Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 98-100)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أرشدنا جل شأنه في الآية التي قبل هذه إلى بعض آيات علمه في خلقه وأمره ، وأرشدنا في هذه إلى العلم بأن العليم بكل شيء ، الذي ظهرت آيات علمه وحكمته في خلق السماوات والأرض . كما ظهرت في جعل البيت الحرام قياماً للناس - لا يمكن أن يترك الناس سدى ، كما إنه لم يخلقهم عبثاً ، فلا يليق بحكمته وعدله أن يجعل الذين اجترحوا السيئات ، كالذين آمنوا وعلموا الصالحات ، ولا أن يسوي بين الطيب والخبيث كالمؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والمصلح والمفسد ، والمظلوم والظالم ، فلا بدّ إذاً من الجزاء بالحق ولا يملك الجزاء إلا من يقدر على العقاب الشديد ، وعلى المغفرة والرحمة ، لذلك قال : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لمن دنس نفسه بالشرك والفسوق والعصيان { وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن زكى نفسه بالأعمال الصالحة مع التوحيد والإيمان ، فلا يؤاخذه بما سلف قبل الإيمان ، ولا بما يعمله من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة والإصلاح . ولا باللمم ، إذا اجتنب كبائر الإثم والفواحش . بل يستر ذنبه ويمحوه ، فيضمحل في إيمانه وعمله الصالح ، كما يستر القذر القليل ، ويضمحل بما يغمره من الماء الكثير ، ويخصه فوق ذلك برحمة منه ورضوان . فالآية متضمنة للترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، فهي وعيد لمن كفر وتولى عن العمل بكتاب الله ، ووعد لمن آمن به وعمل الصالحات ، وقد تقدم تفسير المغفرة والرحمة في كثير من الآيات . ولعل في تقديم ذكر العقاب وتأخير ذكر المغفرة والرحمة إشارة إلى أن العقاب قد ينتهي بالمغفرة والرحمة فلا يدوم ، لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما ثبت في الحديث الصحيح ، ولذلك يغفر كثيراً من ظلم الناس لأنفسهم ( ويعفو عن كثير ) وأعاد اسم الجلالة في مقام الإضمار للدلالة على أن مغفرته ورحمته ثابتتان له بالأصالة . { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } هذا بيان لوظيفة الرسول في إثر بيان كون الجزاء بيد الله العليم بكل شيء ، وهي أن الرسول من حيث هو رسول الله ليس عليه إلا تبليغ رسالة من أرسله ، فهو لا يعلم جميع ما يبديه المكلفون من الأعمال والأقوال وما يكتمونه منها فيكون أهلا لحسابهم وجزائهم على أعمالهم ، وإنما يعلم ذلك الله وحده . وفيه إبطال لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة والرجاء فيها ، والتماس الخلاص والنجاة من عذاب الآخرة بشفاعتها ، فهو يقول بصيغة الحصر " ما على الرسول إلا البلاغ " والبيان لدين الله وشرعه ، فبذلك تبرأ ذمته ، ويكون من بلغهم هم المسؤلين عند الله تعالى ؛ والله وحده هو الذي يعلم ما تبدون وما تكتمون من عقائدكم وأقوالكم وأفعالكم فيجازيكم عليها ، بحسب علمه المحيط بكل ذرة منها ، فيكون جزاءه حقاً وعدلاً ، ويزيد المحسنين كرماً منه وفضلاً . { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] . فلا تطالبوا بسعادتكم إلا من أنفسكم ، ولا تخافوا عليها إلا منها . ويؤيد تفسيرنا هذا قوله في سورة الرعد : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] وقوله في سورة الأنعام { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 48 - 51 ] . وأما الشفاعة الواردة في الأحاديث فلا تناقض الشفاعة المنفية هنا وفي آيات أخرى - لأنها عبارة عن دعاء مستجاب يظهر الله عقبه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما في كتابه ، تكريماً للداعي الشفيع من غير أن يكون مؤثراً في علم الله ولا في إرادته ، لأن الحادث لا يؤثر في القديم ، { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 3 ] . ثم إنه تعالى لما بين الجزاء وكونه منوطاً بالأعمال ، أراد أن يبين ما يتعلق به الجزاء من وصف الأعمال والعاملين لها ، فأثبت وجود حقيقتين متضادتين يترتب على كل منهما ما يليق بها ، وهما حقيقة الطيب وحقيقة الخبيث ، فقال : { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ } أي قل أيها الرسول مخاطباً كل فرد من أفراد أمة الدعوة : لا يستوي الخبيث والطيب من الأشياء والأعمال والأموال - كالضار والنافع ، والفاسد والصالح ، والحرام والحلال ولا من الناس كالظالم والعادل ، والجاهل والعالم ، والمفسد والمصلح ، والبر والفاجر والمؤمن والكافر ، فلكل من الخبيث والطيب في القسم الأول حكم يليق به عند الله تعالى ، ولكل منهما في القسم الآخر جزاء ومكان يستحقه بحسب صفته ( سيجزيهم وصفهم ) وهو الحكيم العليم يضع كل شيء في موضعه . ولعل نكتة تقديم الخبيث في الذكر كون السياق للإهتمام بإزالة شبهة المغترين بكثرته ، ولذلك قال : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ } الخطاب من الرسول لكل مكلف بلغته دعوته كما تقدم ، أي لو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس لقوتهم ، أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها ، والتوسع في التمتع بها ، كأكل الربا والرشوة والغلول والخيانة ، أو لدعوى أصحابها أنها دليل على حب الله لهم ورضاه عنهم ، إذ فضلهم بها على غيرهم ، { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] . أي لا يستويان في أنفسهما ولا عند الله ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك فصرت بعيداً عن إدراك حقيقة الأمر ، وهي أن القليل من الحلال كراتب الحاكم العادل وربح التاجر الصادق ، خير من كثير الحرام كالرشوة والخيانة ، بإعتبار حسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغني غناءه ولا يفيد فائدته . بل ربما يضر آكله ويفسد عليه معدته . كذلك القليل الطيب من الناس خير من الكثير الخبيث ، فالفئة القليلة من أهل الشجاعة والثبات والإيمان ، تغلب الفئة الكثيرة من ذوي الجبن والتخاذل والشرك ، وإن أفراداً من أولي البصيرة والرأي ، ليأتون بما يعجز عنه الجماعات من أهل الغباوة والخرق ، والعالم الحكيم ، يسخر لخدمته ألوفاً من الجاهلين { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] . كان المشركون يفخرون على المؤمنين في صدر الإسلام بكثرتهم ويعتزون بها { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } [ سبأ : 35 ] فضرب الله تعالى لهم مثل الكافر الذي فاخر المؤمن بقوله : { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } [ الكهف : 34 ] وكيف كانت عاقبة أمره خسراً . وقال لهم { وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 19 ] . ثم قال للمؤمنين تثبيتاً لهم حتى لا تروعهم كثرة المشركين في عددهم وعُددهم { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } [ الأنفال : 26 ] وجاءت هذه الآية بالقاعدة العامة وهي أن العبرة بصفة الشيء لا بعدده ، وإنما تكون العزة بالكثرة بعد التساوي في الصفات ولما كان من دأب أهل الغفلة والجهل والغرور بالكثرة مطلقاً ، قال تعالى تعقيباً على ما أثبته من تفضيل الطيب على الخبيث وإن كثر الخبيث . { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ولا تغتروا بكثرة المال الخبيث ، ولا بكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين ، فإن تقوى الله تعالى هي التي تنظمكم في سلك الطيبين ، فيرجى لكم أن تكونوا من المفلحين ، أي الفائزين بخير الدنيا والآخرة . وإنما خص أولي الألباب بالذكر في عجز الآية بعد مخاطبة كل مكلف في صدرها لأن أهل البصيرة والروية من العقلاء هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها ، بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها ، فلا يصرون على الغرور بكثرة الخبيث ، بعد التنبيه والتذكير . وأما الأغرار الغافلون الذين لم يمرنوا عقولهم على الإستقلال في النظر ، والإعتبار بالتجارب والحكم ، فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكر ، بل لا يعتبرون بما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم من حوادث الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة المجموعة من الحرام ، ولا من عواقب الأمم والدول التي إضمحلت كثرتها العاطلة من فضيلتي العلم والنظام ، وكيف ورث هؤلاء وأولئك من كانوا أقل مالا ورجالاً ، إذ كانوا أفضل أخلاقاً وأعمالا ، { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] . روي عن السدي أن المراد بالخبيث هنا المشركون وبالطيب المؤمنون . ويروى عن أبي هريرة قال : لدرهم حلال أتصدق به أحب إلي من مائة ألف درهم حرام ، فإن شئتم فاقرءوا كتاب الله : { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ } وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن الإسكندراني قال : كتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يذكر أن الخراج قد انكسر ، فكتب إليه عمر : إن الله يقول : { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ } فإن استطعت أن تكون في العدل والإصلاح والإحسان بمنزلة من كان قبلك في الظلم والفجور والعدوان فافعل . ولا قوة إلا بالله .