Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 57-63)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نهى الله تعالى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دون المؤمنين ، معللاً له بأن بعضهم أولياء بعض لا يوالي المؤمنين منهم أحد ، ولا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلاّ مرضى القلوب والمنافقون الذين يتربصّون الدوائر بالمؤمنين . ثم أعاد النهي عن اتخاذهم أولياء واصفا إياهم بوصف آخر مما كانوا يؤذون به المؤمنين ويقاومون دينهم . وعطف عليهم الكفار - والمراد بهم مشركو العرب - فقال : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ } قرأ أبو عمر والكسائي " الكفار " بالجر عطفا على { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } والباقون بالنصب عطفا على { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } والفرق بينهما إن قراءة الجر تفيد أن الكفار - أي المشركين الذين اتخذوا دين المسلمين هزؤاً ولعباً - لا تباح ولايتهم . وقراءة النصب تفيد إن جميع المشركين لا يتخذون أولياء بحال من الأحوال . وأما أهل الكتاب ، فإنما ينهى عن موالاتهم لوصف فيهم ينافي الموالاة ، كاتخاذهم دين الإسلام هزؤا ولعبا ، أي شيئاً يمزح به ويسخر منه . فلا تنافي بين القراءتين . ولكن قراءة النصب فيها زيادة معنى . وحكمة قراءة الجر : إنه كان يوجد من المشركين من يهزأ بدين الإسلام ويعبث به ، فقراءة الجر نص في النهي عن موالاة هؤلاء لوصفهم هذا . وقراءة النصب لإِفادة النهي عن موالاة جميع المشركين ؛ لأن موالاة المسلمين لهم بعد إن أظهرهم الله عليهم بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، تكون قوّة لهم ، وإقرارا على شركهم ، الذي جاء الإسلام لمحوه من جزيرة العرب . وأما أهل الكتاب ، فسياسة الإسلام فيهم غير سياسته مع مشركي العرب ، ولذلك أجاز في هذه السورة - وهي من آخر ما نزل من القرآن - أكل طعامهم ونكاح نسائهم ، وشرّع في سورة التوبة قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم . ونهى في سورة العنكبوت عن مجادلتهم إلاّ بالتي هي أحسن . وفي الآية تمييزهم على المشركين في إطلاق اللقب ، إذ خصّهم في المقابلة بلقب أهل الكتاب ، ولقّب المشركين بالكفّار . كما يعبر عنهم في آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا ؛ لأنهم لوثنيتهم عريقون في الكفر والشرك وأصلاء ، فيه . وأما أهل الكتاب ، فكان قد عرض الشرك والكفر للكثيرين منهم عروضا وليس من أصل دينهم ، ثم لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إزداد المعاندون منهم كفرا بجحود نبوّته وإِيذائه . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي واتقوا الله في أمر الموالاة فلا تضعوها في غير موضعها ، فينقلب الغرض إلى ضدّه ، فتكون وهناً لكم لا نصراً ، - وكذا في سائر الأوامر والنواهي - إن كنتم مؤمنين صادقين في إيمانكم تحفظون كرامته ، وتتجنبون مهانته . { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً } أي وإذا أذّن مؤذنكم بالدعوة إلى الصلاة ، جعلها أولئك الذين نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين من الأمور التي يهزؤن ويلعبون بها ، ويسخرون من أهلها { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } حقيقة الدين ، وما يجب لله تعالى من الثناء والتعظيم . ولو كانوا يعقلون ذلك لخشعت قلوبهم كلّما سمعوا مؤذّنكم يكبّر الله تعالى ويوحّده بصوته الندي ، ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره . والآية تدل على شرع الأذان ، فهو ثابت بالكتاب والسنة معاً ، خلافاً لما يوهمه حديث الأذان . روينا وسمعنا من بعض النصارى المعتدلين في بلادنا كلمات الثناء والاستحسان لشعيرة الأذان من شعائر الإسلام ، وتفضيلها على الأجراس والنواقيس المستعملة عندهم ، وقد كان جماعة من بيوتات نصارى طرابلس مصطافين في بلدنا ( القلمون ) فكان النساء يجتمعن مع الرجال في النوافذ عند أذان المؤذن - ولا سيما أذان الصبح - ليسمعوا أذانه ، وكان المؤذن ندي الصوت حسنه . واتفق إن غاب المؤذن يوماً فأذن رجل قبيح الصوت . فلقي والدي رب بيت من تلك البيوتات فقال له : إن مؤذنكم اليوم يستحق المكافأة علي ؟ ! قال الوالد بماذا ؟ قال بأنه ارجع أهل بيتنا إلى دينهم بعد إن صاروا مسلمين بأذان المؤذن الأول . وأنا أتذكر إن بعض صبيانهم حفظ الأذان وصار يقلّده تقليد استحسان ، فتغضب والدته منه ، وتنهاه عن الأذان ، وأما والده فكان يضحك ويسر لأذان ولده . لأنه كان على حرية وسعة صدر . ولا يدين بالنصرانية . فالأذان ذكر مؤثر لا تخفى محاسنه على من يعقل الدين ، ويؤمن بالله العلي الكبير . ولا على غيرهم من العقلاء . وقد روي في التفسير المأثور عن السدي إنه قال في تفسير الآية : كان رجل من النصارى في المدينة إذا سمع المنادي ينادي " أشهد إن محمداً رسول الله " قال : أحرق الكاذب ، ( دعاء عليه بالحريق ) فدخلت خادمته ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام ، فسقطت شرارة فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله . ووجود النصارى في المدينة كان نادرا وأكثر هذا الاستهزاء كان يكون من اليهود كما يعلم من رد الله تعالى عليهم في هذه الآيات التالية : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } الاستفهام للإنكار والتبكيت ، أي قل أيها الرسول مخاطباً ومحتجاً على أهل الكتاب دون المشركين : هل تنقمون منا شيئاً - أي هل عندنا شيء تنكرونه وتعيبونه علينا وتكرهوننا لأجله لمضادتكم إيانا فيه - إلاّ إيماننا الصادق بالله وتوحيده وتنزيهه وإثبات صفات الكمال له ، وإيماننا بما أنزله إلينا وبما أنزله من قبل على رسله ؟ أي ما عندنا سوى ذلك ، وهو لا يعاب ولا ينقم ، بل يمدح صاحبه ويكرم ؛ وإلا إن أكثركم فاسقون ، أي خارجون من حظيرة هذا الإيمان الصحيح الكامل ، وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية ، والتقاليد الباطلة ؟ فلذلك تعيبون الحسن من غيركم ، وترضون القبيح من أنفسكم . يقال نقم منه كذا ينقم ( كضرب يضرب ) إذا أنكره عليه بالقول والفعل ، وعابه به وكرهه لأجله . وهو من مادة النقمة وهي كراهة السخط ، والعقاب المرتب عليها . ويقال " نقم ينقم " ( بوزن علم يعلم ) والمستعمل في القرآن الأول . روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال : " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر ابن أخطب ورافع بن أبي رافع وعاري وزيد وخالد وإزار بن أبي إزار وواسع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : " أومن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم . لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " فلما ذكر عيسى ، جحدوا نبوّته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به " فأنزل الله فيهم : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } إلخ والمعنى إن الآية تتناول هؤلاء أولا وبالذات ، وتعم كل ناقم من المسلمين . وفي قوله تعالى : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } ما نبّهنا على مثله من دقة القرآن في الحكم على الأمم والشعوب إذ يحكم على الكثير أو الأكثر ، وما عمّ إلاّ واستثنى . وقد كان ولا يزال في أهل الكتاب أناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحبّ الحق والعدل والخير . وهؤلاء هم الذين كانوا يسارعون إلى الإسلام إذا عرفوه بقدر نصيب كل من جوهر الدين ونور البصيرة . وهذا لا ينافي ما كان من طروء التحريف على دينهم ، ونسيان حظ ونصيب مما نزل إليهم . { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ } المثوبة كالمقولة ، من ثاب الشيء يثوب وثاب إليه ، إذا رجع ، فهي الجزاء والثواب واستعماله في الجزاء الحسن أكثر ، وقيل استعماله في الجزاء السيء تهكّم . والمعنى هل أنبئكم يا معشر المستهزئين بديننا وأذاننا بما هو شر من عملكم هذا ثوابا وجزاء عند الله تعالى ؟ وهذا السؤال يستلزم سؤالا منهم عن ذلك ، وجوابه قوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ } . أي إن الذي هو شرّ من ذلك ثوابا وجزاء عند الله هو عمل من لعنه الله . أو جزاء من لعنه الله إلخ ، فهو على حدّ قوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ } [ البقرة : 189 ] وقوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } [ البقرة : 177 ] وفي هذا التعبير وجه آخر وهو : هل أنبئكم بشر من أهل ذلك العمل مثوبة عند الله ؟ هم الذين لعنهم الله إلخ . كما تقول في تفسير الآية الأخرى : ولكن ذا البر من اتقى . انتقل بهذه الآية من تبكيت اليهود وإقامة الحجة على هزؤهم ولعبهم بما تقدم ، إلى ما هو أشد منه تبكيتاً وتشنيعاً عليهم ، بما فيه من التذكير بسوء حالهم مع أنبيائهم ، وما كان من جزائهم على فسقهم وتمردهم ، بأشد ما جازى الله تعالى به الفاسقين الظالمين لأنفسهم ، وهو اللعن والغضب والمسخ الصوري أو المعنوي وعبادة الطاغوت ، وقد عظم شأن هذا المعنى بتقديم الاستفهام عليه ، المشوّق إلى الأمر العظيم المنبإ عنه . أما لعن الله لهم ، فهو مبيّن مع سببه في عدة آيات من سور البقرة والنساء . وقد تقدم تفسيره . وكذا هذه السورة ( المائدة ) فسيأتي في غير هذه الآية خبر لعنهم . ومنها إنهم لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام . وبعض ذلك اللعن مطلق وبعضه مقيّد بأعمال لهم ، كنقض الميثاق ، والفرية على مريم العذراء وترك التناهي عن المنكر . ومنه لعن أصحاب السبت أي الذين اعتدوا فيه . وقد ذكر في سورة البقرة مجملا ، وسيأتي في سورة الأعراف : مفصّلا . والغضب الإلهي يلزم اللعنة وتلزمه ، بل اللعنة عبارة عن منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه ، وتقدم تفسير كل منهما . وأما جعله منهم القردة والخنازير ، فتقدم في سورة البقرة وسيأتي في سورة الأعراف . قال تعالى في الأولى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] وقال بعد بيان اعتدائهم في السبت من الثانية { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] وجمهور المفسّرين على إن معنى ذلك إنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير حقيقة ، وانقرضوا ؛ لأن الممسوخ لا يكون له نسل كما ورد . وفي الدر المنثور " أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه لهم مثل الحمار يحمل أسفارا " فالمراد على هذا أنهم صاروا كالقردة في نزواتها ، والخنازير في اتباع شهواتها . وتقدّم في تفسير آية البقرة ترجيح هذا القول من جهة المعنى بعد نقله عن مجاهد من رواية ابن جرير . قال : " مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا " ولا عبرة برد ابن جرير قول مجاهد هذا وترجيحه القول الآخر ، فذلك اجتهاده ، وكثيراً ما يرد به قول ابن عباس والجمهور . وليس قول مجاهد بالبعيد من استعمال اللغة . فمن فصيح اللغة إن تقول : ربّى فلان الملك قومه أو جيشه على الشجاعة والغزو . فجعل منهم الأسود الضواري ، وكان له منهم الذئاب المفترسة . وأما قوله تعالى : { وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ } ففيه قراءتان سبعيتان متواترتان ، وعدة قراءات شاذة . قرأ الجمهور " عبد " بالتحريك على إنه فعل ماض من العبادة ، و " الطاغوت " بالنصب مفعوله ، والجملة على هذا معطوفة على قوله ( لعنه الله ) أي هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ؟ هم من لعنه الله وغضب عليه إلخ ، ومن عبد الطاغوت . وقرأ حمزة ( وعبد ) بفتح العين والدال وضم الباء ، وهو لغة في ( عبد ) بوزن ( بحر ) واحد العبيد . وقرأ ( الطاغوت ) بالجر بالإِضافة . وهو على هذا معطوف على ( القردة ) أي وجعل منهم عبيد الطاغوت ، بناء على إن عبداً يراد به الجنس لا الواحد . كما تقول : كاتب السلطان يشترط فيه كذا وكذا . وقد تقدم إن الطاغوت اسم فيه معنى المبالغة من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد المشروع والمعروف إلى الباطل والمنكر ، فهو يشمل كل مصادر طغيانهم . وخصّه بعض المفسّرين بعبادة العجل . ولا دليل على التخصيص . { شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } أي أولئك الموصوفون بما ذكر من المخازي والشنائع ، شرّ مكانا ، إذ لا مكان لهم في الآخرة إلاّ النار . - أو المراد بإثبات الشر لمكانهم إثباته لأنفسهم من باب الكناية . الذي هو كإثبات الشيء بدليله - وأضل عن قصد طريق الحق ووسطه ، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط . ومن كان هذا شأنه لا يحمله على الاستهزاء بدين المسلمين وصلاتهم وأذانهم واتخاذها هزؤا ولعبا ، إلاّ الجهل وعمى القلب . { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا } الكلام في منافقي اليهود الذين كانوا في المدينة وجوارها . أي ذلك شأنهم في حال البعد عنكم ، وإذا جاؤكم قالوا للرسول ولكم إننا آمنا بالرسول وما أنزل عليه { وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } أي والحال الواقعة منهم إنهم دخلوا عليكم متلبسين بالكفر . وهم أنفسهم قد خرجوا متلبّسين به . فحالهم عند خروجهم هي حالهم عند دخولهم ، لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول وما نزل من الحق ، ولكنهم يخادعونكم ، كما قال في آية البقرة : { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 76 ] . الآية { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } عند دخولهم من قصد تسقّط الأخبار ، والتوسل إليه بالنفاق والخداع ، وعند خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم ، كما تقدم قريباً في تفسير { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } [ المائدة : 41 ] . ونكتة قوله : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } هي تأكيد كون حالهم في وقت الخروج كحالهم في وقت الدخول ، وإنما احتاج هذا للتأكيد لمجيئه على خلاف الأصل ، لأن من كان يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ( رضي الله عنهم ) يسمع من العلم والحكمة ويرى من الفضائل ما يكبر في صدره ، ويؤثّر في قلبه ، حتّى إذا كان سيء الظن رجع عن سوء ظنه - وأما سيء القصد فلا علاج له - وقد كان يجيئه الرجل يريد قتله ، فإذا رآه وسمع كلامه آمن به وأحبّه . وهذا هو المعقول الذي أيّدته التجربة . وإنما شذ هؤلاء وأمثالهم ؛ لأن سوء نيتهم وفساد طويتهم ، قد صرفا قلوبهم عن التذكر والاعتبار ، ووجها كل قواهم إلى الكيد والخداع ، والتجسس وما يراد به ، فلم يبق لهم من الاستعداد ما يعقلون به تلك الآيات ، ويفقهون مغزى الحكم والآداب . { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الأحزاب : 4 ] . { وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ } أي وترى أيها الرسول أو أيها السامع كثيراً من هؤلاء اليهود - الذين اتخذوا دين الحق هزؤا ولعبا - يسارعون فيما هم فيه من قول الإِثم وعمله ( وهو كل ما يضرّ قائله وفاعله ) في دينه ودنياه - وفي العدوان - وهو الظلم وتجاوز الحقوق والحدود الذي يضر الناس - وفي أكل السحت - وهو الدنيء من المحرّم - كما تقدم ولم يقل : يسارعون إلى ذلك ؛ لأن المسارع إلى الشيء يكون خارجاً عنه فيقبل عليه بسرعة ، وهؤلاء غارقون في الإثم والعدوان ، وإنما يسارعون في جزئيات وقائعهما ، كلّما قدروا على إثم أو عدوان ابتدروه ، ولم ينوا فيه { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تقبيح للعمل الذي كانوا يعملونه في استغراقهم في المعاصي المفسدة لأخلاقهم وللأمة التي يعيشون فيها أن لم تنههم وتزجرهم على إنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلم يكن يقوم به أحد منهم ، لا العلماء ولا العباد ، إذ كان الفساد قد عم الجميع ، ولذلك قال : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } أي هلاّ ينهى هؤلاء المسارعين فيما ذكر أئمتهم في التربية والسياسة وعلماء الشرع والفتوى فيهم ، عن قول الإِثم كالكذب ، وأكل السحت كالرشوة ! لبئس ما كان يصنع هؤلاء الربّانيون والأحبار ، من الرضى بهذه الأوزار ، وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . روي عن ابن عباس إنه قال : ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية ، أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد ، وتركوا النهي عن البغي والفساد ، وإذا كان حبر الأمة ابن عباس يقول هذا ، فما قول علماء السوء الذين أضاعوا الدين وأفسدوا الأمة بترك هذه الفريضة ؟ ومن العجائب إننا نقرأ توبيخ القرآن لعلماء اليهود على ذلك ، ونعلم إن القرآن أنزل موعظة وعبرة ، ثم لا نعتبر بإهمال علمائنا لأمر ديننا . وعناية علمائهم في هذا العصر بأمر دينهم ودنياهم ! ! وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى . ومن مباحث البلاغة في التعبير : التفرقة بين يعملون ويصنعون . قال الراغب : الصنع إجادة الفعل ، فكل صنع فعل ، وليس كل فعل صنعا . ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب الفعل اهـ . وقال غيره : الصنع أخص من العمل ، فهو ما صار ملكة منه ، والعمل أخص من الفعل ؛ لأنه فعل بقصد . وقال في الكشاف : كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير ؛ لأن كل عامل لا يسمى صانعا ، ولا كل عمل يسمى صناعة ، حتّى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه . وكان المعنى في ذلك إن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على إرتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا فرّط في الإنكار ، كان أشدّ إثماً من المواقع اهـ . والذي أفهمه : إنّ معاصي العوام من قبيل ما يحصل بالطبع ؛ لأنه إندفاع مع الشهوة بلا بصيرة ، ومعصية العلماء بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ، من قبيل الصناعة المتكلفة لفائدة للصانع فيها يلتمسها ممن يصنع له . وما ترك العلماء النهي عن المنكر وهم يعلمون ما أخذ الله عليهم من الميثاق ، إلاّ تكلّفا لإِرضاء الناس ، وتحاميا لتنفيرهم منهم ، فهو إيثار لرضاهم على رضوان الله وثوابه . والأقرب إن يكون من الصنع - لا من الصناعة - وهو العمل الذي يقدمه المرء لغيره يرضيه به .