Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 104-107)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الآيات السابقة كلها في الإلهيات من عقائد الدين ، وهذه الآيات في التنبيه لمكانتها من العلم والهداية ، وفي المبلغ لها عن الله تعالى وما يقول المشركون فيه ، وإعلامه بسنة الله فيهم من حيث هم بشر ، وما يجب عليه وما ينفى عنه في هذا المقام . قال تعالى : { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } البصائر جمع بصيرة ولها معان منها عقيدة القلب والمعرفة الثابتة باليقين ، أو اليقين في العلم بالشيء والعبرة والشاهد ، أو الشهيد المثبت للأمر ، والحجة أو الفطنة ، أو القوة التي تدرك بها الحقائق العلمية ، وهذا يقابل البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية ، ومنه قول معاوية لبعض بني هاشم : إنكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم ، وقول الهاشمي له : وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم . أي قلوبكم وعقولكم . والمراد بالبصائر هنا الآيات الواردة في هذه السورة أو في هذا السياق الذي أوله { إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ } أو هي وما في معناها من الآيات المثبتة لحقائق الدين أو القرآن بجملته ، وربما يرجع هذا بتذكير الفعل " جاءكم " إذ لا بد له من نكتة في الكلام البليغ لأنه خلاف الأصل وإن كان جائزاً . وأقوى النكت وقوع اللفظ المؤنث على معنى مذكر . والخطاب وارد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال ابن جرير وغيره ، فالمعنى قد جاءكم في هذه الآيات الجلية بصائر من الحجج العقلية والكونية ، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية ، التي يتوقف عليها نيل السعادة الأبدية ، جاءكم ذلك من ربكم الذي خلقكم وسواكم ، وربى أجسادكم ومشاعركم وسائر قواكم : ليربي بها أرواحكم ، بأحسن مما ربى به أشباحكم . { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } أي فمن أبصر بها الحق والهدى ، فآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ، فلنفسه أبصر ، ولسعادتها ما قدم من الخير وأخر ، { وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } أي ومن عمي عن الحق بإعراضه عنها ، وعدم النظر والإستبصار بها فأصر على ضلاله ، ثباتاً على عناده ، أو تقليد آبائه وأجداده ، فعليها جنى ، وإياها أردى ، ولعمى البصائر شر من عمى الأبصار ، وأسوأ عاقبة في هذه الدار وفي تلك الدار . وهذا كقوله تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] وقوله { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، وقوله هنا : " فلها " بمعنى فعليها ، ونكتته المشاكلة أو الإزدواج وقيل غير ذلك . { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يراقب أعمالكم ويحصيها عليكم ويحفظها ليجازيكم عليها ، وإنما أنا بشير ونذير ، والله هو الرقيب الحفيظ ، فهو يعلم ما تسرون وما تعلنون ، ويجزيكم عليه بما تستحقون ، فعليه وحده الحساب ، وما عليَّ إلا البلاغ . { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } أي ومثل ذلك التصريف والتفتن العلي الشأن ، البعيد الشأو في فنون المعاني وأفنان البيان ، الذي تراه في هذه السورة أو هذا السياق ، نصرف الآيات في سائر القرآن لإثبات أصول الإيمان ، والهداية لأحاسن الآداب والأعمال ، فنحولها من نوع إلى نوع ومن حال إلى حال ، مراعاة العقول والأفهام ، ولإختلاف إستعداد الأفراد والأقوام . { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } المعنى العام للدرس تكرار المعالجة وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به أو يصل إلى الغاية منه ، يقال دَرَس الشيء كرسم الدار وآثارها يدرس ( من باب قعد ) إذا عفا وزال بفعل الريح أو تتابع المشي عليه وغير ذلك من الأسباب فهو دارس ، ودرسته الريح أو غيرها ، ودرس اللابس الثوب درساً أخلقه وأبلاه فهو دريس ، ودرسوا الطعام أي القمح داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه ، ودرس الناقة درساً راضها ، ودرس الكتاب والعلم يدرسه درساً ودراسة ، ودارسه مدارسة من ذلك . قال في اللسان عقب نقله كأنه عانده حتى إنقاد لحفظه ثم قال : ودرست الكتاب أدرسه أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه عليّ من ذلك ، والدرسة بالضم الرياضة . ففي كل ما ذكر معنى تكرار العمل ومتابعته حتى بلوغ الغاية منه . قرأ الجمهور ( درست ) فعلا ماضياً للمخاطب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( دارست ) للمشاركة وهي مروية عن ابن عباس ومجاهد . وقرأ ابن عامر ويعقوب ( درست ) بفتح السين وسكون التاء وهى مروية عن أبيّ وابن مسعود وابن الزبير والحسن . والتعليل في قوله : { دَرَسْتَ } خاص معطوف على تعليل عام يعرف من القرينة . والمعنى وكذلك نصرف الآيات على أنواع شتى ليهتدي بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام ، وليقول هؤلاء المشركون الجاحدون المعاندون منهم والمقلدون ، قد درست من قبل محمد وتعلمت ، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت ، وقد قالوا مثل هذا إفكا وزوراً ، وزعموا أنه تعلم من غلام رومي كان يصنع السيوف بمكة قيل إنه كان يختلف إليه كثيراً ، وذلك قوله تعالى في سورة النحل : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] أو ليقولوا : دارست العلماء وذاكرتهم ، وجئتنا بما تلقيته عنه ، أو درست هذه العقائد ومحيت ، بمعنى أنها أساطير قديمة قد رثت وخلقت ، وهاتان القراءتان في معنى قوله تعالى في سورة الفرقان : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 4 - 5 ] وأظهر منه في تأييد القراءة الأخيرة قوله تعالى حكاية عن قوم هود في الشعراء : { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ * إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 136 - 138 ] . وحكمة القراءات الثلاث حكاية أقوال ثلاث فئات من المشركين ، وهو من إيجاز القرآن العجيب في الكلم والرسم . قيل إن اللام في قوله " وليقولوا درست " للعاقبة والصيرورة أي ليكون عاقبة تصريف الآيات أن يقول الراسخون في الشرك مثل هذا القول مكابرة وعناداً ، وجحوداً وإلحاداً ، وقيل إن هذا تعليل صحيح يؤيده قوله تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] ونقول ليس معنى يضل به كثيراً أن الإضلال من المقاصد التي أنزل لأجلها ، أو التي من شأن القرآن نفسه أن يكون علة وسبباً لها ، وإنما معناه أنه يترتب على وجوده إعراض فاسدي الفطرة عنه ، وضلالهم بسبب الكفر به ، فهو بمعنى العاقبة التي تترتب على إنزاله ، كما يترتب على جميع المنافع التي خلقها الله للناس في الأنفس والآفاق ، مضار كثيرة من سوء الإستعمال . { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي ولنبين هذا القرآن المشتمل على ما ذكر من تصريف الآيات ، الذي يقول فيه بعض المكابرين إنه أثر درس واجتهاد ، أو لنبين التصريف المفهوم من " تصرف " لقوم يعلمون بالفعل أو بالإستعداد ، الذي لا يعارضه تقليد ولا عناد ، ما تدل عليه الآيات من الحقائق ، وما يترتب على الإهتداء بها من السعادة . فعلم من عطف هذا على ما قبله أن الذين يقولون للرسول إنك درست أو دارست حتى جئت بهذه الآيات المنزلة ، إذ كانت أثر الدرس أو المدارسة ، هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات التي صرفها الله على أنواع وأشتات ، أو لم يفهموا سرها ، وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا بأسرها ، وأما الذين يعلمون مدلولاتها وحسن عاقبة الإهتداء بها ، فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن ، أو ما في التصريف لها من أنواع البيان ، المؤيد بالحجة والبرهان . وللمفسرين في الآية أقوال أخرى منقوصة ( منها ) قول بعضهم أن المراد بدارست قارأت اليهود فحفظت عنهم بعض معاني هذه الآيات ، وينهض هذا بما هو معلوم على سبيل القطع من نزول هذه السورة في أوائل البعثة بمكة ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أحداً من اليهود إذ لم يكونوا من أهلها ، ولو تلقى عنهم كتبهم بالمدارسة لما سكتوا عن بيان ذلك لمشركي مكة حين أرسلوا إليهم يسألونهم عنه ولغيرهم من قومهم ومن المشركين ، ولأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم مهيمن على كتبهم ( 4 : 51 ) قد بيّن أن ما عندهم محرف وفيه زيادة عما جاء به أنبياؤهم ونقص بما نسوا منه كما بيّنا ذلك في تفسير أول سورة آل عمران وتفسير النساء ( 4 : 44 ) والمائدة ( 5 : 14 ) فيراجع في الجزئين 5 و 6 من التفسير - كما أنه بين لهم كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب ( س5 : 15 ) وهو من جهة أخرى أتم وأكمل لأنه خاتم النبيين ، الذي أكمل الله على لسانه الدين . ومنها : قول آخرين إن " ليقولوا دارست " على النفي أي لئلا يقولوا ذلك ، قاله ابن جرير ونقله الرازي عن القاضي من المعتزلة ورده أشد الرد وله الحق ، ولكنه غير مصيب في جعل العبارة مما يحتج به على الجبر أو القدر . ومنها : قول الرازي إن الكفار كانوا يقولون في نزول القرآن نجوماً : أإن محمداً يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها ولو كانت وحياً لجاء بها دفعة واحدة كما جاء موسى بالتوراة دفعة واحدة ، ومن ثم كان تصريف الآيات حالا فحالا هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن القرآن نتيجة مدارسة ومذاكرة مع آخرين . ونقول إن هذا الكلام رأي جدلي ملفق لا يصح به في جملته نقل ، فالعرب لم تكن تعتقد أن موسى جاء بالتوراة جملة واحدة من عند الله ولا أهل الكتاب وإنما تلك الوصايا العشر فقط ، وسائر أحكام التوراة نزلت متفرقة بحسب الوقائع في أمكنة مختلفة كالقرآن . وتلك الوصايا لا تبلغ عشر هذه السورة ( الأنعام ) التي نزلت جملة واحدة كما أثبتنا ذلك في أول تفسيرها بل لا تزيد على نصف العشر إلا قليلا . ولعل كثرة ما فيها من الآيات البيّنات على أصول الدين هو الذي حمل بعض المفسرين على القول بأن معنى ( وليقولوا درست ) ولئلا يقولوا درست ، فإن المجيء بهذه الآيات الكثيرة المنتظمة للحجج والبراهين المختلفة دفعة واحدة من شأنه أن يمنع المنصف من دعوى إقتباس القرآن بالمدارسة مع آخرين ، وأين هؤلاء المدارسون ؟ ولم لم يظهر من أحد منهم ولا من الرسول نفسه في مدة أربعين سنة شيء من هذه المعارف العالية . والبلاغة المعجزة ، كلا إنما قالوا ذلك جحوداً ومكابرة ، وربما نطق به بعضهم بادي الرأي من غير تفكر في مخالفته لما هو معلوم بالضرورة عندهم من كونه أمياً وكونه احتج على جمهورهم في ذلك بمثل قوله تعالى فيه : { قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] وقوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ العنكبوت : 48 ] وهذه تدل على أنهم لم يرتابوا وإنما هي المكابرة . { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } بعد أن بين تعالى لرسوله أن الناس فريقان ، فريق قد فسدت فطرتهم ولم يبق فيه إستعداد للإهتداء بتلك البصائر المنزلة ، ولا للعلم بما فيها من تصريف الآيات البينة ، فحظهم منها مكابرتها ، وجحود تنزيلها ، وفريق يعلمون ، وبالبيان يهتدون - أمره أن يتبع ما أوحي إليه من ربه ، بالبيان له والعمل به ، مشيراً بإضافة اسم الرب إلى ضميره ، إلى تعظيم شأنه وتكبيره ، وإلى كون الوحي إليه صلى الله عليه وسلم تربية له في نفسه ، وناصباً إياه إماماً لجميع أبناء جنسه ، يتربى به من وفق منهم لإتباعه ، وذلك أن الإقتداء لا يتم إلا بمن يعمل بما يعلم ، ويأتمر بما يأمر ، وقرن هذا الأمر بكلمة توحيد الألوهية ، لبيان وجوب ملازمته لتوحيد الربوبية ، فكما أن الخالق المربي للأشباح بما أنزل من الرزق ، وللأرواح بما أنزل من الوحي ، واحد لا شريك له في الخلق ولا في الهداية ، فالواجب أن يكون الإله المعبود واحداً لا شريك له في الجزاء على الأعمال بشفاعة ولا ولاية ، فالأمر هنا بالإتباع ليس الغرض منه مجرد المداومة عليه كما هو الشأن في أكثر من يأمر بالعمل من هو متلبس به ، وإنما الغرض منه بيان كونه من متممات التبليغ ، ثم عطف على هذا الأمر المقرون بكلمة التوحيد ، أمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين ، بأن لا يبالي بإصرارهم على الشرك ، ولا بمثل قولهم له دارست أو درست ، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص ، لا يضره الباطل بخرافات الأعمال ولا بزخارف الأقوال ، ثم هون عليه أمر الإعراض عنهم ، بقوله : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ } إلخ أي ولو شاء الله تعالى أن لا يشركوا لما أشركوا ، وذلك أنه لم يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة ، وإنما خلقهم مستعدين للإيمان والكفر ، والتوحيد والشرك ، والطاعة والفسق ، ومضت سنته في ذلك بأن يكونوا عاملين مختارين . فأما غرائزهم وفطرهم فكلها خير ، وأما تصرفهم وكسبهم لعلومهم وأعمالهم فمنه الخير والشر ، وقد فصلنا هذه المسألة من قبل . { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } وإنما أنت بشير ونذير ، والله تعالى هو الحفيظ والوكيل عليهم ، وهو مع ذلك لا يسلبهم إستعدادهم ، ولا يجبرهم بقدرته على الإيمان والطاعة له . إذ لو فعل ذلك لكان إخراجاً لهم من جنس البشر إلى جنس آخر . ولعل في الجملتين احتباكا والتقدير : وما جعلناك عليهم حفيظاً تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم وتجازيهم عليها ، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها ، وما أنت عليهم بوكيل ولا حفيظ بملك ولا سيادة . أي ليس لك ما ذكر من الوصفين بأمرنا وحكمنا ، ولا لك ذلك بالفعل كما يكون نحوه لبعض الملوك بالقهر أو التراضي . وقد تقدم تفسير الحفيظ والوكيل في الآيات الأخيرة في الآية 66 من هذه السورة { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } [ الأنعام : 66 ] فيراجع تفسيرها وفيه روي عن ابن عباس أن تلك الآية منسوخة بآية السيف وروي ذلك عنه في هذه الآية أو ما قبلها . والجمهور لا يعدون مثل هذا من المنسوخ كما تقدم ، نعم إنه نزل قبل أن تتكون الأمة ويصير النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً ولكن نزل مثله بعد ذلك لأن الحاكم ليس حفيظاً ولا وكيلا على الأمة بالمعنى المراد هنا ، ففي سورة النساء المدنية : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [ النساء : 80 ] . وفي هذه الآية وأمثالها من تقرير حرية الدين والإعتقاد ، ما لا نظير له في قانون ولا كتاب .