Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 15-16)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بيّن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أنه أخذ الميثاق على أهل الكتاب من اليهود والنصارى من قبل ، كما أخذه على هذه الأمة الآن ، وأنهم نقضوا ميثاقه ، وأضاعوا حظّاً عظيما مما أوحاه تعالى إليهم ، ولم يقيموا ما حفظوا منه . وهذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم التي هي من معجزات القرآن الكثيرة . ثم ناداهم بعد ذلك ووجّه إليهم الخطاب في إقامة الحجّة عليهم بقوله عز وجل : { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } قيل إنّ هذه الآية نزلت في قصة إخفاء اليهود حكم رجم الزاني حين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وستأتي القصة في هذه السورة . والصواب أن الآية على إطلاقها ، فكان رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم قد بيّن لأهل الكتاب كثيراً من الأحكام والمسائل التي كانوا يخفونها مما أنزل الله عليهم ، منها حكم رجم الزاني ، هو مما حفظوه من أحكام التوراة ( كما تراه في 22 : 20 - 24 من سفر التثنية ) ولم يلتزموا العمل به ، وأنكروه أمام النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم على عالمهم ابن صوريا وناشده الله حتّى اعترف به . فهذا مما كانوا يخفونه عند وجوب العمل به أو الفتوى . وكذلك أخفوا صفات النبي صلى الله عليه وسلم والبشارات به وحرّفوها بالحمل على معان أخرى . اليهود والنصارى في هذا سواء . وهذا النوع غير ما أضاعوه من كتبهم ونسوه البتة ، كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من خبر الحساب والجزاء في الآخرة . وما أظهره لهم الرسول مما كانوا يخفونه عنه وعن المسلمين كانت الحجة عليهم فيه أقوى ؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يطّلع على شيء من كتبهم ، ولهذا آمن من آمن من علماء اليهود المنصفين ، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وسلم . { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } مما كنتم تخفونه فلا يفضحكم ببيانه . وهذا النص حجّة عليهم أيضاً ؛ لأنهم يعلمون إنهم يخفون عن المسلمين وعن عامّتهم كثيراً من المسائل لئلا يكون حجّة عليهم إذ هم لا يعملون به ، كدأب علماء السوء في كل أمة : يكتمون من العلم ما يكون حجّة عليهم ، كاشفاً عن سوء حالهم ، أو يحرّفونه تحريفاً معنويا بحمله على غير معناه المراد . { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } في المراد بالنور هنا ثلاثة أقوال : أحدها إنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثانيها أنه الإسلام ، ثالثها إنه القرآن . ووجه تسمية كل من هذه الثلاثة نورا ، هو إنها للبصيرة كالنور للبصر ، فلولا النور لما أدرك البصر شيئاً من المبصرات ، ولولا ما جاء به النبي من القرآن والإسلام ، لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة دين الله ، وحقيقة ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها ونسيانه ، وعبث رؤساء الدين بالبعض الآخر بإخفاء بعضه وتحريف البعض الآخر ، ولظلّوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون . والكتاب المبين هو القرآن ، وهو بيّن في نفسه ، مبيّن لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم ، ولولا عطفه على النور ، لما فسّروا النور إلاّ به ، فإن الأصل في العطف إن يكون المعطوف غير المعطوف عليه ، ولكن العطف قد يرد للتفسير ، وهو الذي أختاره هنا لتوافق هذه الآية وما بعدها قوله تعالى في أواخر سورة النساء : { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ النساء : 174 - 175 ] وقد قال هنا بعد ذكر هذا النور : { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . فبيّن مزية النور والكتاب المبين بضمير المفرد ، فقال : { يَهْدِي بِهِ } ولم يقل بهما ، فكان هذا مرجّحا لكون المراد بهما واحدا وهو القرآن . وثم شواهد أخرى تؤيد ما اخترناه غير آيتي النساء ، كقوله تعالى في المهتدين من أهل الكتاب في سورة الأعراف : بعد ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم : { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 157 ] وكقوله تعالى في سورة التغابن { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } [ التغابن : 8 ] على إن هذا المعنى لا يتغير إذا قلنا إن النور هنا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه هو المظهر الأكمل للقرآن ببيانه ، له وتخلقه به ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن . ولا نعدم لذلك شاهد من آياته ، فقد وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب بقوله : { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [ الأحزاب : 46 ] . وليرجع القاريء إلى تفسيرنا لآيتي النساء اللتين ذكرناهما آنفا ، فقد بيّنا في تفسيرهما معنى كون القرآن نورا مبينا ، بما ينفعه في فهم ما هنا . وقد ذكر الله هنا لهذا النور ثلاث فوائد : الأولى : إنه يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، أي إن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور ، يهديه - هداية دلالة تصحبها العناية والإعانة - الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يرديه ويشقيه ، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى وحقوق نفسه الروحية والجسدية وحقوق الناس . فيكون متمتعاً بالطيّبات مجتنبا للخبائث ، تقيّاً مخلصاً ، صالحاً مصلحاً ، ويكون في الآخرة سعيداً منعّماً ، جامعاً بين النعيم الحسي الجسدي ، والنعيم الروحي العقلي . وخلاصة هذه الفائدة إنه يتبع دينا يجد فيه جميع الطرق الموصلة إلى ما تسلم به النفس من شقاء الدنيا والآخرة ؛ لأنه دين الإسلام والإخلاص لله ولعباده ، دين المساواة والعدل والإحسان والفضل . الفائدة الثانية : الإخراج من ظلمات الوثنية والخرافات والأوهام - التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان واستعبدوا أهلها - إلى نور التوحيد الخالص ، الذي يحرّر صاحبه من رقّ رؤساء الدين والدنيا ، فيكون بين الخلق حرّاً كريما ، وبين يدي الخالق وحده عبداً خاضعا . وقوله : " بإذنه " فسرّوه بمشيئته وبتوفيقه . والإذن : العلم . يقال أذن بالشيء ، إذا علم به . وآذنته به ، أعلمته فأذن . ويقال أذن بالتشديد وتأذن بمعنى أعلم غيره . ويقال أذن له بالشيء ، إذا أباحه له . وأذن له أذنا ، استمع . والظاهر أن الإذن هنا بمعنى العلم ، أي يخرجهم من الظلمات إلى النور بعلمه الذي جعل به هذا القرآن سبباً لانقشاع ظلمات الشرك والضلال من نفس من يهتدي به ، واستبدال نور الحق بها ، بنسخه وإزالته لها ، فهو إخراج يجري على سنن الله تعالى في تأثير العقائد الصحيحة والأخلاق والأعمال الصالحة في النفوس وإصلاحها إياها ، لا إنه يحصل بمحض الخلق واستئناف التكوين من غير أن يكون القرآن هو المؤثر فيه . الفائدة الثالثة : الهداية إلى الصراط المستقيم . وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين في أقرب وقت ؛ لأنه طريق لا عوج فيه ولا انحراف فيبطئ سالكه أو يضلّ في سيره ، وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله ، كما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الخلاف والتأويل ، بأن تكون عقائدهُ وآدابه وأحكامه مؤثرة في تزكية الأنفس وإصلاح القلوب وإحسان الأعمال ، وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة بحسب سنن الله في خلق الإنسان .