Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 27-32)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب ، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ، بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلّفهم من قتال الجبّارين ، وبين ما شرّعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل ، ويهددون الأمن ، ويفسدون في الأرض ، وما يتلوه من عقاب السرقة . فمناسبة هذه الآيات للسياق في جملته ، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم . وحملهم على عداوته ، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم ، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر ، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام ، على وضوح برهانه ، وكثرة آياته . وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة ، فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود ، على ما شدّد فيه من تحريم قتل النفس . ذلك إنه لمّا كان القتال بين الأمم ، وقتل الحكومات للأفراد ، أو تعذيبهم بقطع الأطراف - كل ذلك - قبيحا في نفسه ، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته ، إنه لا يباح إلاّ لدرء ما هو أقبح منه وأضر . وكان من كمال الدين أن يبيّن لنا حكمة ذلك ، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبيّن لنا إن اعتداء بعض البشر على بعض - حتّى بالقتلّ - هو أصيل فيهم ، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم ؛ لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم ، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنّهم ، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم ، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم ، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال ، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال ، وكون الحاسد يبغي إن قدر ، ما لم يزعّه الدّين أو يمنعه القدر ، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن إن ذلك خير له وأنفع ، وأنوه بقدره وأرفه ، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس ، إلاّ إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد ، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع ، وأقاموا الدين القيّم كلّهم على الوجه الذي أراده الله ، وكل ذلك محال ؛ لأن طبيعة البشر تأباه . فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم ، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف ، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل . فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم ، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال ، وبذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات ، وينتفعون بما سخّره لهم من أنواع المخلوقات . ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل ، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع . وكان من عدل الشريعة إن تبنى أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح . { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } [ البقرة : 251 ] . فهذه الآيات في هذا الموضع ، مبيّنة لحكم ما قبلها ، وما بعدها من الأخبار والأحكام . وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسّرين : إنّ هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } [ المائدة : 11 ] الآية . وقال بعضهم : إنّها متعلقة بقوله تعالى : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ } [ المائدة : 18 ] الآية ، وما قلناه أكمل ، وأعم وأشمل . قال تعالى : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ } الأصل لمعني مادة ( ت ل ر ) : التبع . فالتلو ( بالكسر ) : ولد الناقة والشاة إذا فطم وصار يتبعها ، وكل ما يتبع غيره في شيء يقال هو تلوه . ويقال : ما زلت أتلوه حتى أتليته . أي غلبته فسبقته وجعلته تلوي . وتلا فلان . اشترى تلوا . أي بغلا صغيرا أو جحشا . والتلاوة ( بالضم ) والتلية ( بالفتح ) : بقيّة الشيء ؛ لأنه يتلو ما قبله . يقال ذهبت تلية الشباب . والتلاوة بالكسر : القراءة ، ولم تكد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى . وذكر في لسان العرب تلاوة القرآن ، وقال أن بعضهم عمّ به كل كلام . ولعل قراءة القرآن سميت تلاوة ؛ لأنه مثاني ، كلّما قرىء منه شيء يتبع بقراءة غيره أو بإعادته ، أو لأن شأنه إن يقرأ ليتّبع بالاهتداء والعمل به . وعبّر القرآن بالتلاوة عن قراءة كتاب الله وآياته للأنبياء السابقين لهذا المعنى أيضاً . وفسّروا قوله تعالى : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } [ البقرة : 121 ] يتبعونه حق اتباعه . والنبأ : الخبر الصحيح ، الذي له شأن من الفائدة والجدارة بالاهتمام . ومعنى الجملة : واتل أيها الرسول على أهل الكتاب وسائر الناس ذلك النبأ العظيم - نبأ ابني آدم - تلاوة متلبّسة بالحق مظهرة له ، بأن تذكره كما وقع ، مبيّنا ما فيه من الحكمة والكشف عن غريزة البشر . وهو ما جبلوا عليه من التباين والاختلاف الذي يفضي إلى التحاسد والبغي والقتل ، ليعلموا حكمة الله فيما شرعه في الدنيا من عقاب الباغين من الأفراد والجماعات ، والشعوب والقبائل ، وكون هذا البغي من اليهود على رسول الله والمؤمنين ليس من أمر دينهم ، وإنما هو من حسدهم وبغيهم ، فهم في هذا كابني آدم إذا حسد شرُّهما خيرهما فبغى عليه فقتله ، وكانت عاقبة ذلك ما بينته هذه الآيات . والجمهور : على إن هذين الابنين هما ابنا آدم من صلبه ، وعن الحسن إنهما من بني إسرائيل . وفي سفر التكوين أنهما أول أولاد آدم ، اسم أحدهما قاين أو قاقين وهو البكر ، ويقول علماء التفسير والتاريخ منا قابيل . وهو القاتل . واسم الثاني هابيل بالاتفاق . وقد ذكروا في ذلك روايات غريبة لا يمكن إن يعرف مثلها إلا بوحي من الله ، وهي لم ترو عن أحد من رسل الله . ومنها إن آدم رثى هابيل بشعر عربي . فنعرض عن هذه الروايات التي لا تصح ولا تفيد . ووصف ما قصّه الله تعالى بالحق ، يشعر بأن ما يلوكه الناس في ذلك مما سواه باطل . { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً } أي اتل عليهم نبأهما ، أي وقت تقريبهما القربان ، وما تبعه من البغي والعدوان . والقربان ، ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها . غلب عندنا في ذبائح النسك كالأضاحي . وكانت القرابين عند اليهود أنواعا : ( منها ) : المحرقات للتكفير عن الخطايا ، وهي ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب . والذبائح عن الخطايا : عن الخطايا العامة والخطايا الخاصة . ( ومنها ) : ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى ( ومنها ) : التقدمات من الدقيق والزيت واللبان . ( ومنها ) : تقدمة الترديد من باكورة الأرض . وأما القربان عند النصارى ، فهو ما يقدّسه الكاهن من الخبز والخمر فيتحول في اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة لا مجازا ! والقربان بان في الأصل : مصدر قرب منه وإليه قرباً وقرباناً ، فلهذا يستوي فيه المفرد وغيره . والأقرب إن كل واحد منهما قرب قربانا ، ويجوز إن يكونا قد قرّبا قرباناً واحداً كانا شريكين . فيه { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ } أي فتقبل الله من أحدهما قربانه أو تقريبه القربان لتقواه وإخلاصه فيه وطيب نفسه به ، ولم يتقبل من الآخر لعدم التقوى والإخلاص . والتقبّل أخص من القبول ؛ لأنه ترق فيه إلى العناية بالمقبول والإثابة عليه . ولم يبيّن لنا الله تعالى كيف علما إنه تقبل من أحدهما دون الآخر ، ويحتمل أن يكون ذلك بوحي من الله لأبيهما آدم عليه السلام ، بناء على قول الجمهور إنهما ابنا آدم لصلبه وفاقا لسفر التكوين ، أو لنبي زمانهما على قول الحسن إنهما كانا من بني إسرائيل ، وهو قول ضعيف خلاف الظاهر المتبادر . وروي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما إن أحدهما كان صاحب حرث وزرع والآخر صاحب غنم ، وإن هذا قرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة به نفسه ، وصاحب الزرع قرّب شرّ ما عنده واردأه غير طيبة به نفسه . وروي عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار فتأكله ، ولا تأكل غير المقبول ، وهذه أخبار إسرائيلية اختلفت الروايات فيها عن مفسري السلف ، بعضها يوافق ما عند اليهود في سفر التكوين وبعضها يخالفه . وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعوّل عليه . { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } أي إن من لم يتقبل منه ، توعّد أخاه وأقسم ليقتلنه ، فأجابه أحسن جواب وأنفعه : { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال القبول المقرون بالرضا والإثابة ، إلاّ من المتصفين بالتقوى . فهذا الجواب يتضمن بيان سبب القبول وعدمه مع الاعتذار ، كأنه قال إنني لم أذنب إليك ذنباً تقتلني به ، فإن كان الله تعالى لم يتقبل منك ، فارجع إلى نفسك فحاسبها على السبب ، فإنما يتقبل الله من المتقّين ، أي الذين يتّقون الشرك الأكبر والأصغر وهو الرياء ، والشحَّ واتباع الأهواء ، فاحمل نفسك على تقوى الله والإخلاص له في العمل ، ثم تقرّب إليه بالطيبات يتقبل منك ، فالله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيبا { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] فليتعظ بهذا أهل الغرور بأعمالهم ، ولا سيّما النفقات التي يراؤون بها الناس ، ويبتغون بها الصيت والثناء . ثم إنه بعد بيان هذه الحقيقة من حق الله والتقرّب إليه ، بيّن له حقيقة أخرى وهي ما يجب للناس ، ولا سيّما الأخوة بعضهم على بعض ، من احترام الدماء وحفظ الأنفس فقال : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } أي بيّن له حاله وما تقتضيه من عدم مقابلته على جنايته بمثلها ، مؤكّداً ذلك بالقسم ، وبجملة النفي الاسميّة المقرون خبرها بالباء ، وهو إنه إن بسط يده - أي مدها ليقتله بها - لا يجزيه بالسيئة سيئة مثلها ، وإن هذه الجناية لا تأتي منه ولا تتفق مع صفاته وشمائله . ذلك بأنه لم يعبّر عن نفسه بصيغة الفعل المضارع المنفي كما عبّر بالماضي المثبت عن عمل أخيه - وهو المتبادر في مقابلة الشيء بضده - بل قال { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } أي لست بالذي يتصف بهذه الصفة المنكرة المنافية لتقوى الله تعالى ، ولا شك إن نفي الصفة أبلغ من نفي الفعل الذي هو عبارة عن الوعد بالترك ؛ لأنه عبارة عن وعد مؤكد ببيان سببه . ثم أكّده تأكيداً آخر ببيان علّته ، وهو قوله : { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } أن يراني باسطا يدي إلى الإِجرام وسفك الدم بغير حق ، فإن ذلك يسخطه ويكون سبب عقابه ؛ لأنه رب العالمين الذي يغذّيهم بنعمه ، ويربيّهم بفضله وإحسانه ، فالاعتداء على أرواحهم أعظم مفسد لهذه التربية ومعارض لها في بلوغ غاية استعدادها ، ومن يخاف الله لا يعتدي هذا الاعتداء . وهذا الجواب من الأخ التقي يتضمن أبلغ الموعظة وألطف الاستعطاف لأخيه العازم على الجناية ، ولا يقال : إنه كان يجوز له الدفاع عن نفسه - ولو بقتل الصائل عليه - حتى يحتاج إلى الجواب بأن شرع آدم لم يكن يبيح ذلك ، فإن هذا من الرجم بالغيب ، والدفاع قد يكون بما دون القتل ، وليس في الكلام تصريح بعدم الدفاع البتة ، وإنما التصريح بعدم الاقدام على القتل ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه " رواه أحمد والشيخان وغيرهم . ولما كان مثل هذا التأمين والوعظ البليغ لا يؤثر في كل نفس ، قفّى عليه هذا الأخ البارّ بالتذكير بعذاب الآخرة ، فقال : { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي إني أريد بما ذكرت - من اتقاء مقابلة الجناية بمثلها - إن ترجع أنت إن فعلتها متلبسا بإثمي وإثمك ، أي إثم قتلك إياي ، وإثمك الخاص بك الذي كان من شؤمه عدم قبول قربانك . وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) وفيه وجه آخر ، وهو إنه مبني على كون القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام ؛ لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق للعباد لا يغفر الله تعالى منها شيئاً حتّى يأخذ لكل ذي حقّ حقّه ، وإنما القصاص في الآخرة بالحسنات والسيئات ، فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوي حقّه إن كان له حسنات توازي ذلك ، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إن كان له آثام وأوزار ، وما نقص من هذا أو ذاك ، يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء في الجنة أو النار . وفي ذكر المتكلم إثمه وإثم أخيه ، تواضع وهضم لنفسه بإضافة الإثم إليها على الوجه الثاني ، وتذكير للمخاطب بأنه ليس له حسنات توازي هذا الظلم الذي عزم عليه ، ولذلك رتب عليه قوله : { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } أي تكون بما حملت من الإِثمين من أهل النار في الآخرة ؛ لأنك تكون ظالما ، والنار جزاء كل ظالم ، فتكون من أهلها حتما . ترقّى في صرفه عن عزمه من التبرؤ إليه من سبب حرمانه من قبول قربانه ببيان سبب التقبل عند الله تعالى وهو التقوى ، إلى تنزيه نفسه من جزائه على جنايته بمثلها ، إلى تذكيره بما يجب من خوف الله تعالى رب العالمين الذي لا يرضيه ممن وهبهم العقل والإختيار إلاّ إن يتحرّوا إقامة سننه في تربية العالم وإبلاغ كل حي يقبل الكمال إلى كماله ، إلى تذكيره بأن المعتدي يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه بعدل الله تعالى في القصاص والجزاء ، إلى تذكيرهُ بعذاب النار ، وكونها مثوى للظالمين الفجار : فماذا كان من تأثيره هذه المواعظ ، في نفس ذلك الحاسد الظالم ؟ بين الله ذلك بقوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ } فسرّوا طوّعت بشجّعت ، وهو مأثور عن ابن عباس ومجاهد ، وبوسّعت وسهّلت وزيّنت ، ونحو ذلك من الألفاظ التي رويت عن مفسري السلف وعلماء اللغة ، وكل منها يشير إلى حاصل المعنى في الجملة ، ولم أر أحداً شرح بلاغة هذه الكلمة في هذا الموضع ببعض ما أجد لها من التأثير في نفسي . وإنها لبمكان من البلاغة يحيط بالقلب ويضغط عليه من كل جانب . { قۤ * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] إنني أكتب الآن ، وقلبي يشغلني عن الكتابة بما أجد لها فيه من الأثر والانفعال . إن هذه الكلمة تدل على تدريج وتكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد الداعي إلى القتل ، كتذليل الفرس والبعير الصعب ، فهي تمثل - لمن يفهمها - ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله ، وهو بين إقدام وإحجام ، يفكّر في كل كلمة من كلمات أخيه الحكيمة ، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة ، يدعم ويؤيد ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة والهيبة ، فبكر الحسد من نفسه الأمّارة ، على كل صارف في نفسه اللوّامة ، فلا يزالان يتنازعان ويتجاذبان حتّى يغلب الحسد ، كلا منها ويجذبه إلى الطاعة ، فإطاعة صوارف الفطرة وصوارف الموعظة ، لداعي الحسد ، هو التطويع الذي عناه الله تعالى ، فلما تم كل ذلك قتله . وهذا المعنى يدل عليه اللفظ ، ويؤيّده ما يعرف من حال البشر في كل عصر بمقتضى ، فنحن نرى من أحوال الناس واختبار القضاة للجناة ، إن كل من تحدّثه نفسه بقتل أخ له من أبيه القريب أو البعيد ( آدم ) يجد من نفسه صارفا أو عدّة صوارف تنهاه عن ذلك ، فيتعارض المانع والمقتضى في نفسه زمناً طويلا أو قصيرا ، حتّى تطوّع له نفسه القتل بترجيح المقتضي عنده على الموانع ، فعند ذلك يقتل إن قدر . فالتطوّيع لا بد فيه من التكرار كتذليل الحيوان الصعب ، وتعليم الصناعة أو العلم . وقد يكون التكرار لأجل إطاعة مانع أو صارف واحد ، وقد يكون لإطاعة عدة صوارف وموانع . وأقرب الألفاظ التي قيلت إلى هذا المعنى ، كلمة التشجيع المأثورة ، فهي تدل على إنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه ، فما زالت نفسه الأمارة بالسوء تشجّعه عليه ، حتّى تجرّأ وقتل عقب التطويع بلا تفكّر ولا تدبّر للعاقبة { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي من جنس الذين خسروا أنفسهم بإفساد فطرتها ، وخسروا أقرب الناس إليهم وأبرّهم بهم في الدنيا ، وهو الأخ الصالح التقي ، وخسروا نعيم الآخرة إذ لم يعودوا أهلا لها ؛ لأنها دار المتقين . { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } لما كان هذا القتل أوّل قتل وقع من بني آدم ، ولما كان هذا النوع من الخلق ( أي الإنسان ) موكولا إلى كسبه واختياره في عامّة أعماله ، لم يعرف القاتل الأول كيف يواري جثة أخيه المقتول التي يسوءه إن يراها بارزة - فالسوءة ما يسوء ظهوره ، ورؤية جسد الميت ولا سيما المقتول يسوء كل من ينظر إليه ويوحشه - وأما سائر أنواع الحيوان قتلهم عمل ما تحتاج إليه إلهاماً في الأكثر ، وقلّما يتعلم بعضها من بعض شيئاً . وقد علّمنا الله تعالى إن القاتل الأول تعلم دفن أخيه من الغراب ، ويدلّنا ذلك على أن الإنسان في نشأته الأولى كان في منتهى السذاجة ، وإنه لاستعداده الذي يفضل به سائر أنواع الحيوان كان يستفيد من كل شيء علما واختبارا ويرتقي بالتدريج . ذلك بأن الله تعالى بعث غراباً إلى المكان الذي هو فيه فبحث في الأرض ، أي حفر برجليه فيها يفتش عن شيء ، والمعهود إن الطير تفعل ذلك لطلب الطعام . والمتبادر من العبارة أن الغراب أطال البحث في الأرض ؛ لأنه قال " يبحث " ، ولم يقل بحث . والمضارع يفيد الاستمرار . فلما أطال البحث ، أحدث حفرة في الأرض ، فلما رأى القاتل الحفرة - وهو متحير في أمر مواراة سوأة أخيه - زالت الحيرة واهتدى إلى ما يطلب . وهو دفن أخيه في حفرة من الأرض . هذا هو المتبادر من الآية . وقال أبو مسلم : إن من عادة الغراب دفن الأشياء ، فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلّم منه ذلك . وهذا قريب أيضاً . ولكن جمهور المفسرين قالوا إن الله بعث غرابين لا واحداً ، وإنهما اقتتلا فقتل أحدهما الآخر ، فحفر بمنقاره ورجليه حفرة ألقاه فيها . وما جاء هذا إلاّ من الروايات ، التي مصدرها الإسرائيليات ، على إن مسألة الغراب والدفن لا ذكر لها في التوراة . وفي هذه الروايات زيادات كثيرة لا فائدة لها ولا صحّة . واللام في قوله تعالى : " ليريه " للتعليل ، إذا كان الضمير راجعاً إلى الله تعالى ، أي إنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن . وللصيرورة والعاقبة ، إذا كان الضمير عائداً إلى الغراب ، أي لتكون عاقبة بحثه ما ذكر . ولما رأى القاتل الغراب يبحث في الأرض ، وتعلّم منه سنّة الدفن ، وظهر له من ضعفه وجهله ما كان غافلا عنه ، { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } قال جمهور المفسرين : إن { يَاوَيْلَتَا } كلمة تحسّر وتلهّف ، وإنها تقال عند حلول الدواهي والعظائم . وقال في لسان العرب : والويل : حلول الشر ، والويلة : الفضيحة والبلية . وقيل هو تفجّع . وإذا قال القائل : يا ويلتاه ! فإنما يعني وافضيحتاه ! وكذلك تفسير { يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ } [ الكهف : 49 ] اهـ . وهذا هو المعنى الصحيح . والألف في الكلمة بدل ياء المتكلم إذ الأصل : يا ويلتي . والنداء للويلة لإِفادة حلول سببها الذي تحلّ لأجله ، حتّى كأنه دعاها إليه وقال : أقبلي فقد آن أوان مجيئك : فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا ؟ والاستفهام للإقرار والتحسّر . وأما الندم الذي ندمه ، فهو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطاء في فعل فعله ، إذا ظهر له إن فعله كان شرّا له لا خيرا . وقد يكون الندم توبة ، إذا كان سببه الخوف من الله تعالى والتألم من تعدي حدوده ، وقصد به الرجوع إليه ، وهذا هو المراد بحديث " الندم توبة " رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم والبيهقي ، وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة . وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد وحده توبة . والتوبة من أحداث البدعة ، لا تنجي مبتدعها من سوء أثرها . وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل ( نصيب ) من دمها لأنه أول من سن القتل " . { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } قال في اللسان - وقد ذكر الآية : وقول العرب فعلت ذلك من أجل كذا ، وأجل كذا ( بفتح اللام ) ومن أجلاك ( وتكسر الهمزة فيهما ) قال الأزهري : " والأصل في قولهم فعلته من أجلك : أجل عليهم أجلا ، أي جنى وجرّ " ثم قال : وأجل عليهم شرا بأجله ( بضم الجيم وكسرها ) أجلا ، جناه وهيجه ، وأورد شواهد من الشعر ، ثم قال أبو زيد : أجلت عليهم آجل أجلا ، أي جررت جريرة . قال أبو عمر ويقال : جلبت عليهم وجررت وأجلت بمعنى واحد ، أي جنيت . وأجل لأهله يأجل ، كسب وجمع واحتال اهـ . وزاد الراغب في مفرداته قيداً في تعريف الأجل فقال : الأجل الجناية التي يخاف منها آجلا ، فكل أجل جناية ، وليس كل جناية أجلا ، يقال : فعلت كذا من أجله . قال تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي من جرّائه . اهـ . وأقول : لا حاجة إلى القيد ؛ لأن من شأن كل جناية أن يخاف آجلها وتحذر عاقبتها . ومن تتبع الشواهد والأقوال يرجّح معي أن الأجل هو جلب الشيء الذي له عاقبة أو ثمرة وكسبه أو تهييجه . ويعدى باللام . وقد تكون العاقبة حسنة كقولهم : أجل لأهله . وغلب الفعل في الرديء والشر وإن عدي باللام ، كقول توبة بن مضرّس العبسي : @ فإن تك أم ابني زُميلة أثكلت فيا رب أخرى قد أجلت لها ثكلا @@ ثم استعمل في التعليل مطلقا كما قال عدي بن زيد : @ أجل أن الله قد فضلكم @@ البيت ، وهو بغير من . ومعنى العبارة إنّه بسبب ذلك الجرم والقتل الذي أجله أحد هذين الأخوين ظلماً وعدوانا لا بسبب آخر ، كتبنا وفرضنا على بني إسرائيل كيت وكيت . فتقديم الجار والمجرور على " كتبنا " يفيد إن هذا التشديد في تشنيع القتل ، كان بسبب هذه الجناية الدالة على أن البشر عرضة للبغي الشديد ، الذي يفضي إلى القتل بغير حق ، إذا لم يردعهم الوعيد الشديد ، أو خوف العقاب العتيد . ولعل تخصيص بني إسرائيل بالذكر ، هو الذي أخذ منه الحسن قوله : إن ولدي آدم هذين كانا من بني إسرائيل . والجمهور يقولون : إن هذا التخصيص للتعريض بما كان من شدة حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب لأنه بعث فيهم ، كما بيّن الله ذلك في كتابه من قبل ، وبما كان من إسرافهم في البغي ، ومنه قتلهم للأنبياء عليهم السلام بغير حق . وأما هذا الذي كتبه الله عليهم فهو { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي بغير سبب القصاص الذي شرّعه الله تعالى في قوله الآتي في هذه السورة { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] أي من قتل نفسا يقتل بها جزاء وفاقاً { أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ } أو غير سبب فساد في الأرض ، بسلب الأمن ، والخروج على أئمة العدل ، وإهلاك الحرث والنسل ، كما تفعله العصابات المسلّحة لقتل الأنفس ونهب الأموال ، أو إفساد الأمر على ذي السلطان المقيم لحدود الله . وهو ما سيأتي حكمه قريباً في قوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } [ المائدة : 33 ] الآية { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } لأن الواحد يمثّل النوع في جملته ، فمن استحل دمه بغير حق ، يستحل دم كل واحد كذلك لأنه مثله ، فتكون نفسه ضارية بالبغي ، لا وازع لها من ذاتها ولا من الدين . { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } أي ومن كان سبباً لحياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه ، فكأنما أحيا الناس جميعاً ؛ لأن الباعث له على إنقاذ الواحدة - وهو الرحمة والشفقة ، ومعرفة قيمة الحياة الإنسانية واحترامها ، والوقوف عند حدود الشريعة في حقوقها - تندغم فيه جميع حقوق الناس عليه ، فهو دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من هلكة يراهم مشرفين على الوقوع فيها ، لا يني في ذلك ولا يدّخر وسعا . ومن كان كذلك لا يقصّر في حقّ من حقوق البشر عليه . ويلزم من ذلك أنه لو كان جميع الناس أو أكثرهم مثل ذلك الذي قتل نفسا واحدة بغير حق ، لكانوا عرضة للهلاك بالقتل في كل وقت ، ولو كانوا مثل ذلك الذي أحيا نفسا واحدة احتراما لها ، وقياما بحقوقها ، لامتنع القتل بغير الحق من الأرض ، وعاش الناس متعاونين ، بل إخواناً متحابين متوادين . فالآية تعلّمنّا ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع ، واتقائه ضرر كل فرد ؛ لأن انتهاك حرمة الفرد ، انتهاك لحرمة الجميع ، والقيام بحق الفرد من حيث أنه عضو من النوع وما قرر له من حقوق المساواة في الشرع ، قيام بحق الجميع . وقد غفل عن هذا المعنى العالي من جعل التشبيه في الآية مشكلا يحتاج إلى التخريج والتأويل . وقد بيّنا من قبل أن القرآن كثيراً ما يهدينا إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها بمثل إسناد عمل المتقدمين منها إلى المتأخرين ، ووضع اسم الأمة أو ضميرها ، في مقام الحكاية أو الخطاب لبعض أفرادها . ومن ذلك ما تقدم في تفسير { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] فقد قلنا هنالك - بعد إيراد عدة آيات في هذا المعنى بمثل هذا التعبير ، وبيان كونه يدل على وحدة الأمة وتكافلها - ما نصه : بل علّمنا القرآن إن جناية الإنسان على غيره تعدّ جناية على البشر كلهم ، لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية فقط بقوله عز وجل { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } الآية . وروي إن وجه التشبيه هو القصاص ، فمن قتل نفسا واحدة كمن قتل كل الناس في كونه يقتل قصاصا بالواحدة وبالكثير ، إذ لا عقوبة فوق القتل . رواه ابن جرير عن ابن زيد عن أبيه . ولا يظهر مثل هذا المعنى في الإحياء . والمروي عن ابن زيد فيه : إنّ ولي الدم إذا عفا عن القاتل ، كان له من الأجر مثل أجر من أحيا الناس جميعاً . وقيل مثل هذا في القتل ، وهو إن إثم قتل النفس الواحدة مثل إثم قتل جميع الناس وجزاؤهما واحد . وقد بيّن في سورة النساء ( ج5 ) . وعن ابن عباس : إنّ المراد بالنفس في الموضعين نفس النبي أو الإمام العادل ، وإحياؤها نصره وشدّ عضده . وهو صحيح المعنى ؛ لأن قتل المصلح أو إنقاذه ونصره يؤثر في الأمة كلها . ولكن اللفظ يأباه وما راه يصح عن ابن عباس . وروي عن غيره ، ومنه إن من حرّم قتل نفس بدون حق حيي الناس جميعاً منه . وقيل إن المعنى إن من قتل نفسا كان قتلها كقتل الناس جميعاً عند المقتول وبالنسبة إليه ، ومن أنقذها من القتل كان عند المنقذ كإحياء الناس جميعاً . روى هذه الأقوال ابن جرير واختار منها إن وجه التشبيه في القتل هو عقاب الآخرة ، وفي الإِحياء إنه سلامة الناس ممن يحرّم على نفسه قتل النفس التي حرّمها الله . وما قلناه أولا أوضح وأجمع للمعاني . ومن الغرائب إن هذه الحكمة العالية من جملة ما نسي بنو إسرائيل من أحكام دينهم ، إذ فقدت التوراة ثم كتبوا ما بقي في حفظهم من أحكامها فأمّا قصة ابني آدم فهي في الفصل الرابع من سفر التكوين ، وملخّصها : إن قابيل لما قدّم قرباناً للرب من ثمرات الأرض ، وقدّم هابيل قرباناً من أبكار غنمه ، ونظر الرب إلى هابيل وقربانه دون أخيه ، اغتاظ قابيل وقتل هابيل ، فسأله الرب عنه : أين هو ؟ فأجاب : لا أعلم وهل أنا حارس لأخي ؟ فلعنه الرب ؟ وطرده عن وجه الأرض ! فندم واسترحم الرب وخاف إن يقتله كل من وجده ! ! ( 15 - فقال له الرب لذلك كل من قتل قابيل فسبعة أضعاف ينتقم منه ، وجعل الرب لقابيل علامة لكي لا يقتله كل من وجده ( ! ! ) فخرج قابيل من لدن الرب وسكن في أرض نود شرقي عدن ! ! ) وفي الفصل التاسع منه أن نوحا قال لبنيه ( 6 سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه ، لأن الله على صورته عمل الإنسان ) وفي الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج إن من قتل إنسانا عمداً يقتل ، ومن بغي على صاحبه ليقتله بغدر " فمن عند مذبحي تأخذه للموت " ومن ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل . فأسباب القتل عندهم كثيرة ، ولم تكن هذه الشدّة رادعة لهم عن القتل بغير حق حتّى قتل الأنبياء ، فهل يكثر عليهم ، ما كانوا عزموا عليه من قتل النبي المصطفى غدرا ؟ لا ، لا . ولهذا قال تعالى فيهم : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } أي لم تغن عنهم بيّنات الرسل ولا هذّبت نفوسهم ، بل كان كثير منهم - بعد ذلك الذي ذكر من التشديد عليهم في أمر القتل ومن مجيء الرسل بالبينات - يسرفون في الأرض بالقتل وسائر ضروب البغي ، أكد إثبات وصف الإسراف لكثير منهم تأكيداً بعد تأكيد ؛ لأن تشديد الشريعة وتكرار بيّنات الرسل كانت تقتضي عدم ذلك أو ندوره . والحكم على الكثير دون جميع الأمة من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحقائق . وهذا الرسوخ في الإسراف لا يمكن إن يعّم أفراد الأمة ، والناس يطلقون وصف الكثير على الجميع في الغالب . والإسراف : مجاوزة الحدّ في العمل ، أي حدّ الحق والمصلحة ، ويعرف ذلك بالشرع في الأمور الشرعية ، وبالعقل والعرف في غير ذلك وفي القوم الذين ليس لهم شرع . وكل ما يتجاوز في الحد يفسد . والأصل في معنى الإسراف الإفساد ، فهو من السرفة وهي ( بالضم ) الدودة التي تأكل الشجر والخشب ، وإذا كان الإسراف في فعل الخير يجعله شرّا ، كالنفقة الواجبة والمستحبة التي تذهب بالمال كلّه ، فتفسد على صاحبها أمر معاشه . فما بالك بالإسراف في الشر ، وهو المبالغة وتجاوز ما اعتاده الأشرار فيه ؟ وأما قوله تعالى في سورة بني إسرائيل : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } [ الإسراء : 33 ] فهو نهي لوليّ المقتول أن يتجاوز حدّ القصاص إلى قتل غير القاتل ، أو تعذيب القاتل والتمثيل به . وأكبر العبر في الآية : إنّ قصة ابني آدم أقدم قصة ، تدلّنا على أن الحسد كان مثار أول جناية في البشر ، ولا يزال هو الذي يفسد على الناس أمر إجتماعهم ، من إجتماع العشيرة في الدار ، إلى إجتماع القبيلة ، إلى إجتماع الدولة . فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه في النسب أو الجنس أو الدين وهو لم يتعّرض لمثلها لينالها ، فيبغي على أخيه ولو بما فيه شقاؤه هو . وأكبر الموانع لإرتقاء المسلمين الآن ، هو الحسد والعياذ بالله تعالى من أهله لعنة الله عليهم ؛ لأنّ الأمم لا ترتقي إلاّ بنهوض المصلحين بها ، وكلّما قام فينا مصلح تصدّى الحاسدون لإحباط عمله . من قرأ الآية وفهم ما فيها من تعليل تحريم القتل بغير حق ، وكون هذا الحق لا يعدو القصاص ومنع الإفساد في الأرض ، يتوجه ذهنه لاستبانة العقاب الذي يؤخذ به المفسدون ، حتّى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم ، فبيّن الله ذلك العقاب بقوله : { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ … } .