Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 10-11)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أن بين الله تعالى لخاتم رسله سنته في شبهات الكفار المعاندين على الرسالة ، وإصرارهم على الجحود والتكذيب بعد إعطائهم الآيات التي كانوا يقترحونها وعقابه تعالى إياهم على ذلك - بين له شأناً آخر من شؤون أولئك الكفار مع رسلهم وسنته تعالى في عقابهم عليه فقال : { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } ظاهر كلام نقلة اللغة إن الهزء ( بضمتين وبضم فسكون ) والإستهزاء بمعنى السخرية ، وأن أقوالهم هزئ به وإستهزأ به مرادف لقولهم سخر منه ، ويفهم من كلام بعض المدققين إن الحرفين متقارباً المعنى ولكن بينهما فرقاً لا يمنع من إستعمال كل منها حيث يستعمل الآخر كثيراً قال الراغب : الهزؤ مزح في خفية ( كذا ولعل صوابه في خفة ) وقد يقال لما هو كالمزح ، فما قصد به المزح قوله : { ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً } [ المائدة : 58 ] { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً } [ الجاثية : 9 ] { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } [ الفرقان : 41 ] . والإستهزاء إرتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزؤ . كالإستجابة في كونها إرتياداً للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة … وسخرت منه واستسخرته للهزؤ منه انتهى ملخصاً . وقال الزمخشري : الإستهزاء السخرية والإستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو النقل السريع ، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف انتهى - والخلاصة أن الإستهزاء بالشيء الإستهانة به ، الإستهزاء بالشخص إحتقاره وعدم الإهتمام بأمره ، وكثيراً ما يصحب ذلك السخرية منه ، وهي الضحك الناشئ عن الإستخفاف والإحتقار ، فمن حاكى امرءاً في قوله أو عمله أو زيه أو غيرها محاكاة إحتقار فقد سخر منه ، فالسخرية تستلزم الإستهزاء ، وهي خاصة بالأشخاص دون الأشياء ، قال تعالى : { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [ المؤمنون : 110 ] وقال في نوح : { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } [ هود : 38 ] الآية . وحاق المكروه يحيق حيقاً ، أحاط به فلم يكن له منه مخرج . والمعنى : أن الله تعالى قد أخبر رسوله خبراً مؤكدا بصيغة القسم أن الكفار قد استهزءوا برسل كرام من قبله فتنكير " رسل " للتعظيم ، وهو لا ينافي العموم في قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] فما يراه من إستهزاء طغاة قريش ليس بدعا منهم ، بل جروا به على آثار أعداء الرسل قبلهم ، وقد حاق بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل على إستهزائهم جزاء وفاقا ، حتى كأنه هو الذي حاق بهم لأنه سببه وجاء على وفقه . فالآية تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم سنن الله في الأمم مع رسلهم وتسلية له عن إيذاء قومه ، وبشارة له بحسن العاقبة وما سيكون له من إدالة الدولة ، وقد كان جزاء المستهزئين بمن قبله من الرسل عذاب الخزي بالإستئصال ، ولكن الله كفاه المستهزئين به فأهلكهم ، ولم يجعلهم سبباً لهلاك قومهم ، وامتن عليه بذلك في سورة الحجر إذ قال : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } [ الحجر : 95 ] والمشهور أنهم خمسة من رؤساء قريش هلكوا في يوم واحد . ولما كان كون أمر المستهزئين بالرسل يؤول إلى الهلاك بحسب سنة الله المطردة فيهم مما يرتاب فيه مشركو مكة الذين يجهلون التاريخ ، ولا يأخذون خبر الآية فيه بالتسليم ، أمر الله تعالى رسوله بأن يدلهم على الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } أي قل أيها الرسول للمكذبين بك من قومك - الذين قالوا : لولا أنزل عليه ملك - : سيروا في الأرض كشأنكم وعادتكم ، وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم ما لم نمكن لكم ، ثم أنظروا في أثناء كل رحلة من رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك ، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم ، وما تسمعون من أخبارهم . وإنما قال : " عاقبة المكذبين " ولم يقل " عاقبة المستهزئين " أو الساخرين - والكلام الأخير في هؤلاء لا في جميع المكذبين - لأن الله تعالى أهلك من القرون الأولى جميع المكذبين ، وإن كان السبب المباشر للإهلاك إقتراح المستهزئين الآيات الخاصة على الرسل ، فلما أعطوها كذب بها المستهزئون المقترحون وغيرهم من الكافرين الذين كانوا مشغولين بأنفسهم ومعايشهم عن مشاركة كبراء مترفيهم بالإستهزاء والسخرية ، وإذا كان المكذبون قد إستحقوا الهلاك وإن لم يستهزؤا ولم يسخروا فكيف يكون حال المستهزئين والساخرين ؟ لا ريب أنهم أحق بالهلاك وأجدر ، ولذلك أهلك الله المستهزئين من قوم نبي الرحمة ولم يجبهم إلى ما إقترحوه لئلا يعم شؤمهم سائر المكذبين معهم ، ومنهم المستعدون للإيمان الذين إهتدوا من بعد . ومن نكت البلاغة في الآية أنه قال فيها " ثم انظروا " وقد ورد الأمر بالسير في الأرض والحث عليه في آيات أخرى من عدة سور وعطف عليه الأمر بالنظر بالفاء ( راجع 99 من سورة النحل و42 من سورة الروم و109 من سورة يوسف و44 من سورة فاطر إلخ … ) . قال الزمخشري في نكتة الخلاف بين التعبيرين : ( فإن قلت ) أي فرق بين قوله " فأنظروا " وقوله " ثم أنظروا " ( قلت ) : جعل النظر مسبباً عن السير في قوله : " فأنظروا " فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين . وأما قوله " سيروا في الأرض ثم أنظروا " فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح اهـ . وقال أحمد بن المنير في الإنتصاف : وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر في المكانين واحداً ليكون ذلك سبباً في النظر ، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية ، وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير ، وإن السير وسيلة إليه لا غير ، وشتان بين المقصود والوسيلة . والله أعلم اهـ . وفي روح المعاني عن بعضهم أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا : " ثم انظروا " وفي غير ما موضع " فأنظروا " لأن المقام هنا يقتضي " ثم " دونه في هاتيك المواضع ، وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 6 ] مع قوله سبحانه وتعالى : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } [ الأنعام : 6 ] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة ، والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضاً كثيرون ، فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك ، فيكون المراد به إستقراء البلاد ، ومنازل أهل الفساد على كثرتها ، ليروا الآثار في ديار بعد ديار ، وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقب الذي تقتضيه الفاء ، ولا كذلك في المواضع الأخر . إنتهى . قال الآلوسي بعد إيراده : ولا يخلو عن دغدغة ، وإختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد بعطف النظر عليه بالفاء تارة نظراً إلى آخره ، وبثم أخرى نظراً إلى أوله . وكذا شأن كل ممتد اهـ . ما أورده الآلوسي ، والظاهر في الأخير أن يكون العطف بالفاء نظراً إلى الأول ، وبثم نظراً إلى الآخر عكس ما ذكره فتأمل . ثم أقول : ولعل من يتأمل ما وجهنا به الكلام في تفسير الآية ، قبل النظر في هذه النكت كلها يرى أنه هو المتبادر من النظم بغير تكلف ، وإنه يشبه أن يكون مستنبطاً من مجموع تلك النكت ، مع زيادة عليها تقتضيها حال المخاطبين بالأمر بالسير هنا ، وهم كفار مكة المعاندون الكثيرو الأسفار للتجارة الغافلون عن شؤون الأمم والإعتبار بعاقبة الماضين وأحوال المعاصرين .