن كلا من ثواب الدنيا وثواب الآخرة من فضل الله ورحمته ، وقد سبق بيان هذا في تفسير { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [ البقرة : 201 ] . { وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } سميعاً لأقوال العباد في مخاطباتهم ومناجاتهم ، بصيراً بجميع أمورهم في جميع حالاتهم ، فيجب عليهم إن يراقبوه في أقوالهم وأفعالهم ، فذلك الذي يعينهم على تزكية نفوسهم ، والوقوف عند حدود العدل والفضيلة التي يستقيم بها أمر دنياهم ، ويستعدون به للحياة الأبدية في آخرتهم .