Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 95-96)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

مضت سنة القرآن في مزج آيات الأحكام العملية بما يرغب في الأعمال الصالحة وينشط عليها ، ويحفز الهمم إليها ، وينفر من القعود عنها ، والتكاسل والتواكل فيها ، وعلى هذه السنة جاءت هاتان الآيتان بين آيات أحكام القتال ، فهما متصلتان بها أتم الاتصال . قال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي عن الجهاد في سبيل الله لتأييد حرية الدين ، وصد غارات المشركين ، وتطهير الأرض من الفساد ، وإقامة دعائم الحق والإصلاح { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } العاجزين عن هذا الجهاد كالأعمى والمقعد والزمن والمريض { وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } أي لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلاً بها وحرصاً عليها ، وبأنفسهم إيثاراً للراحة والنعيم على التعب وركوب الصعاب في القتال ، مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم في الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمؤنة ، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل في سبيل الحق ، لأجل منع القتل في سبيل الطاغوت ، لأن المجاهدين هم الذين يحمون أمتهم وبلادهم ، والقاعدين الذين لا يأخذون حذرهم ، ولا يعدون للدفاع عدتهم ، يكونون عرضه لفتك غيرهم بهم ، { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } [ البقرة : 251 ] بغلبة أهل الطاغوت عليها ، وظلمهم لأهلها ، وإهلاكهم للحرث والنسل فيها . { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً } هذا بيان لمفهوم عدم استواء المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر وهو إن الله تعالى رفع المجاهدين عليهم درجة وهي درجة العمل الذي يترتب عليه دفع شر الأعداء عن الملة والأمة والبلاد { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي ووعد الله المثوبة الحسنى كلا من الفريقين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد عجزاً منهم عنه وهم يتمنون لو قدروا عليه فقاموا به ، فإن إيمان كل منهما واحد وإخلاصه واحد . وقدم مفعول " وعد " الأول وهو لفظ " كلا " لإفادة حصر هذا الوعد الكريم في هذين الفريقين المتساويين في الإيمان والإخلاص ، المتفاضلين في العمل ، لقدرة أحدهما وعجز الآخر . وفسر قتادة الحسنى بالجنة . { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ } بأموالهم وأنفسهم { عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ } من غير أولي الضرر كما قال ابن جريج { أَجْراً عَظِيماً } وهو ما يبينه قوله تعالى : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } أما الدرجات فقد بينا في غير هذا الموضع ما تدل عليه الآيات المتعددة فيها من تفاوت درجات الناس في الدنيا والآخرة ومنها قوله تعالى : { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الاسراء : 21 ] وبينا إن درجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا في الإيمان والفضيلة والعمل النافع ، لا في الرزق وعرض الدنيا . وقد حمل بعض المفسرين الدرجات هنا على ما يكون للمجاهد في الدنيا من الفضائل والأعمال فقال قتادة : كان يقال : الإسلام درجة ، والإسلام في الهجرة درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتال في الجهاد درجة . اهـ . وجعل بعضهم الجهاد هنا عدة درجات بحسب ما فيه من الأعمال الشاقة فقال ابن زيد : الدرجات هي السبع التي ذكرها الله تعالى في سورة براءة ( التوبة ) { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ التوبة : 120 ] . يعني إن هذه الأمور السبعة التي يتعرض لها المجاهدون هي الدرجات لأن لكل منها أجراً كما قال تعالى ومجموعها مع المغفرة والرحمة هو الأجر العظيم . والصواب إن المراد هنا درجات الآخرة لأنها تفسير للأجر كما قال ابن جرير ، وهي مرتبة على ما ذكر وعلى غيره مما يفضل المجاهدون به القاعدين ، وأهمه مصدره من النفس وهو قوة الإيمان بالله وإيثار رضاه على الراحة والنعيم ، وترجيح المصلحة العامة على الشهوات الخاصة . والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي أن يكون لذنوبهم في نفوسهم عند الحساب أثر من الآثار التي قضى عدل الله بأن تكون سبب العقاب لأن ذلك الأثر يتلاشى في تلك الأعمال التي استحقوا بها الدرجات كما يتلاشى الوسخ القليل في الماء الكثير . والرحمة ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه . قال البيضاوي : وقيل الأول ما خولهم الله في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر والثاني ما حصل لهم في الآخرة . وقيل الدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله . والدرجات منازلهم في الجنة . وقيل القاعدون الأول الأضراء ، والقاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم . وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار ، والآخرون من جاهد نفسه ، وعليه قول علي عليه السلام : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر . اهـ . { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } وكان شأن الله وصفته أنه غفور لمن يستحق المغفرة ، رحيم بمن يتعرض لنفحات الرحمة ، فهو ما فضلهم بذلك إلا بما اقتضته صفاته ، وما هو شأنه في نفسه ، فإذا لابد من ذلك الأجر العظيم بأنواعه ولا مرد له . ومن مباحث اللفظ في الآية إن نافعاً وابن عامر قرءا " غير أولي الضرر " بنصب " غير " على الحال أو الاستثناء وقرأها الباقون بالرفع وهي حينئذٍ صفة للقاعدون . وقرئت بالجر شذوذاً على إنها صفة للمؤمنين أو بدل منهم وقوله : { أَجْراً عَظِيماً } نصب " أجر " على المصدر لأنه بمعنى أجرهم أجراً عظيماً ، أو على الحال " ودرجات " بدل منه . وقد تركت ما ذكروه في تفسير الآية من حديث زيد بن ثابت في كون قوله : { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } نزل لأجل ابن أم مكتوم لأن هذا من المشكلات الجديرة بالرد مهما قووا سندها ، ولعلنا نفصل القول فيها في مقدمة التفسير .