Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 4-6)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أرشدت الآيات الثلاث السابقة إلى دلائل وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته ، وأنها على ظهورها لم تمنع الكافرين من الشرك في الألوهية ؛ وأرشدت إلى دلائل البعث وإلى أنها على قوتها لم تمنع المشركين من الشك فيه ؛ وبينت الثالثة أن الله تعالى المتصف بالصفات التي يعرفونها ولا ينكرونها هو الله في عالمي السماوات والأرض ، المحيط علمه بكل شيء ، فلا ينبغي أن يتخذ معه إله فيهما . ولكن المشركين جهلوا ذلك فجوزوا أن يكون غير الرب إلها وعبدوا معه آلهة أخرى ، فبين لهم الوحي الحق في ذلك ، وأن الله الذي يعترفون بأنه هو رب السماوات والأرض وما فيهن هو الإله المعبود بالحق فيهن - ثم أرشدت هذه الآيات الثلاث اللاحقة إلى سبب عدم إهتدائهم بالوحي ، وأنذرتهم عاقبة التكذيب بالحق ، ويتلو ذلك في الآيات التي بعدهن كشف شبهاتهم على الوحي وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون الكلام في أصول الدين كلها وكل السورة تفصيل له . قال عز وجل : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي لم يكن كل أمرهم أنهم لم يستدلوا بما ذكر في الآية الأولى من البينات على التوحيد ، ولا بما ذكر في الثانية على البعث ، ولم ينظروا فيما يستلزمه كونه سبحانه هو الله في السماوات وفي الأرض ، المحيط علمه بالسر والجهر وكسب العبد ، بل يعطف على هذا ويزاد عليه أنهم أضافوا إلى عدم الإهتداء بالآيات الثابتة الدائمة التي يرونها في الآفاق وفي أنفسهم ، عدم الإهتداء بالآيات المتجددة التي تهديهم إلى تلك وتبين لهم وجه دلالتها ، وهي آيات القرآن المرشدة إلى آيات الأكوان ، والمثبتة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي معناها كل ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من المعجزات ، وذلك أنهم لا تأتيهم آية من هذه الآيات من عند ربهم - ولا يقدر عليها غيره - إلا كانوا معرضين عنها ، غير متدبرين لمعناها ، ولا ناظرين فيما تدل عليه وتستلزمه فيهتدوا به . وأصل الإعراض التولي عن الشيء الذي يظهر به عرض المتولي المدبر عنه . أي فهم لهذا الإعراض عن النظر في الآيات المنزلة وما فيها من الإعجاز العلمي واللفظي يظلون معرضين عن الآيات الكونية الدائمة الدالة على أن هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيء هو الحقيق بالألوهية وحده ، وأنه لا يجوز أن يدعى غيره ولا أن يعبد سواه ، لأن الربوبية والألوهية متلازمتان . فالآيات الدالة على أن الرب واحد دالة أيضاً على أنه هو الإله وحده ، ولولا إعراضهم عن النظر في ذلك والتأمل فيه عناداً من رؤسائهم ، وجموداً على التقليد من دهمائهم ، وهو المانع من النظر والإستدلال ، لظهر لهم ظهوراً لا يحتمل المراء ولا يقبل الجدال . فالآية معطوفة على ما قبلها متممة لمعناه ، والمضارع المنفي فيها على إطلاقه دال على التجدد والإستمرار ، أو على بيان الشؤون وشرح الحقائق - كقوله تعالى : { ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ } [ الرعد : 8 ] - فلا يلاحظ فيه حال ولا إستقبال ، وفي معنى هذه الآية آية أول سورة الشعراء وستأتي قريباً ، وآية في أول سورة الأنبياء وهي : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } [ الأنبياء : 2 - 3 ] . وقوله ( من آية ) يدل على إستغراق النفي أو تأكيده . وإضافة الآيات إلى الرب تفيد أن إنزاله الوحي وبعثه للرسل وتأييدهم وهدايته للخلق بهم كله من مقتضى ربوبيته ، أي مقتضى كونه هو السيد المالك المربي لخلقه المدبر لأمورهم على الوجه الموافق للحكمة . وإنه لا يقدر عليه غيره - فالذين يؤمنون بالرب ولا يؤمنون بكتبه ورسله يجهلون قدر ربوبيته وكنه حكمته ورحمته . وقيل إن المراد بالآيات هنا الدلائل الكونية الثابتة ، وهو ضعيف فإن هذه لا يكاد يعبر عنها بالإتيان ، لأنها ماثلة دائماً للبصائر والأبصار ، وإنما يعبر بالإتيان عن آيات الوحي التي تتجدد وعما يتجدد مثلها من المعجزات ، ومصداق الإخبار بالغيب ، كالإخبار بنصر الرسل وخذلان أقوامهم وآيات الساعة . مثال ذلك آيتا الأنبياء والشعراء المشار إليهما آنفاً وقوله تعالى : { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ غافر : 50 ] { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 132 ] { أَفَأَمِنُوۤاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ ٱللَّهِ } [ يوسف : 107 ] . ولما بين أن شأنهم الإعراض عن الآيات المنزلة وسائر ما يؤيد الله به رسله رتب عليه قوله : { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } أي فبسبب ذلك الشأن الكلي العام - وهو إستمرارهم على الإعراض عن النظر في الآيات - قد كذبوا بالحق الذي جاءهم لما جاءهم فلم يتريثوا ولم يتأملوا ، وإنما كذبوا ما جهلوا ، وما جهلوا إلا لأنهم سدوا على أنفسهم مسالك العلم ، وهذا الحق الذي كذبوا به هو دين الله الذي جاءهم به خاتم رسله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والآداب ، وأحكام الحلال والحرام والمعاملات ، وقد دعاهم أولا بمثل هذه السورة إلى كلياته مجملة ثم مفصلة ، وإنما كان يكون التفصيل بقدر الحاجة ، إلى أن تم الدين كله فأكمل الله به النعمة . والحق في أصل اللغة الموافقة والمطابقة كما قال الراغب ، أو الأمر الثابت المتحقق بنفسه ، فهو كلي له جزئيات كثيرة ، وكلما أطلق في مقام يعرف المراد منه بالقرائن اللفظية أو المعنوية ، وقد أطلق في القرآن بمعناه اللغوي المطلق وعلى البارئ تعالى وعلى القرآن وعلى الدين ، وذكر الدين مضافاً إلى الحق إضافة بيانية كقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ } [ التوبة : 33 ] وقوله : { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ } [ التوبة : 29 ] وأطلق بمعاني أخرى تفهم من السياق في كل موضع . فالأظهر عندنا أن المراد بالحق هنا الدين المبين في القرآن ، وروي عن قتادة تفسيره بالقرآن هنا وفي مثله من سورة { قۤ } ولا فرق بينه وبين ما قبله في المعنى ، فإن تكذيبهم بالدين الذي نزل به القرآن هو عين التكذيب بالقرآن الذي نزل بهذا الدين ، ولكن الأظهر في توجيه اللفظ والتناسب بين هذه الآية وما قبلها وعطفها عليها بفاء السببية أن يقال : إن إعراضهم عن آيات القرآن الدالة بإعجازها على كونها من عند الله وعلى رسالة من أنزلت عليه - وبمعانيها على دلائل التوحيد والبعث ، وعلى أحكام الشرائع والآداب ، قد كان سبباً ترتب عليه تكذيبهم بالحق الذي أنزل القرآن لبيانه وهو تلك المعاني التي هي دين الله عز وجل . وإذا فسر الحق هنا بالقرآن نفسه يكون المعنى أنهم كانوا يعرضون عن كل آية من القرآن ، فكان ذلك سبباً لتكذيبهم بالقرآن ، وأن المعرَض عنه والمكذَّب به واحد ، ووجهه أبو السعود ، بضرب من تكلفه المعهود ، وقد يتخرج على القول بأن فاء السببية تأتي بمعنى لام العلة فتدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها ، وفي هذا القول مقال ، وفي التخريج عليه ما لا يخفى من الضعف . ولكن يظهر ذلك على القول بأن الآيات التي شأنهم الإعراض عنها هي دلائل الأكوان أو المعجزات مطلقاً ، إذ يقال حينئذ في تقدير الربط : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية ، وأظهر دلالة ، وهو الحق الذي تحدّوا به ، فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، وقد علمت أن المختار في الآيات الأول . وقيل إن الحق هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن جرير الطبري ؟ وقيل الوعد والوعيد . { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أي فعاقبة هذا التكذيب إنه سوف يحل بهم مصداق الأخبار العظيمة الشأن مما كانوا يستهزءون به من آيات القرآن . والمراد بهذه الأنباء ما في القرآن من الوعد بنصر الله لرسوله وإظهار دينه ، ووعيد أعدائه بتعذيبهم وخذلانهم في الدنيا ثم بهلاكهم في الآخرة . وقد أتاهم ذلك فكان من أوائله ما نزل بهم من القحط ، وما حل بهم في بدر . ثم تمّ ذلك في يوم الفتح ، وقد دلت الآية على ما جاء مصرحاً به في سورة أخرى من استهزاء مشركي مكة - والكلام فيهم - بوعد الله ووعيده ، وكذا بآياته ورسله ، ولا حاجة إلى تقدير ذلك في الكلام ، فهو وإن لم يقدر من بدائع إيجاز القرآن ، وقد تكرر في القرآن ذكر إستهزائهم وإستهزاء من قبلهم من الكفار بالرسل وبما جاءوا به من الوعد والوعيد ، وإنذارهم عاقبة هذا الإستهزاء في آيات ، وبيان نزول العذاب بهم في آيات أخرى كقوله : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [ هود : 8 ] وهو في سورة هود والنحل والأنبياء والزمر وأكثر الحواميم . جاء الوعيد على الإستهزاء هنا بحرف التسويف ، وجاء في آيتين مثل هاتين الآيتين في أول الشعراء بحرف التنفيس ، وذلك قوله تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الشعراء : 5 - 6 ] وقد حذف هنا مفعول كذبوا ، وذكر السيد الآلوسي في روح المعاني تعليل ذلك بما نصه : وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي الشعراء { فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ } [ الشعراء : 6 ] بدون تقييد الكذب ، والتنفيس بالسين ، لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء ، فاستوفي فيها اللفظ ، وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول ، وقد ناسب الحذف الإختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين اهـ . أقول : ويحسن أن يزاد على ذلك أنه لما كان فعل الإستقبال المقرون بسوف أبعد زماناً من المقرون بالسين تعين الأول فيما نزل أولا والثاني فيما نزل آخراً . وقال الرازي في تفسير الآية : إعلم أن الله تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب ( فالمرتبة الأولى ) كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات . ( والمرتبة الثانية ) كونهم مكذبين بها ، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها ، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذباً به ، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له ، فإذا صار مكذباً به فقد زاد على الإعراض ( والمرتبة الثالثة ) كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الإستهزاء ، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار ، فبين تعالى إن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب . اهـ . وفي هذه الآيات عبرة لنا في حال الذين أضاعوا الدين ، من أهل التقليد الجامدين ، وأهل التفرنج الملحدين ، فهي تنادي بقبح التقليد ، وتصرح بوجوب النظر في الآيات والإستدلال بها ، وبأن التكذيب بالحق والحرمان منه معلول للإعراض عنها ، وتثبت أن الإسلام دين مبني على أساس الدليل والبرهان ، لا كالأديان المبنية على وعث التقليد للأحبار والرهبان أو الرؤساء والكهان ، وماذا فعل المسلمون بعد هذا التبيان ؟ إتبع جماهيرهم سنن من قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، وأضاعوا حجة دينهم بتقليد فلان وعلان ، وعكسوا القاعدة المأثورة عن سلفهم وهي أعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال ، ولولا حفظ الله جل وعلا لهذا القرآن وتوفيقه سلف الأمة للعناية بتدوين سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وأخذ طائفة من أهل النظر بهديهما في كل زمان ، لضاع من الوجود هذا الإسلام ، كما ضاعت من قبله سائر الأديان ، ولم يغن عن ذلك وجود الألوف المؤلفة من كتب الفقه وكتب الكلام . كان عاقبة ذلك أن الحق صار مجهولا في نفسه عند الأكثرين . فاتخذ الناس رؤساء جهالاً للدنيا وللدين ، فتواطأ الفريقان على إضطهاد حملة الحجة من العلماء المستقلين ، وظنوا أن ذلك من الكياسة ، التي تقتضيها السياسة ، ويحفظ بها أمر الملك والرياسة ، وما كان إلا فتنة لهم ، أضاعوا بها دينهم وملكهم ، على أيدي أقوام من أمم الشمال ، إقتبسوا من الإسلام وأهله الأولين ذلك الإستقلال ، فنسخوا ما كانوا فيه من ظلمات التقليد بنور الإستدلال ، فبلغوا من العزة والسيادة أوج الكمال . ثم إستدار الزمان فافتتن بعض المسلمين ، بما رأوا عليه هؤلاء المستقلين ، ولكن داء التقليد العضال ، لم يفارقهم في هذه الحال ، فطفقوا يقلدونهم في الأزياء والعادات وظواهر الأحكام والأعمال ، فازدادوا بذلك خزياً على خزي وضلالا على ضلال ، إذ هدموا مقوّمات أمتهم ومشخصاتها ، ولم يستطيعوا أن يكونوها بمقومات ومشخصات غيرها . فهذه الآيات الكريمة حجة على مقلدة المسلمين ، وعلى مقلدة الأوروبيين ، فإنهم هم الذين أضاعوا الدنيا والدين ، وأعجب أمر هؤلاء المتفرنجين أنهم يدعون الإستقلال ، ويظنون أن ما يهذون به من الشبهات الدينية والإجتماعية ضرب من الإستدلال ، فهلم دلائلكم على ما تركتم من هداية ، وما إستحدثتم من غواية ، فإننا لمناظرتكم مستعدون ، وكم دعوناكم إليه وأنتم لا تجيبون ؟ . { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } الرؤية هنا علمية ، و ( القرن ) من الناس القوم المقترنون في زمن واحد ، جمعه قرون ، وقد إستعمل في القرآن بهذا المعنى مفرداً وجمعاً ، واختلف في الزمن المحدد للقرن فأوسط الأقوال إنه سبعون أو ثمانون سنة ، وقيل مئة أو أكثر وقيل ستون أو أربعون ، والمعقول إنه مقدار متوسط أعمار الناس في كل زمان وذهب بعضهم إلى تحديد القرن بالحالة الإجتماعية التي يكون عليها القوم ، فقال الزجاج أنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم ، أو ملك من الملوك ، وهذا أقرب إلى إستعمال القرآن ، فالظاهر أن قوم نوح قرن وإن امتد زمنه فيهم زهاء ألف سنة ، وقوم عاد قرن وقوم صالح قرن ، ويطلق القرن على الزمان نفسه ، والمشهور في عرف الكتاب اليوم أن القرن مئة سنة . و ( التمكين ) يستعمل باللام وفي يقال : مكن له في الأرض - جعل له مكاناً فيها ، ونحوه أرض له ، ومنه { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ } [ الكهف : 84 ] ويقال : مكنه في الأرض - أي أثبته فيها ومنه { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } [ الأحقاف : 26 ] كذا في الكشاف . قال ولتقارب المعنيين جمع بينهما في هذه الآية . وقيل إن مكنه ومكن له كوهبه ووهب له ، وقال أبو علي اللام زائدة كردف له ، وسيأتي تحقيق معنى الإستعمالين . والسماء المطر ، والمدرار المغزار فهو صيغة مبالغة من الدّر ، وهو مصدر درَّ اللبن دراً ، أي كثر وغزر ، ويمسى اللبن الحليب دراً كالمصدر . والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن إشتقاق الإرسال من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعاً ، وقال الراغب : أصل الرّسل الإنبعاث على التؤدة يقال ناقة رسلة سهلة السير ، وإبل مراسيل - منبعثة انبعاثاً سهلا ، ومنه الرسول المنبعث . ثم ذكر أن الإرسال يكون ببعث من له إختيار كإرسال الرسل ، وبالتسخير كإرسال الريح والمطر ، وبترك المنع نحو قوله : { أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ مريم : 83 ] ويستعمل فيما يقابل الإمساك نحو { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } [ فاطر : 2 ] . والكلام استئناف لبيان ما توعدهم به ، وكونه مما سبقت به سنته في المكذبين من أقوام الأنبياء . والمعنى ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق كم أهلكنا من قبلهم من قوم أعطيناهم من التمكين والإستقلال في الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم هم مثله ثم لم تكن تلك المواهب والنعم بمانعة لهم من عذابنا لما إستحقوه بذنوبهم { أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ } [ القمر : 43 ] ؟ لا هذا ولا ذاك ، فإما الإيمان وإما الهلاك . وكان الظاهر أن يقال : مكناهم في الأرض - أي القرون - ما لم نمكنهم - أي الكفار المحكي عنهم المستفهم عن حالهم . فعدل عن ذلك بالإلتفات عن الغيبة إلى الخطاب لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام إتحاد مرجعهما وكون المثبت عين المنفي ، فقيل ما لم نمكن لكم : وإنما لم يقل " ما لم نمكنكم " أو : " ومكنا لهم ما لم نمكن لكم " - وهو مقتضى المطابقة - لنكتة دقيقة لا يدركها إلا من فقه الفرق بين مكنه ومكن له ، وقد غفل عنه جماهير أهل اللغة والتفسير . والتحقيق أن معنى مكنه في الأرض أو في الشيء - جعله متمكناً من التصرف تام الإستقلال فيه . وأما مكن له فقد إستعمل في القرآن مع التصريح بالمفعول به ومع حذفه ، فالأول كقوله تعالى : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ } [ النور : 55 ] وقوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } [ القصص : 57 ] والثاني كقوله تعالى : { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } [ يوسف : 21 ] وقوله في ذي القرنين : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [ الكهف : 84 ] فلا بد في مثل هذا من تقدير المفعول المحذوف مع مراعاة ما يناسب ذلك من نكت الحذف ، ككون المفعول في هاتين الآيتين عاماً يتناول كل ما يصلح للمقام ، كأن يقال مكناً ليوسف ولذي القرنين في الأرض جميع أسباب الإستقلال في التصرف . إذا فقهت هذا فإعلم إن في هذه الآية إحتباكاً تقديره " مكناهم في الأرض ، ما لم نمكنكم ، ومكنا لهم ما لم نمكن لكم " ومعنى الأول أنهم كانوا أشد منكم قوة وتمكناً في أرضهم ، فلم يكن يوجد حولهم من يضارعهم في قوتهم ، ويقدر على سلب إستقلالهم ، ومعنى الثاني أننا أعطيناهم من أسباب التمكن في الأرض وضروب التصرف وأنواع النعم ما لم نعطكم . فحذف من كل من المتقابلين ما أثبت نظيره في الآخر ، وهذا من أعلى فنون الإيجاز ، الذي وصل في القرآن إلى أوج الإعجاز ، ويصدق كل من التمكينين على قوم عاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم كما يعلم من قصص الرسل في القرآن ومن التاريخ العام . ثم عطف على هذا ما إمتازت به القرون على كفار قريش من النعم الإلهية الخاصة بمواقع بلادهم من الأرض فقال : { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } إرسال السماء عبارة عن إنزال المطر . والمدرار الغزير كما تقدم { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } أي وسخرنا لهم الأنهار - وهي مجاري المياه الفائضة - وهديناهم إلى الإستمتاع بها بجعلها تجري دائماً من تحت مساكنهم التي يبنونها على ضفافها ، أو في الجنات والحدائق التي تتفجر خلالها ، فيتمتعون بالنظر إلى جمالها ، وبسائر ضروب الإنتفاع من أمواهها . { فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أي فكان عاقبة أمرهم لما كفروا بتلك النعم وكذبوا الرسل أن أهلكنا كل قرن منهم بسبب ذنوبهم التي كانوا يقترفونها ، وأنشأنا أي أوجدنا من بعد الهالكين من كل منهم قرناً آخرين يعمرون البلاد ويكونون أجدر بشكر نعم الله عليهم فيها ، والذنوب التي يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان : أحدهما : معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به . وثانيهما : كفر النعم بالبطر والأشر وغمط الحق وإحتقار الناس وظلم الضعفاء ، ومحاباة الأقوياء ، والإسراف في الفسق والفجور ، والغرور بالغنى والثروة ، فهذا كله من الكفر بنعم الله وإستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام ، والأيام الناطقة بتلك الذنوب مجتمعة ومتفرقة كثيرة كقوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 58 - 59 ] { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء : 16 ] والعذاب الذي يعذب الله به الأمم ويهلك القرون ويديل الدول قسمان أيضاً : الجوائح والإستئصال ، وفقد الإستقلال ، وقد بينا هذا وذاك في مواضع من هذا التفسير . وفي هذه الآية رد على كفار مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف عصبية النبي صلى الله عليه وسلم وفقره ، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] . أما القوم أو القرن الآخرون الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله تعالى فهم لا بد أن يكونوا مخالفين لهم في صفاتهم ، وإن كانوا من جبلتهم وأبناء جيلهم ، فالشعوب التي نكبت بالحرب المشتعلة الآن في أوروبا لا بد أن يخلف الهالكين فيها خلف يتركون كثيراً مما كانت عليه من الكفر بالله وكفر نعمه ، ويكونون أقل منهم بطراً وقسوة وانغماساً في الترف والسرف وما ينشأ عنهما من الفسق والفجور ، قال تعالى في آخر سورة القتال : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] .