Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 25-26)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كان المشركون أصنافاً متفاوتين في الفهم والعقل وفي الكفر وأسبابه ، وقد بين الله أحوال كل فريق منهم في كتابه فمنهم أصحاب الذكاء واللوذعية الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ويعقلون أنه لا يمكن أن يكون من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو بالذي يستطيع الإتيان بمثله في نظمه وفصاحته وبلاغته ، ولا في علومه وحكمه ومعارفه ، إذ لو كان مثله مما تصل إليه قدرته لظهر على لسانه شيء من مثله أو ما يقرب منه فيما مضى من حياته - وهو أربعون سنة ونيف … وقد أمره الله تعالى أن يقيم عليهم هذه الحجة بقوله : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] وما كان كفر أمثال هؤلاء إلا عن كبر وعناد ومكابرة للحق . ومنهم من كان يعرض عن سماع القرآن خشية أن يؤثر في قلبه ، وينتزعه من الدين الذي ألفه طول عمره ، ومنهم من كان يصغي سمعه إلى القرآن بقصد الإكتشاف والإختبار ، ولكنه لا يعقل المراد منه ، ولا يفقه حججه وبيناته ، إما لعدم توجه ذهنه إلى ذلك لعراقته في التقليد والأنس بما درج عليه الآباء وهو الأكثر ، وإما للبلادة وانحطاط الكفر عن التسامي إلى هذه المعارف العالية فيه ، وكان هذا قليلا في العرب ولا سيما أهل مكة وهم أفصح قريش التي هي أفصح العرب . وقد بين الله تعالى حال هذا الفريق الذي لم يكن حظه من الإستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا كحظ النعم من سماع أصوات البشر فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } أيها الرسول إذا تلوت القرآن داعياً إلى توحيد الله منذراً يوم القيامة { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } أي وجعلنا على آلة الفهم والإدراك من أنفسهم - وهي قلب الإنسان ولبه - أغطية حائلة دون فقهه ، ونفوذ الإفهام إلى أعماق علمه ، وفي آذانهم وقراً أي ثقلا أو صمماً حائلا دون سماعه بقصد التدبر واستبانة الحق منه . ومعنى هذا الجعل ما مضت به سنة الله تعالى في طباع البشر من كون التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه يكون مانعاً له باختياره من النظر والإستدلال والبحث عن الحقائق ، فهو لا يستمع إلى متكلم ولا داع لأجل التمييز بين الحق والباطل ، وإذا وصل إلى سمعه قول مخالف لما هو دين له أو عادة لا يتدبره ولا يراه القلوب جديراً بأن يكون موضوع المقابلة والتنظير مع ما عنده من عقيدة أو رأي أو عادة . وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية ، بالحجب والموانع الحسية ، فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء ، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم لأن سمعها وعدمه سواء ، والأكنة جمع كنان كالأسنة جمع سنان ، والوقر بالفتح الثقل في السمع والصمم وبالكسر الحمل ، يقال : وقر سمعه يقر فهو موقور ، إذا كان لا يسمع ، وأوقر الدابة فهي موقرة . { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } يقول الله تعالى في هؤلاء الذين لا يسمعون ما يتلو عليهم الرسول سماع تدبر ولا يفقهون كنه ما يدعو إليه : وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك وحقيقة ما تدعو إليه لا يؤمنوا بها ، لأنهم لا يفقهونها ولا يدركون كنه المراد منها ، لعدم التوجه أو لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ . { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ } أي حتى إذا صاروا إليك أيها الرسول مجادلين لك في دعوتك { يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي يقولون لإصرارهم على كفرهم وانتفاء فقههم : ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين من الأمم ، أي قصصهم وخرافاتهم . يعني أنهم لا يعقلون مما في القرآن من أنباء الغيب في قصص الأمم مع رسلهم إلا أنها حكايات وخرافات تسطر وتكتب كغيرها ، فلا علم فيها ولا فائدة منها ، وربما جعلوا القرآن كله من هذا القبيل ، قياساً لما لم يسمعوا على ما سمعوا ، أو لغير القصص على القصص . وهكذا شأن من ينظر إلى الشيء نظراً سطحياً لا ليستنبط منه علماً ولا برهاناً ، ومن يسمع الكلام جرساً لفظياً لا يتدبره ولا يفقه أسراره ، فمثل هذا وذاك كمثل الطفل الذي يشاهد ألعاب الصور المتحركة يديرها قوم لا يعرف لغتهم ، فكل حظه مما يرى من المناظر ومن المكتوبات المفسرة لها لا يعدو التسلية . ولو عقل هؤلاء المقلدون الغافلون قصص القرآن وتدبروا معانيها لكان لهم منها آيات بينة على صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ونذر عظيمة مما فيها من بيان سنن الله تعالى في الأمم ، وعاقبة أمرهم مع الرسل ، وغير ذلك من الحكم والعبر . وإن في أهل هذا العصر من لا يفكر في إتيان الأميّ الناشئ بين الأميين بخلاصة أخبار أشهر الرسل مع أقوامهم لأنه يرى أو يسمع أن ما في القرآن من ذلك يشبه ما في غيره من كتب اليهود والنصارى وكتب التاريخ ، ولا يرى في هذا ما يبعثه إلى البحث في الفرق بين ما في القرآن وما في غيره ، وهو من وجوه : أهمها في باب إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم كونه ظهر على لسان رجل أمي لم يقرأ ولم يطلع على شيء من كتب الدين ولا كتب التاريخ ، وقد احتج بهذا على قومه فلم يستطع أحد ممن انتصبوا لعداوته أن يرفع في الإنكار عليه رأساً أو ينبس في الرد عليه بكلمة ، { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } [ هود : 49 ] . فإذا كان في أهل هذا العصر من لا يفكر في هذه الآية البينة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي خاصة بقصص القرآن لما ذكرنا من السبب ، ومن لا يفكر في إعجاز القرآن ببلاغته بعد أن عاش النبي ثلثي عمره قبله ولم يكن في كلامه ما هو معجز - فإن كفار قريش لم يكونوا يستطيعون إنكار كون محمد صلى الله عليه وسلم كان أمياً مثلهم وإنه لم يكن يعرف شيئاً من أخبار الرسل مع أقوامهم ، ولا كان ممتازاً بالبلاغة والفصاحة فيهم ، ولكن كان بعضهم يجهل ما يعرفه أهل هذا العصر من كون تلك القصص كانت صحيحة لا من أساطير الأولين وأوضاعهم الخرافية التي لا يثبت لها أصل ، ولأجل هذا سأل بعضهم اليهود عنها ، كما كان بعضهم يجهل ما فيها من الآيات والعبر لعدم تدبرها . قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : الأسطارة لغة الخرافات والترهات ، وهي التي تجمع على أساطير ، وقال الأخفش : واحد الأساطير أسطورة . { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } ضمير { وَهُمْ } عائد إلى المشركين المعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم الجاحدين لنبوته الذين ورد هذا السياق بطوله فيه . لا إلى الفريق الذي ذكر أخيرا في قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } والمعنى أنهم ينهون الناس عن سماع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وينأون أي يبعدون عنه ليكونوا ناهين منتهين . والنأي عنه يشمل الإعراض عن سماعه والإعراض عن هدايته . وقيل إن المعنى ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم أي ينهون العرب عن حمايته ومنعه وعن اتباعه والسماع له جميعاً ويبعدون عنه بعد جفاء وعداوة { وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي وما يهلكون بذلك إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك ، بل يظنون أنهم يقضون عليه صلوات الله وسلامه عليه . وهذا من معجزات القرآن وأخباره بالغيب فقد هلك جميع الذين أصروا على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم بعضهم بالنقم الخاصة وبعضهم في بدر ثم في غيرها من الغزوات ، ويلي هذا الهلاك الدنيوي هلاك الآخرة ، ولفظ الآية يشملها وهو في هلاك الدنيا أظهر .