Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 80-83)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المحاجة المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة . والحجة الدلالة المبينة للمحجة أي المقصد المستقيم كما قال الراغب ، وأصل المحجة وسط الطريق المستقيم ، وتطلق الحجة على كل ما يدلي به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه ، فتقسم إلى حجة ناهضة يثبت بها الحق ، وحجة داحضة يموه بها الباطل ، وإنما يسمى ما لا يثبت به الحق حجة على سبيل إدعاء الخصم ، حكاية لقوله ، واصطلحوا على تسميتها شبهة . ولما حاج إبراهيم قومه ببيان بطلان عبادة الأصنام وربوبية الكواكب وإثبات وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده - وهي الحنيفية - حاجوه ببيان أوهامهم في شركهم ، وقد بين الله تعالى في سورتي الأنبياء والشعراء أنهم إعتذروا له عن عبادة الأوثان والأصنام بتقليد آبائهم ، وليس للمقلد أن يحتج ، ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه ، ويؤخذ من هذه الآيات أنهم لما لم يجدوا حجة عقلية على شركهم بالله خوفوه أن تمسه آلهتهم بسوء . والظاهر أن هذا كان قبل ما حكى الله تعالى عنه وعنهم في سورة الشعراء ، بقوله : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 72 - 74 ] وقبل واقعة تكسيره لأصنامهم التي قال الله فيها من سورة الأنبياء إنهم رجعوا إلى أنفسهم فاعترفوا بظلمهم ، ثم نكسوا على رؤوسهم مصرين على شركهم ، وكثيراً ما يضطرب المقلد لسماع الحجة إذ يومض في قلبه برقها ، ويهز شعوره رعدها ويكاد يحييه ودقها ، ثم ينكس على رأسه ، ويعود إلى سابق وهمه ، خائفاً من غير مخوف ، راجياً غير مرجو ، كما نراه في عباد أصحاب القبور ، الذين يتوهمون أن قبورهم وغيرها من آثارهم تدفع عمن زارها أو تمسح بها الضر وتكشف السوء ، وتدر الرزق وتخزي العدو ، إما بتصرفهم في الخلق ، وإما لأنهم قربان عند الرب ، ولا يرون ذلك ناقضاً للإيمان الصحيح بالله عز وجل : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] قال تعالى : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } أي وجادله قومه بعدما تقدم من أمره معهم ، وخاصموه في أمر التوحيد الذي قرره لهم ، كأن زعموا كما روي وسمع من أمثالهم أن إتخاذ الآلهة لا ينافي الإيمان بالله الفاطر سبحانه ، لأنهم وسطاء وشفعاء عنده ، ومتخذون لأجله ، وذلك ما تقدم قريباً عن ابن زيد في تفسير قوله : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 79 ] وخوفوه بطشهم به فماذا قال عليه السلام ؟ { قَالَ أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } أي أتجادلونني مجادلة صاحب الحجة في شأن الله تعالى وما يجب في الإيمان به - والحال أنه قد فضلني عليكم بما هداني إلى التوحيد الخالص والحنيفية التي أقمت بها الحجة عليكم ، وأنتم ضالون بإصراركم على شرككم ، وتقليدكم به من قبلكم ؟ وقد خفف نون ( تحاجوني ) نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان وذلك بحذف إحدى النونين ، وشددها سائر القراء ، وهما لغتان للعرب في مثلها . وحذفت الياء من هداني في الرسم ، لأنها لا تظهر في النطق . { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } من الكواكب والأصنام أن تصيبني بسوء ، فإني أعلم علم اليقين أنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، ولا تقرب ولا تشفع { إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } أي لكن أستثني من عموم الخوف في عموم الأوقات ، من جهة آلهتكم كغيرها من المخلوقات ، إن يشاء ربي القادر على كل شيء وقوع مكروه بي ، فإنه يقع لا محالة كما شاء ربي ، فإن فرض أنه شاء أن يسقط عليَّ صنم يشجني ، أو كسف من شُهُب الكواكب يقتلني ، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئته ، لا بمشيئة الصنم أو الكوكب ولا بقدرته ، ولا بتأثيره في قدرته تعالى وإرادته ، ولا بجاهه عنده وشفاعته ، إذ لا تأثير لشيء من المخلوقات في مشيئة الخالق الأزلية الجارية بما ثبت في علمه الأزلي . { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به . ومشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم وقدرته منفذة لمشيئته ، فلا يمكن أن يكون لشيء من المخلوقات التي تعبدونها ولا لغيرها تأثير ما في صفاته ، ولا في أفعاله الصادرة عنها ، لا بشفاعة ولا غيرها ، وإنما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكل شيء ، فيعلمه الشفعاء والوسطاء من وجوه : مرجحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم . فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو النفع ، أو العطاء أو المنع ، أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركية بمثل قوله : { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] فراجع تفسيره ( في ص 31 من جزء التفسير الثالث ) وجعل الجملة بعضهم كالتعليل للإستثناء ، بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى أصابته بسوء يكون سببه الأصنام ، أو لبيان أنه لإحاطة علمه لا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح ، وجعلها بعضهم تعريضاً بجهل معبوداتهم من الكواكب والأوثان ، وما قلناه أرجح وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن . { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أيها الغافلون أن هذا هو شأن الرب الفاطر ، وأنه ينافي ما أنتم عليه من الشرك الظاهر ، ومنه إعتقاد وقوع الضرّ بي أو النفع لكم بالتصرف الذي تزعمونه في معبوداتكم ؟ وقد تقدم أنهم كانوا مؤمنين بأن للعالم كله رباً خالقاً غير هذه الآلهة والأرباب المتخذة من مخلوقاته إتخاذاً ، ولكنهم لم يكونوا يعقلون بأنفسهم أن نسبة جميع الخلق إلى الخالق واحدة من حيث أنه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، فسخر ما شاء لما شاء بسنن الأقدار ، ونظام الأسباب والمسببات ، ثم هدى العقلاء لتلك الأسباب ، ليطلبوا المنافع ويتقوا المضار . وقد ظهر بالدلائل والتجارب أنها مسخرة على سواء ، فالسلطة الغيبية العليا له وحده ليس لغيره تأثير فيها معه ولا تدبير ، فإذا جعل بعض الأجناس أو الأشخاص سبباً للنفع أو الضر بإرادة خلقها لها كالحيوانات ، أو بغير إرادة كالجمادات ، فلا يقتضي ذلك أن ترفع رتبة المخلوقات ، وتجعل أرباباً ومعبودات ، وكان يجب أن يفطن العاقل لذلك ويتذكره بالتذكير به ، لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان ، وتعرفه الفطرة بالوجدان ، فكأنه مما غفل عنه ، لا مما جهله ، لأنه معلوم له بالقوة . وفسر ابن جرير التذكر هنا بالإعتبار والإتعاظ وهو أحد معانيه : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } [ الأعلى : 9 - 10 ] . ومن العبرة في الآية أن هذا الضرب من الشرك الذي رده إمام الموحدين إبراهيم صلوات الله عليه لا يزال فاشياً في كثير من المنتمين في التوحيد إلى ملته ، لأنهم لم يعقلوا ما تقدم من حجته ، فهم ينسبون إلى من يعتقدون أن لهم تصرفاً غيبياً في المخلوقات ، أحياء كانوا أو أموات ما يقع عقب زيارته لهم ، أو توسلهم بهم ، من زوال ألمّ ، أو خير ألم ، أو نفع أصاب حبيباً دعوا له ، أو ضر أصاب عدواً دعوا عليه ، وإنما يقع ما يقع من ذلك بسبب حقيقي جلي ، أو وهمي خفي ، وكل بتقدير الله السميع العليم ، العزيز الحكيم . وبعد أن بين لهم عليه السلام أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف الله وحده من ناحية الأسباب ومن غير ناحيتها قال : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً } أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه نداً له ، وهو لا ينفع ولا يضر ، ولا يسمع ولا يبصر ، ولا تخافون أنتم إشراككم بالله خالقكم ما لم ينزل به عليكم حجة بيّنة بالوحي ، ولا بنظر العقل ، تثبت لكم جعله شريكاً له في الخلق والتدبير ، أو في الوساطة والشفاعة والتأثير ، فأفتياتكم على خالقكم الذي بيده الضر والنفع بهذه الموبقة الفظيعة هو الذي يجب أن يخاف ويتقى . فالإستفهام للإنكار التعجبي من تخويفهم إياه ما لا يخيف ، في حال كونهم لا يخافون أخوف ما يخاف ، وقد قيل إن هذا الإستفهام عن كيفية الخوف لا عن الخوف نفسه وبحثوا عن نكتته ، والمراد نكتة العدول عن الإستفهام - بالهمزة إلى الاستفهام - بكيف ، وهي تؤخذ من قول أهل اللغة في معنى كيف من كونها سؤالا عن الأحوال - لا مما تكلفه بعض المفسرين - والمعنى أن كل صفة وحال يمكن أن تدعى لصحة هذا الخوف فهي باطلة ، وإنه عليه السلام لم يجد لهذا الخوف حالا ولا وجهاً ، فلا هو يخاف هؤلاء الشركاء لذواتهم ، ولا لما يزعمونه من وساطتهم عند الله وشفاعتهم ، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدعى - ولو بجعل الله - لهم ، ولا لثبوت جعلهم أسباباً للضرر بغير إرادة ولا إختيار منهم ، فالمراد أن جميع وجوه الخوف وأحواله الحقيقية والمجاز منتفية ، وإلا فعليهم بيان كيف يخافون . وقد حذف متعلق الشرك في مقام إنكار خوفه من شركائهم ، وذكره بعده في مقام إنكار عدم خوفهم من شركهم ، وهو قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً } - لأن الحاجة إلى بيان عدم وجود السلطان - أي الدليل - على هذا الشرك إنما يحتاج إليه في مقام إسناده إليهم والتعجب من عدم خوفهم سوء عاقبته ، ما لا يحتاج إليه في مقام إنكاره هو كل حال يمكن أن تدعى لخوفه من شركائهم ، فهو يثبت بذلك الإطلاق أنه لا يمكن أن توجد حال ولا صفة للخوف مما أشركوه ، فلو عدل عنه إلى تقييد إنكاره بما ذكر لفات بهذا القيد ذلك العموم البليغ ، وذهب ذهن السامعين إلى أنه سيخاف إذا ظهر له دليل على صحة دعواهم ، وهم قوم مقلدون يعتقدون أنه لا بد من وجود أدلة تثبت صحة إعتقادهم ، وإن لم يعرفوها أو يقدروا على بيانها لخصمهم ، وأما ذكر هذا المتعلق في مقام الإنكار التعجبي من عدم خوفهم فهو ضروري ، لأنه تذكير لهم عند ذكر عقيدتهم بأنهم لا عذر لهم بالجهل ببطلانها ، لأنه لا دليل لهم عليها . وقال بعض المفسرين إن قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً } قد ذكر على طريق التهكم مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة المنزلة أو مطلق الحجة القاطعة ، وأن التقليد ليس بعذر ، ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ، ولا بصيرة ولا عقل . وذكر الرازي في العبارة وجهين : أحدهما : أنها كناية عن إمتناع وجود الحجة والسلطان على الشرك ، والمعنى ما لم ينزل به سلطانه لأنه باطل لا يمكن أن يقوم عليه برهان فهو كقوله تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] أي لا برهان له به يعلمه ولا برهان يجهله لاستحالة البرهان على الباطل . ثانيهما : إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر بإتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة . وأقول إن هذا الوجه لا محل له لأن جعلها قبلة غير جعلها شركاء يخاف ضرها ويرجى نفعها لذاتها أو لوساطتها عند الله تعالى . فالقبلة لا تأثير لها في نفع ولا ضر لا بالذات ولا بالشفاعة كما يعتقدون في الشركاء وإنما يتوجه إليها إمتثالا لأمر الله ومثل ذلك إستلام الحجر الأسود في الطواف ، فالإنتفاع محصور في طاعة الله تعالى بذلك لأنه هو الذي يزكي النفس . ثم رتب صلوات الله عليه على هذا الإنكار التعجبي ما هو نتيجة له بقوله : { فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } المراد بالفريقين فريق الموحدين الحنفاء الذين يعبدون الله وحده ، ويخافون ويرجونه ولا يخافون ولا يرجون غيره من دونه ، وإنما يعارضون الأسباب بالأسباب ، ويدافعون الأقدار بالأقدار ، كإتقاء أسباب الأمراض قبل وقوعها ، ومدافعتها بالأدوية بعد الإبتلاء بها ، وفريق المشركين الذين إستكبروا تأثير بعض الأسباب ، فاتخذوا منها ما إتخذوا من الآلهة والأرباب ، بل نسبوا إلى بعضها النفع والضر بخداع المصادفات وإختراع الأوهام ، فهو يقول لهم أي هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه ، من عاقبة عقيدته وعبادته ؟ ونكتة عدوله عن قول : فأينا أحق بالأمن . إلى قوله : { فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ } هي بيان أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك ، من حيث أن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك ، لا خاصة به وبهم ، فهي متضمنة لعلة الأمن . وقيل إن نكتته الإحتراز عن تزكية النفس . واسم التفضيل على غير بابه ، فالمراد أينا الحقيق بالأمن ، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقاً في إستنزالهم عن منتهى الباطل وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن ، وأنه هو الحقيق بالخوف ، إلى الوسط النظري بين الأمرين ، وهو أي الفريقين أحق ، وإحترازاً عن تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله كله . ثم قال : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي أيهما أحق بالأمن - أو إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر - فأخبروني بذلك ، وبينوه بالدلائل ؟ وهذا إلجاء إلى الإعتراف بالحق ، أو السكوت على الحماقة والجهل . وأما الجواب فهو قوله الحق : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } في هذا الجواب احتمالات : أحدها : أنه من قوم إبراهيم : أي تذكروا لما ذكرهم ، وراجعوا عقولهم وفطرتهم ، فإعترفوا بالحق كما إعترفوا حين كسر أصنامهم من بعد ، إذ قال لهم : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ * فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 - 65 ] وقد روى ابن جرير هذا الإحتمال عن ابن جريج . الثاني : أنه من قبل إبراهيم عليه السلام صرح به إذ سكتوا عن الجواب مفحمين مبالغة في تبكيتهم ، وقد قال الآلوسي أن هذا روي عن علي كرم الله وجهه ، ولم أره في تفسير ابن جرير ولا ابن كثير ولا الدر المنثور ، ولعله نقله عن بعض تفاسير الشيعة . الثالث : إنه من الله عز وجل فصل به القضاء بين إبراهيم ومن حاجه من قومه - رواه ابن جرير عن ابن إسحاق وابن زيد وإختاره وقال إنه أولى القولين بالصواب ، وقد يرجحه في اللفظ عطف الآية التالية على هذه . والذي نراه أن الأمن في هذا الكلام يقابل الخوف فيه ، وهو الأمن من عذاب الرب المعبود لمن لا يرضى إيمانه وعبادته ، فإنهم خوفوا إبراهيم أن تمسه آلهتهم وأربابهم بسوء لجحده إياهم وعداوته لهم ، فأجاب بأنه إنما يخاف الله وحده ولا يخافهم ، والظلم الذي يلبس به الإيمان بالله ويخالطه ، فينقص منه أو ينقصه ، هو الشرك في العقيدة أو العبادة ، كإتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه ، ولو لأجل التقريب إليه والشفاعة عنده ، ويحب كحبه ، ويعظم من جنس تعظيمه ، لإعتقاد أن له سلطاناً من وراء الأسباب ينفع به ويضر بذاته ، أو بتأثيره في مشيئة الله وقدرته ، ولا يدخل فيه الظلم الذي ليس من شأنه أن يلابس الإيمان ، كظلم المرء نفسه بإتيان بعض المضار ، أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال ، أو ظلم غيره ببعض الأحكام أو الأعمال . وهذا التفسير للظلم يبين به ما ورد تفسيره به في الحديث المرفوع الذي سنذكره . فإن قيل : إن الظلم في الآية نكرة في حيز النفي فهي للعموم والشمول ( قلنا ) أن عموم كل شيء بحسبه فقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 20 ] عام في كل شيء ممكن ، ولا يدخل في عمومه ذات الله تعالى وصفاته الواجبة له فلا يقال إنه قادر على إعدامها ولا على إيجادها ولا إنه غير قادر ، وقوله في ملكة سبأ : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] عام في كل ما يحتاج إليه الملوك ، لا كل شيء في الوجود ، فمن لم يقبل جعل مثل هذا من العام بإطلاق ، فليجعله من العام الذي أريد به الخاص . وقد ذهل الزمخشري عن كون الإيمان هنا هو الإيمان المطلق الذي أثبته القرآن للمشركين لا الإيمان الصحيح الكامل الذي جاء به الرسل ولهذا الذهول جزم بأن المراد بالظلم هنا المعاصي دون الشرك لأن الشرك لا يخالط الإيمان الصحيح لأنه ضده ونقيضه نقول نعم ولكنه يخالط مطلق الإيمان بالله تعالى وذلك قوله تعالى في المشركين : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] . ثم لا يخفى أن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم - لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية من دينية ودنيوية ، ولا لغيرهم من المخلوقات ، من العقلاء والعجماوات ، أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على إرتكاب المعاصي والمنكرات ، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سننه في ربط الأسباب بالمسببات ، كالفقر والأسقام والأمراض ، دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم ، فإن الظالمين لا أمان لهم ، بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم ، بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا ، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به . وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه ، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعاً لا يصح لأحد من المكلفين ، دع خوف الهيبة والإجلال ، الذي يمتاز به أهل الكمال ، وقد صح إسناد الخوف إلى الملائكة والأنبياء { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 50 ] { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [ الإسراء : 57 ] { وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] وهذا التفسير يؤيد قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } على ما تقدم . وأما الأمن من عقاب الآخرة بالفعل وهو النجاة منه فهو ثابت للملائكة والأنبياء عليهم السلام ، ولكثير ممن دونهم من الصالحين الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وإن لم يعلم ذلك في الدنيا كل منهم ليبقى جامعاً بين الخوف والرجاء . ومن الناس من يؤمن فيموت قبل أن يظلم أحداً ، وقد ورد حديث في إدخال مثل هذا في مفهوم الآية . وأما معنى الآية على الوجه الأول فهو : الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك به سبحانه أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب ، وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء . وروي عن علي كرم الله وجهه إنه قال : نزلت هذه الآية في إبراهيم وقومه خاصة ليس في هذه الأمة ، ولعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقاً لا أمن الخلود فيه فقط ، ولعل سبب هذا إن صح أن الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئاً غير التوحيد إكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها . وقد إكتشف الباحثون شريعة حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم - وقد باركه وأخذ منه العشور كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها ، وأما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين ، وأما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها ، لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها . هذا - وأما حصر الأمن فيمن ذكر على الوجهين فيؤخذ من تكرار الإسناد ثلاثاً وتقديم المسند على المسند إليه الثالث ، ولولا إرادة الإختصاص لكان الكلام هكذا : الأمن للذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، ولو قيل : اللذين آمنوا … الأمن - لكان آكد ، وآكد منه أن يقال : الذين آمنوا … لهم الأمن . وآكد من هذا نص الآية . وأما كون المراد بالظلم هنا الظلم العظيم منه فقد يدل عليه تنكيره ، وأما جعل هذا الظلم العظيم خاصاً بالشرك بالله تعالى فلا يعلم من نص الآية ولكن السياق وموضوع الإيمان قد يدل عليه دلالة غير قطعية لغة كما علم مما تقدم . ولذلك فهم بعض الصحابة ( رضي الله عنهم ) منه العموم المطلق وهم من أهل اللسان ، فأخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام - وهو أعلم بمراد من أنزله عليه - بمعناه الدال على أنه من العام الذي أريد به الخاص . روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنما هو الشرك " وروي تفسير الظلم هنا بالشرك عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأبي بن كعب وحذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة والتابعين ( رضوان الله عليهم ) . { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } قيل إن الإشارة إلى كل ما تقدم في هذا السياق ، وقيل إلى الآية الأخيرة منه ، والأول أقوى وأظهر ، وأعم وأشمل ، والمراد بالحجة جنسها ، لا فرد من أفرادها ، أي وتلك الحجة التي تضمنها ما تقدم من المقال ، البعيدة المرمى في إثبات الحق وتزييف الضلال ، هي حجتنا البالغة ، التي لا تنال إلا بهدايتنا السابغة ، أعطيناها إبراهيم حجة على قومه مستعلية عليهم ، قاطعة لألسنتهم . { نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ } الدرجات في الأصل مراقي السلم وتوسع فيها فصارت تطلق على المراتب المعنوية في الخير والجاه والعلم والسيادة والرزق ، وقد قرأ الكوفيون درجات بالتنوين ، وقرأها الباقون بالإضافة إلى من نشاء ، ومعنى الأول نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكن على درجة منها ، ومعنى الثانية نرفع درجات من شئنا من أصحاب الدرجات حتى تكون درجته في كل فضيلة ومنقبة أرفع من درجة غيره فيها . وحكمة القراءتين ، إثبات المعنيين ، فالعلم النظري درجة كمال ، والحكمة العلمية والعملية درجتا كمال ، وفصل الخطاب ، وقوة العارضة في الحجاج من درجات الكمال ، والسيادة والحكم بالحق درجة كمال ، والنبوة والرسالة أعلى من كل هذه الدرجات ، لأنها تشتمل عليها ، وتزيد عنها ، وكل ذلك متفاوت بفضل الله فضل بعض أهله على بعض ، فهو سبحانه يؤتي الدرجات إبتداء بإعداده وبتوفيقه من يشاء للكسبي منها ، وإختصاصه من يشاء بالوهبي منها ، ثم هو الذي يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما ترتقي به درجته ، وبصرف موانع هذا الإرتقاء عنه ، وبإيتاء ذي الدرجة الوهبية ( النبوة ) ما لم يؤت غيره من أهلها من المناقب والآيات المنزليه والتكوينية وكثرة إهتداء الخلق بها { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ] وجملة ( نرفع ) إستئنافية مبنية أن ما آتى الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الحجة كان بإختصاصه بأعلى درجات النبوة الوهبية ، وما ترتب عليها من درجات الدعوة الكسبية ، وقوله تعالى بعد هذا : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله مبين لمنشأه ومتعلقه من صفات الله تعالى ، وقد وضع فيه اسم الرب مضافاً إلى ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام ، موضع نون العظمة على طريق الإلتفات ، تذكيراً منه تعالى لخاتم رسله بفضله عليه وتفضيله إياه ، برفعه درجات على جميع رسل الله ، فهو يقول له إن ربك الذي رباك وآواك ، وعلمك وهداك ، ورفع ذكرك بجوده وكرمه ، وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه ، حكيم في فعله وصنعه ، عليم بشؤون خلقه وسياسة عباده ، وسيريك شاهد ذلك عياناً في سيرتك مع قومك ، كما أراكه بياناً في ما كان من إبراهيم مع قومه . وقد زعم الرازي أن هذه الآيات تدل على أن معارف الأنبياء بربهم إستدلالية لا ضرورية ، وإلا لما إحتاج إبراهيم إلى الإستدلال ، وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا النظر والإستدلال بأحوال المخلوقات ، إذ لو أمكن تحصيلها بغير ذلك لما عدل عليه الصلاة والسلام إلى هذه الطريقة . وقد علم مما فسرنا به الآيات بطلان الحصر في هذين الزعمين وبطلان غيره من مزاعمه النظرية في هذا المقام . والحق أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بتعليم الوحي ، وعلم الأنبياء به ضروري لا نظري ، فقد علمهم به ما لم يكونوا يعلمون بنظرهم في المسائل ، وعلمهم ما يثبتونها به من الحجج العقلية والدلائل ، ولكن من طرق دعوتهم إلى ما هداهم إليه ، ومن إستدلالهم عليه بعد إعلامهم به ، ما هو كسبي لهم يؤدونه بنظرهم وإستدلالهم ، وقد إطلعنا على نظريات فلاسفة اليونان ، وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الكلام ، فوجدنا أكثرها في باب الإلهيات أوهاما ، وقد إعترف الرازي نفسه بذلك في آخر عمره ، وندم على ما فرط فيه ، ولنا بيتان في هذا المقام ، قلناهما في أيام تحصيل علم الكلام :