Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 103-112)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قصّة موسى عليه الصلاة والسلام هو موسى بن عِمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله ، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرّف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها . ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه ، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنّه قال : إنّما سمي موسى لأنّه ألقي بين ماء وشجر ، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى " . وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالاً محكماً وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفاً من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ، ويتركون إناثهم - وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لتعلم أين ينتهي ومن يلتقطه ، حتى لا يخفى عليها أمره ، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص . وقد ذكرت قصّته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أوّل السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصّته ، ومثلها في استقصاء قصّته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصّته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين ، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالإختصار ولا سيّما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على 130 مرّة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه . وسبب ذلك أن قصّته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث أنّه أوتي شريعة دينية دنيوية ، وكوّن الله تعالى به أمّة عظيمة ذات ملك ومدنية ، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى . قال الله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } هذه القصة معطوفة على جملة ما قبلها من القصص من قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً } [ الأعراف : 59 ] إلى قوله : { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] - القصة ، فهي نوع وهن نوع آخر ، والفرق بين النوعين أن تلك القصص متشابهة في تكذيب الأقوام فيها لرسلهم ومعاندتهم إياهم وإيذائهم لهم ، وفي عاقبة ذلك بإهلاك الله تعالى إياهم بعذاب الإستئصال . ولذلك عطف كلّ واحدة منهن على الأولى بدون إعادة ذكر الإرسال للإيذان بأنها نوع واحد فقال : { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [ الأعراف : 65 ] ، { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } [ الأعراف : 73 ] { وَلُوطاً } [ الأعراف : 80 ] { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] وقد أعاد في قصّة موسى ذكر الإرسال للتفرقة ولكن بلفظ البعث وهو أخص وأبلغ من لفظ الإرسال لأنّه يفيد معنى الإثارة والإزعاج إلى الشيء المهم ، ولم يذكر في القرآن إلاّ في بعث الموتى وفي الرسالة العامة أي بعث عدّة من الرسل ، وفي بعثة نبينا وموسى خاصة ، وكذا في بعث نقباء بني إسرائيل وبعث من انتقم منهم وعذبهم وسباهم حين أفسدوا في الأرض . فالتعبير بلفظ البعث هنا يؤكّد ما أفادته إعادة العامل من التفرقة بين نوعي الإرسال - أعني أن لفظه الخاص مؤكد لمعناه العام - كما يؤكّدها عطف هذه القصة على أولئك بثم التي تدل على الفصل والتراخي إما في الزمان وإما في النوع أو الرتبة والأخير هو المراد هنا . وبيانه أن هذا الإرسال وما ترتب عليه وأعقبه في قوم موسى مخالف لجملة ما قبله مخالفة تضاد فقد أنقذت به أمة من عذاب الدنيا وهو تعبيد فرعون وملئهِ لها وسومهم إياها أنواع الخزي والنكال ، واهتدت إلى عبادة الله تعالى وحده وإقامة شرعه فأعطاها في الدنيا ملكاً عظيماً ، وجعل منها أنبياء وملوكاً ، وأعدّ بذلك المهتدين منها لسعادة الآخرة الباقية فأين هذا الإرسال من ذلك الإرسال ، الذي أعقب أقوام أولئك الرسل في الدنيا عذاب الإستئصال ، وفي الآخرة ما هو أشد وأبقى من الخزي والنكال ؟ وقد يظهر للتراخي الزماني وجه باعتبار كون العطف على قصة نوح فإن ما عطف عليها من قصص ومن بعده قد جعل تابعاً ومتمماً لها بعدم إعادة العامل " أرسلنا " كما تقدّم آنفاً ، وإلاّ فإن شعيباً وهو آخر أولئك الرسل كان في زمن موسى وهو حموه ، وقد أوحى الله تعالى إلى موسى وهو لديه مع زوجه وأولاده في سيناء وأرسله منها إلى فرعون وملئهِ لإنقاذ بني إسرائيل من حكمه وظلمه . ويؤيد ذلك كله أن الله تعالى ذكر إرسال نوح في سورة يونس وقفى عليه بقوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ } [ يونس : 74 ] إلخ وقال بعد هذا { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ وَهَـٰرُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } [ يونس : 75 ] ومن المعلوم عقلاً واستنباطاً أن التراخي بين بعثة نوح ومن بعده من الرسل زماني إذ كان بعد تناسل الذين نجوا معه في السفينة وتكاثرهم وصيرورتهم شعوباً وقبائل ، وهذا الإجمال في سورة يونس في الرسل مبني على التفصيل الذي سبقه في سورة الأعراف التي نزلت قبلها أو هو أعمّ منه فإن الأمم قد كثرت بين نوح وموسى عليهما السلام وقد قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } [ النحل : 36 ] وقال لخاتم رسله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] وقد بينا حكمة تخصيص من ذكر في هذه السورة منهم بالذكر وكذا من ذكر في سورة الأنعام وغيرها . والمعنى ثمّ بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بآياتنا التي تدلّ على صدقه فيما يبلّغه عنّا إلى فرعون وملئهِ . أما فرعون فهو لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس الأوّلين و " الشاه " لملوك الإيرانيين في هذا العصر ، وكانوا يطلقون على فرعون لقب الملك أيضاً . واختلف في اشتقاق كلمة فرعون ومعناه ، وفي اسم فرعون موسى وزمنه ، وليس في الآثار المصريّة ما يبين هذا وإما ملؤه فهم أشراف قومه ورجال دولته ، ولم يقل إلى فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبنيّ إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شيء لأنهم كانوا مستعبدين أيضاً ولكن الظلم على بني إسرائيل الغرباء كان أشد ، وإنما بعث الله تعالى موسى لإنقاذ قومه بني إسرائيل من فرعون ورجال دولته وإقامة دين الله تعالى بهم في بلاد أجدادهم ، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر قومهم لأنهم كانوا تبعاً لهم بل كان هذا شأن جميع الأقوام مع ملوكهم المستبدين الجائرين ، وقد علم الله تعالى أن فرعون وملأه لا يؤمنون بموسى وأن قومه تبع له لا اختيار لهم وأكثرهم مقلدون ولذلك قتل السحرة لما آمنوا بموسى ، وإنما آمنوا لأنهم كانوا علماء مستقلي العقل أصحاب فهم ورأي ، وكان السحر من علومهم وفنونهم الصناعية التي تتلقى بالتعليم وليس كالآيات التي جاء بها موسى فإنها من خوارق العادات التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى . وقد أقام الله تعالى الحجة بآيات موسى على فرعون وملئهِ { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبراً وجحوداً فكان عليهم إثمّ ذلك وإثمّ قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم ، كما كان يكون لهم مثل أجورهم لو آمنوا بالتبع لهم ، وجملة القول إن موسى عليه السلام كان مرسلاً إلى قومه بني إسرائيل بالذات وإلى فرعون وملئهِ بالتبع ، ولك أن تقول إن الإرسال إلى بني إسرائيل مقصد وإلى فرعون وملئهِ وسيلة . وقد عدي الظلم في الجملة بالباء لتضمينه معنى الكفر فصار جامعاً للمعنيين ، ولا يصحّ تفسيره بأحدهما إذ لو أريد أحدهما لعبر به ولم يكن للتضمين فائدة . وقيل إن الباء في قوله فظلموا بها للسببية أي فظلموا أنفسهم وقومهم بسبب هذه الآيات ظلماً جديداً وهو ما ترتب على الجحود من العذاب بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ثمّ بالغرق كما سيجيء في محله . والأوّل أظهر وأبلغ على أنّه لا تنافي بينهما في المعنى . { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي فانظر أيها الرسول - أو أيّها السامع والتالي بعين العقل والفكر كيف كان عاقبة فرعون وملئهِ المفسدين في الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله وظلموا بها عملاً بمقتضى فسادهم . وهذا تشويق لتوجيه النظر لما سيقصه تعالى من عاقبة أمرهم إذ نصر عبده ورسوله موسى عليهم وهو فرد من شعب مستضعف مستعبد لهم ، وهم أعظم أهل الأرض دولة وصولة وقوّة ، نصره عليهم أوّلاً بإبطال سحرهم وإقناع علمائهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من الله تعالى ، ثمّ نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثمّ بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن اتبعه من ملئهِ وجنوده . وهذه عبرة ظاهرة وحجّة قائمة مدّة الدهر ، على القائلين إنّما الغلب للقوّة المادية على الحق ، ولا سيّما المغرورين بعظمة دول أوربة الظالمة لمن استضعفتهم من أهل الشرق ، وعلى أولئك الباغين بالأولى ، فأولى لهم أولى ، ثمّ أولى لهم أولى . بعد هذا التشويق والتنبيه قص تعالى علينا ما كان من مبدأ أمر أولئك المفسدين الذي انتهى إلى تلك العاقبة فقال : { وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } نبدأ بما في هذه الآية من المباحث اللفظية والقراءات ونكت البلاغة لتفهم عبارتها كما يجب ويكون سياق القصة بعد ذلك متصلا بعضه ببعض ، وفيها بحثان دقيقان أحدهما بدء القصة بالعطف وكونه بالواو ، والثاني قول موسى ( ع . م ) { حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } لم أر من تكلّم على وجه بدء الآية بالعطف وبيان المعطوف عليه والتفرقة بينها وبين مثلها من سياق القصة في سورة طه إذ قال بعد أمر موسى بالذهاب مع أخيه هارون إلى فرعون وتبليغه الدعوة مبيناً كيف كان امتثالهما للأمر { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [ طه : 48 ] فجاء به مفصولاً على وجه الإستئناف البياني غير موصول بالواو ولا بالفاء ، ومثله في الفصل قوله تعالى في القصص التي قبل قصّة موسى من هذه السورة : { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } [ الأعراف : 65 ] وكذا ما بعده من قصّة صالح ولوط وشعيب ، ولم يقل فقال أو وقال ولكنّه عطف تبليغ نوح ( ع م ) قبلها بالفاء : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } [ الأعراف : 59 ] الآية وقد بينا الفرق بين هذا الوصل وما بعده من الفصل في قصّة هود عليه السلام . والحاصل أن لدنيا هنا عطفاً بالفاء في قصة نوح وعطفاً بالواو في قصّة موسى وفصلاً بيانياً في القصص التي بينهما يشبهه الفصل في قصّة موسى في سور أخرى وله نظائر كثيرة . فأما الأوّل فعطف التبليغ فيه على الإرسال بالفاء لإفادة التعقيب وعدم جواز تأخير تبليغ الدعوة . وأما الفصل في القصص بعده فلأنه لما صار هذا معلوماً وكان ما جرى من أمر قوم نوح عبرة لقوم هود وكانا معاً عبرة لقوم صالح وهلم جرا - حسن في كلّ قصّة من هذا الفصل على أنّه جواب لسؤال مقدّر ، كأن قائلاً يقول في كل منها ماذا كان من أمر هذا النبيّ مع قومه ؟ كما تقدّم بيانه . وأما الأخير الذي نحن بصدده فوجه العطف فيه وكونه بالواو هو أنّه قد قفي في قصّة موسى هنا على ذكر إرساله إلى فرعون وملئهِ بذكر نتيجة هذا الإرسال وعاقبته بالإجمال وهو قوله تعالى : { فَظَلَمُواْ بِهَا } إلخ ، وبدئت القصّة بعده بتفصيل ذلك الإجمال ومقدمات تلك النتيجة ، فكان المناسب أن يعطف عليها لا أن يستأنف استئنافاً بيانياً لما هو ظاهر من الإشتراك بين المقدمات والنتيجة ، أو بين التفصيل والإجمال - وأن يكون العطف بالواو لا بالفاء لأن الفاء تدّل على التعقيب والترتيب وهو لا يصحّ هنا لأنه يقتضي أن تكون المقدمات متأخرة عن النتيجة وذلك باطل بالبداهة ، فتعين أن يكون العطف بالواو ، وهذه دقّة في البلاغة لا يهتدي إلى مثلها إلاّ غوّاصو بحر البيان ، ولا يكادون يجدون فوائدها إلاّ في أسلوب القرآن ، وأعجب للإمام الزمخشري كيف غفل عنها إذ لم يتعرّض للمسألة من أصلها . وحكمة بدء القصّة بذكر نتيجتها والعبرة المقصودة منها ، وهي والله أعلم أن تكون متّصلة بما يناسبها من العبرة في القصص التي قبلها ، من حيث إهلاك معاندي الرسل عليهم السلام جحوداً واستكباراً ، وقد ذكرت هذه العبرة بعد جملة تلك القصص لتشابهها مبدأ وغاية كما تقدّم ، وقصّة موسى ( ص ) طويلة فهي تساويها في هذا من حيث رسالته إلى فرعون وملئهِ فقط . وفيها عبر أخرى فيما تشابه به أمر خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم من حيث إرساله إلى بني إسرائيل وإرسال محمد خاتم النبيين إلى العرب وسائر البشر وتوفيق الله قومهما للإيمان ونشر شريعتهما فيمن أرسلا إليهم - إلى آخر ما بيناه آنفاً في نكتة عطفها على ما قبلها بثم ونكتة التعبير ببعثنا ، ولذلك ذكر في أواخرها تبشير موسى وكذا عيسى بالنبي الأمي الخاتم محمد صلوات الله عليهم أجمعين . وأمّا قوله : { حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } على قراءة الجمهور فقد جاء على غير المشهور عن العرب في هذه الكلمة إذ يقولون : أنت حقيق بكذا - وأنت حقيقة بأن تفعلي كذا ، كما يقولون أنت جدير به وخليق به ، ولم ينقل عنهم إستعماله بعلى ، ولكن ورد في كلامهم إستعمال " على " بمعنى الباء كقولهم : إركب على اسم الله - وهو الذي اعتمده ابن هشام في المغني في تخريج الآية عند ذكر المعنى السابع من معاني " على " الجارة وأيّده بقراءة أبي بن كعب ( رضي الله عنه ) { حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لاَّ أَقُولَ } ومثلها قراءة عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) { حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لاَّ أَقُولَ … } لأن المتبادر أن الجار المحذوف من أن هو الباء وحذف الجار من أن الخفيفة وأن المشددة قياسي معروف . وقد سبقه إلى هذا الإختيار بعض المفسّرين : قال الحافظ ابن كثير في الجملة عن بعضهم : معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلاّ الحق ، أي جدير بذلك وحري به قالوا والباء وعلى يتعاقبان يقال رميت بالقوس وعلى القوس وجاء على حال حسنة وبحال حسنة . وقال بعض المفسّرين معناه حريص على أن لا أقول على الله إلاّ الحقّ اهـ والمراد من القول الثاني أن حقيقاً قد ضمن معنى الحرص وهو منقول عن الفراء النحوي المفسّر المشهور ، وقد بيّنا مراراً أن التضمين جمع بين المعنى الأصلي للكلمة والمعنى الذي أفادته التعدية فيكون المراد من العبارة : إني رسول من ربّ العالمين حقيق وجدير بأن لا أقول على الله إلاّ الحقّ وحريص على ذلك فلن أخلّ به . وما قيل من أنّه من باب قلب الحقيقة إلى المجاز أو من باب الإغراق في وصف موسى نفسه بالصدق حتى جعل قول الحق كأنه يسعى ليكون هو قائله والقائم به ولا يرضى أن ينطق به غيره - فلا يخلو من تكلّف وإن قال الزمخشري في الأخير أنّه هو الأوجه الأدخل في نكت القرآن . وقرأ نافع { حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي واجب وحقّ عليّ أن لا أخبر عنه تعالى إلاّ بما هو حقّ وصدّق لما أعلم من عزَّ جلاله وعظيم شأنه - كما قال الحافظ بن كثير . إذا علم هذا فنقول في تفسير الآيات . بلغ موسى ( ص ) فرعون أنّه رسول من ربّ العالمين كلّهم - أي سيّدهم ومالكهم ومدبّر جميع أمورهم - وأنّه بمقتضى هذه الرسالة لا يقول على الله إلاّ الحقّ إذ لا يمكن أن يبعث الله رسولاً يكذب عليه ، وهو الذي بيده ملكوت كلّ شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، فهو حقيق بالصدق والتزام الحق في التبليغ عن ربّه ومعصوم من الكذب والخطأ فيه ، وشديد الحرص عليه بما له من الكسب والإختيار - فاشتمل كلامه على عقيدة الوحدانية وهي أن للعالمين كلهم رباً واحداً ، وعقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة في التبليغ والهداية ، وقد ناقشه فرعون البحث في وحدانية الربوبية العامة لله تعالى كما هو مبين في سورة " الشعراء " فوصفه موسى بما يليق به تعالى ويوضح المعنى المراد في أجوبة عدة أسئلة أوردها عليه ، وقد سأله هو وهارون عن ربهما في سياق سورة طه ، وجاء فيما حكاه الله تعالى عنهما فيها ذكر البعث والجزاء . وكان قدماء المصريين يؤمنون بالبعث كما يؤمنون بالرّب الإله الغيبي : ولكنّهم شابوا العقيدتين بنزغات الشّرك وبعض الخرافات الناشئة عنه . فعلم من هذا أن موسى قد بلغ فرعون وملأه أصول الإيمان الثلاثة : التوحيد والرسالة والبعث والجزاء ، وفي كلّ سياق من قصّة موسى المكرّرة في عدّة سور فوائد في ذلك وفي غيره لا توجد في الأخرى . - وأبسطها وأوسعها بياناً هذه السورة ( الأعراف ) وطه والشعراء والقصص - وإنّما التكرار لجملة القصّة لا التفصيل لها كما سيأتي . ثمّ ذكر أن الله تعالى أيّده ببينة تدل على صدقه في دعواه وتبليغه عنه ورتّب عليه ما هو مقصود له بالذات أو بالقصد الأوّل فقال حكاية عنه : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي قد جئتكم ببيّنة عظيمة الشأن ، ظاهرة الحجة في بيان الحق ، فتنكير البينة للتفخيم ، والتصريح بكون هذه البينة المعجزة من عند ربهم نص على أنهم مربوبون وأن فرعون ليس ربا ولا إلهاً ، وعلى أنّها أي البينة ليست من كسب موسى ولا ممّا يستقل به عليه السلام - وبنى على هذا قوله فأرسل معي بني إسرائيل أي بأن تطلقهم من أسرك ، وتعتقهم من رقّ قهرك ، ليذهبوا معي إلى دار غير ديارك ، ويعبدوا فيها ربّهم وربّك . وبم أجاب فرعون ؟ { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ } أي قال فرعون لموسى عليه السلام : إن كنت جئت مصحوباً ومؤيداً بآية من عند من أرسلك كما تدعي - والشرط بأن يدل على الشك في مضمون الجملة الشرطية أو الجزم بنفيها - { فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فاءتني بها بأن تظهرها لدي إن كنت من أهل الصدق ، الملتزمين لقول الحقّ ، وهذا شكّ آخر في صدقه ، بعد الشك في مجيئه بالآية . { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التي كانت بيمينه أمام فرعون فإذا هي ثعبان - وهو الذكر العظيم من الحيات - مبيّن أي ظاهر بين لإخفاء في كونه ثعباناً حقيقياً يسعى وينتقل من مكان إلى آخر تراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنها تسعى كما سيأتي من أعمال سحرة فرعون ونزع يده أي أخرجها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه بعد إلقاء العصا فإذا هي بيضاء ناصعة البياض تتلألأ للناظرين إليه وهم فرعون وملؤه أو لكلّ من ينظر ، والنظارة هم الذين يجتمعون عادة لرؤية الأمور الغريبة . وقد وصّف الله تعالى بياضها في طه والنمل والقصص بأنّه ( من غير سوء ) أي من غير علّة كالبرص . وفي التفسير المأثور روايات في صفة الثعبان الذي تحوّلت إليه عصا موسى ( ع . م ) وفي تأثيره لدى فرعون ما هي إلاّ من الإسرائيليات التي لا يصحّ لها سند ولا يوثق منها بشيء ، ومنها قول وهب بن منبه أن العصا لما صارت ثعباناً حملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً وقام فرعون منهزماً . قال ابن كثير : رواه ابن جرير والإمام أحمد وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم ، اهـ وقد اقتصرت على هذه الرواية لأقول إنني أرجح تضعيف عمرو بن الفلاس لوهب على توثيق الجمهور له بل أنا أسوأ فيه ظنّاً على ما روي من كثرة عبادته ، ويغلب على ظني أنّه كان له ضلع مع قومه الفرس الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب ويدسون لهم من باب الرواية ومن طريق التشيع فقد ذكر الإمام أحمد أن والده منبهاً فارسي أخرجه كسرى إلى اليمن فأسلم في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأن إبنه وهباً كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها وهاهنا موضع الشبهة في الغرائب المروية عنه وهي كثيرة - ومثله عندي كعب الأحبار الإسرائيلي - كلاهما كان تابعياً كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول ، وقومهما كانوا يكيدون للأمّة الإسلامية العربيّة التي فتحت بلاد الفرس وأجلت اليهود من الحجاز ، فقاتل الخليفة الثاني فارسي مرسل من جمعية سرية لقومه ، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله بن سبأ اليهودي . وإلى جمعية السبئيين وجمعيات الفرس ترجع جميع الفتن السياسية وأكاذيب الرواية في الصدر الأوّل . { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } . فصل في حقيقة السحر وأنواعه كان السحر فناً من فنون قدماء المصريين يتعلمونه في مدارسهم العالية مع سائر علوم الكون ، وكان كذلك عند أقرانهم من البابليين ، وكذا الهنود وغيرهم ، ولا يزال يؤثر عن الوثنيين منهم أعمال سحرية غريبة اهتدى علماء الإنكليز وغيرهم من الإفرنج إلى تعليل بعضها أو كشف حقيقته ولا يزالون يجهلون تعليل بعض . والمعنى الجامع للسحر أنّه أعمال غريبة من التلبيس والحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم بأسبابها فمتى عرف سبب شيء منها بطل إطلاق اسم السحر عليه ، ولذلك كان الأقوام الجاهلون يعدون آيات الرسل الكونية التي يؤيّدهم الله تعالى بها من قبيل السحر ويجعلون هذا مانعا من دلالتها على صدقهم وتأييد الله تعالى لهم ، لأن السحر صنعة تتلقى بالتعليم والتمرين فيمكن لكلّ أحد أن يكون ساحراً إذا أتيح له من يعلمه السحر . ومن المعلوم في التاريخ القديم والحديث أن السحر لا يروج إلاّ بين الجاهلين وله المكانة المهيبة المخيفة بين أعرق القبائل الهمجية ، ولا يكاد يوجد في البلاد التي ينتشر فيها العلم والعرفان بل يسمى أهله بأسماء أخرى كالمشعوذين والمحتالين والدجالين . وقد سبق لنا بيان حقيقة السحر في قصّة هاروت وماروت من جزء التفسير الأوّل وفي بعض مجلدات المنار وخلاصته أنّه ثلاثة أنواع : أحدها : ما يعمل بالأسباب الطبيعية من خواص المادة المعروفة للعامل المجهولة عند من يسحرهم بها ومنها الزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيهم كما سيأتي . ولو شاء علماء الطبيعة والكيمياء في هذا العصر أن يجعلوا أنفسهم سحرة في بلاد أواسط أفريقية الهمجية وأمثالها من البلاد الجاهلة التي يروّج فيها السحر العتيق لأروهم من عجائب الكهرباء وغيرها ما يخضعونهم به لعبادتهم لو ادعوا الإلوهية فيهم ، دع دعوى النبوة أو الولاية . وقد اجتمع السحرة في بعض هذه البلاد على بعض السياح الغربيين ليرهبوهم بسحرهم وكانوا في مكان بارد والفصل شتاء فأخذ بعض هؤلاء السياح قطعة من الجليد وجعلها بشكل عدسي بقدر ما يرى من قرص الشمس وقال لهم أنني أعلم منكم بالسحر وإنني أقدر به أن أجعل في يدي شمساً كشمس السماء ثمّ وجّه عدسيته إلى الشمس عند بزوغها واكتمال ضوئها فصارت بانعكاس النور فيها كالشمس لم يستطع السحرة أن يثبتوا نظرهم إليها فخضعوا له ولمن معه وكفّوا شرّهم عنهم خوفاً منهم . النوع الثاني : الشعوذة التي مدار البراعة فيها على خفة اليدين في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض ، وأراءة بعضها بغير صورها ، وغير ذلك ممّا هو معروف في هذه البلاد وغيرها من بلاد الحضارة بكثرة المكتسبين بها من الوطنيين والغرباء . ولم يبق أحد في هذه البلاد يسميها سحراً . النوع الثالث : ما مداره على تأثير الأنفس ذوات الإرادة القويّة في الأنفس الضعيفة ذات الأمزجة العصبية القابلة للأوهام والإنفعالات التي تسمّى في عرف علماء هذا العصر بالهستيرية ، وهذا النوع هو الذي قيل إن أصحابه يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ، ومنهم الذين يكتبون الأوفاق والطلسمات للحب والبغض وغير ذلك . ومَنْ يقول إن للحروف خواص وتأثيرات ذاتية يخرج عمل الأوفاق والنشرات وما في معناها من السحر . ومن هذا النوع ما استحدث في هذا العصر من التنويم المغناطيسي وأخباره مشهورة . وممّا سبق لنا بيانه في هذا الباب تخطئة من قال من المتكلّمين إن السحر من خوارق العادات الذي هو الجنس الجامع لمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ، وفاتهم أن السحر صناعة تتلقى بالتعليم كما ثبت بنصّ القرآن وبالإختبار الذي لم يبق فيه خلاف بين أحد من علماء الكون في هذا العصر . ولعلمائنا كلام كثير في السحر بعضه صحيح وبعضه أوهام وأننا ننقل هنا كلام بعض كبار محققي المفسّرين فيه . ومن أخصره وأفيده قول ابن فارس : هو إخراج الباطل في صورة الحقّ . وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته لغريب القرآن ما نصّه : تعريف السحر ومأخذه من اللغة السحر طرف الحلقوم والرئة وقيل انتفخ سحره وبعير سحر عظيم السحر والسحارة ( بالضم ) ما ينزع من السحر عند الذبح فيرمى به وجعل بناؤه بناء النفاية والسقاطة وقيل منه اشتقّ السحر وهو إصابة السحر . والسحر يقال على معان . الأوّل : خداع وتخييلات لا حقيقة لها نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يد وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للإسماع وعلى ذلك قوله تعالى : { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } [ الأعراف : 116 ] وقال : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ } [ طه : 66 ] وبهذا النظر سموا موسى عليه السلام ساحراً فقالوا : { يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } [ الزخرف : 49 ] . الثاني : استجلاب معاونة الشياطين بضرب من التقرّب إليهم كقوله تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221 - 222 ] وعلى ذلك قوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } [ البقرة : 102 ] . الثالث : ما يذهب إليه الإغتام وهو اسم لفعل يزعمون أنّه من قوته يغير الصور والطبائع فيجعل الإنسان حماراً ولا حقيقة لذلك عند المحصلين . وقد تصوّر من السحر تارة حسنة فقيل " إن من البيان لسحرا " وتارة دقّة فعله حتى قالت الأطباء الطبيعة ساحرة وسمّوا الغذاء سحراً من حيث أنّه يدّق ويلطف تأثيره اهـ . وقد عقد الشيخ أبو بكر أحمد علي الرازي المعروف بالجصاص من أئمة الحنفية في القرن الرابع باباً خاصّاً من تفسيره الجليل ( أحكام القرآن ) لبيان معنى السحر وحكم الساحر عند كلامه على قوله تعالى : { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } [ البقرة : 102 ] قال في أوله " الواجب أن نقدم القول في السحر لخفائه على كثير من أهل العلم فضلاً عن العامة ثم نعقبه بالكلام في حكمه في مقتضى الآية في المعاني والأحكام فنقول : " إن أهل اللغة يذكرون أن أصله في اللغة لما لطف وخفي سببه والسحر عندهم بالفتح هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه ، قال لبيد : @ أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب @@ " قيل فيه وجهان : نعلل ونخدع كالمسحور والمخدوع - والآخر نغذى . وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء . وقال آخر : @ فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الإنام المسحر @@ " وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأوّل ، ويحتمل أيضاً أنّه أراد بالمسحر أنّه ذو سحر . والسحر الرئة وما يتعلّق بالحلقوم ، وهذا يرجع إلى معنى الخفاء أيضاً . ومنه قول عائشة : توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري . وقوله تعالى : { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } [ الشعراء : 153 ] يعني من المخلوق الذي يطعم ويسقى . ويدلّ عليه قوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ الشعراء : 186 ] وكقوله تعالى : { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ } [ الفرقان : 7 ] ويحتمل أنّه ذو سحر مثلنا . وإنّما يذكر السحر في مثل هذه المواضع لضعف هذه الأجساد ولطافتها ورقتها ، وبها مع ذلك قوام الإنسان - فمَنْ كان بهذه الصفة فهو ضعيف محتاج - وهذا هو معنى السحر في اللغة ثمّ نقل هذا الإسم إلى كلّ أمر خفي سببه وتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع . ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله . وقد أجرى مقيداً فيما يمتدح ويحمد كما روي " إن من البيان لسحراً " . ( وهاهنا ذكر الجصاص روايته لهذا الحديث وهو في الصحيح وأطال الكلام عليه في زهاء ورقة كبيرة ذكر في أثنائه سحر سحرة موسى لأعين الناس وتخييلهم أن حبالهم وعصيهم تسعى ولم تكن تسعى ، وذكر ما قيل من حيلتهم في ذلك بوضع الزئبق فيها وتحريك النار الخفية للزئبق فكان سبب حركتها ، وسيأتي نقل ذلك عنه قريباً . ثمّ ذكر قصّة تاريخية في أصل السحر ببابل وقفى عليها ببيان أنواعه فقال ) . كلام الجصاص في السحر وأنواعه " وإذ قد بيّنا أصل السحر في اللغة وحكمه عند الإطلاق والتقييد فلنقل في معناه في التعارف والضروب الذي يشتمل عليها هذا الإسم وما يقصد به كلّ فريق من منتحليه ، والغرض الذي يجري إليه مدعوه ، فنقول : وبالله التوفيق إن ذلك ينقسم إلى أنحاء مختلفة . " ( فمنها سحر أهل بابل ) الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } [ البقرة : 102 ] وكانوا قوماً صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة . ويعتقدون أن حوادث العالم كلّها من أفعالها ، وهم معطلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم ، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه فدعاهم إلى الله تعالى وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به وأقام عليهم به الحجة من حيث لم يمكنهم دفعه ، ثمّ ألقوه في النار فجعلها الله برداً وسلاماً . ثمّ أمره الله تعالى بالهجرة إلى الشام . وكان أهل بابل وإقليم العراق والشام ومصر والروم على هذه المقالة إلى أيام بيوراسب الذي تسميه العرب الضحاك . وأن أفريدون وكان من أهل دنباوند استجاش عليه بلاده وكاتب سائر من يطيعه وله قصص طويلة حتى أزال ملكه وأسره . وجهال العامة والنساء عندنا يزعمون أن أفريدون حبس بيوراسب في جبل دنباوند العالي على الجبال وأنّه حي هناك مقيّد ، وأن السحرة يأتونه هناك فيأخذون عنه السحر ، وأنّه سيخرج فيغلب على الأرض وأنّه هو الدجال الذي أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم وحذرناه ، وأحسبهم أخذوا ذلك عن المجوس . وصارت مملكة إقليم بابل للفرس ، فانتقل بعض ملوكهم إليها في بعض الأزمان فاستوطنوها ، ولم يكونوا عبدة أوثان ، بل كانوا موحدين مقرين بالله وحده ، إلاّ أنهم مع ذلك يعظمون العناصر الأربعة الماء والنار والأرض والهواء لما فيها من منافع الخلق ، وأن بها قوام الحيوان ، وإنما حدثت المجوسية فيهم بعد ذلك في زمان كشتاسب حين دعاه زرادشت فاستجاب له على شرائط يطول شرحها ، وإنّما غرضنا في هذا الموضع الإبانة عما كانت عليه بابل ولما ظهرت . الفرس على هذا الإقليم كانت تتدين بقتل السحرة وإبادتها ولم يزل ذلك فيهم ومن دينهم بعد حدوث المجوسية فيهم وقبله إلى أن زال عنهم الملك . " وكانت علوم أهل بابل قبل ظهور الفرس عليهم الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم ، وكانوا يعبدون أوثاناً قد عملوها على أسماء الكواكب السبعة وجعلوا لكلّ واحد منها هيكلاً فيه صنمه ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب إعتقاداتهم من موافقة ذلك للكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل خير أو شر ، فمن أراد شيئاً من الخير والصلاح بزعمه يتقرّب إليه بما يوافق المشتري من الدخن والرقى والعقد والنفث عليها ، ومن طلب شيئاً من الشر والحرب والموت والبوار لغيره تقرّب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك . ومَنْ أراد البرق والحرق والطاعون تقرّب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من ذلك من ذبح بعض الحيوانات . وجميع تلك الرقى بالنبطية تشتمل على تعظيم تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شر ومحبة وبغض فيعطيهم ما شاؤا من ذلك فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاؤا في غيرهم من غير ممّاسة ولا ملامسة سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه . فمن العامّة مَنْ يزعم أنّه يقلب الإنسان حماراً أو كلباً ثمّ إذا شاء أعاده ، ويركب البيضة والمكنسة والخابية ويطير في الهواء فيمضي من العراق إلى الهند وإلى ما شاء من البلدان ثم يرجع من ليلته . " وكانت عوامهم تعتقد ذلك لأنهم كانوا يعبدون الكواكب وكل ما دعا إلى تعظيمها اعتقدوه . وكانت السحرة تحتال في خلال ذلك بحيل تموه بها على العامة إلى اعتقاد صحته بأن يزعم أن ذلك لا ينفذ ولا ينتفع به أحد ولا يبلغ ما يريد إلا مَنْ أعتقد صحّة قولهم وتصديقهم فيما يقولون . " ولم تكن ملوكهم تعترض عليهم في ذلك بل كانت السحرة عندها بالمحل الأجل لما كان لها في نفوس العامّة من محل التعظيم والإجلال ، ولأن الملوك في ذلك الوقت كانت تعتقد ما تدعيه السحرة للكواكب ، إلى أن زالت تلك الممالك . ألاّ ترى أن الناس في زمن فرعون كانوا يتبارون بالعلم والسحر والحيل والمخاريق ولذلك بعث إليهم موسى عليه السلام بالعصا والآيات التي علمت السحرة أنها ليست من السحر في شيء ، وأنها لا يقدر عليها غير الله تعالى ، فلما زالت تلك الممالك وكان من ملكهم بعد ذلك من الموحدين يطلبونهم ويتقربون إلى الله تعالى بقتلهم كانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سراً كما يفعله الساعة كثير ممن يدعي ذلك مع النساء والأحداث الأغمار والجهال الحشو . " وكانوا يدعون من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم والإعتراف بصحته . والمصدق لهم بذلك يكفر من وجوه : الأوّل : التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آلهة . الثاني : إعترافه بأن الكواكب تقدر على ضره ونفعه . الثالث : إن السحرة تقدر على مثل معجزات الأنبياء عليهم السلام . فبعث الله إليهم ملكين يبينان للناس حقيقة ما يدعون ، وبطلان ما يذكرون ، ويكشفان لهم ما به يموهون ، ويخبر أنهم بمعاني تلك الرقى وأنها شرك وكفر ، وبحيلهم التي كانوا يتوصلون بها إلى التمويه على العامة ، ويظهر أن لهم حقائقها ، وينهيانهم عن قبولها والعمل بها ، بقولهما ( إنّما نحن فتنة فلا تكفر ) فهذا أصل سحر بابل ومع ذلك فقد كانوا يستعملون سائر وجوه : السحر والحيل التي نذكرها ويموهون بها على العامة ويعزونها إلى فعل الكواكب لئلاّ يبحث عنها ويسلمها لهم . " فمن ضروب السحر كثير من التخيلات التي مظهرها على خلاف حقائقها فمنها : ما يعرفه الناس بجريان العادة بها وظهورها ومنها ما يخفى ويلطف ، ولا يعرف حقيقته ومعنى باطنه إلاّ من تعاطى معرفة ذلك ، لأن كل علم لا بد أن يشتمل على جلي وخفي وظاهر وغامض ، فالجلي منه يعرفه كلّ من رآه وسمعه من العقلاء والغامض الخفي لا يعرفه إلاّ أهله ومن تعاطى معرفته وتكلّف فعله والبحث عنه وذلك نحو ما يتخيّل راكب السفينة إذا سارت في النهر فيرى أن الشط بما عليه من النخل والبنيان سائر معه ، وكما يرى القمر في مهب الشمال يسير للغيم في مهب الجنوب ، وكدوران الدوّامة فيها الشامة فيراها كالطوق المستدير في أرجائها ، وكذلك يرى هذا في الرحى إذا كانت سريعة الدوران ، وكالعود في طرفه الجمرة إذا أداره مديره رأى تلك النار التي في طرفه كالطوق المستدير ، وكالعنبة التي يراها في قدح فيه ماء كالخوخة والإجاصة عظماً ، وكالشخص الصغير يراه في الضباب عظيماً جسيماً ، وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيماً فإذا فارقته وارتفعت صغرت ، وكما يرى المرئي في الماء منكسراً أو معوجاً ، وكما يرى الخاتم إذا قربته من عينك في سعة حلقة السوار . ونظائر ذلك كثيرة من الأشياء التي تتخيل على غير حقائقها فيعرفها عامة الناس . " ومنها ما يلطف فلا يعرفه إلاّ من تعاطاه وتأمله كخيط السحارة الذي يخرج مرّة أحمر ومرّة أصفر ومرّة أسود . ومن لطيف ذلك ودقيقه ما يفعله المشعوذون من جهة الحركات وإظهار التخيلات التي تخرج على غير حقائقها حتى يريك عصفوراً معه أنّه قد ذبحه ثمّ يريكه وقد طار بعد ذبحه وإبانة رأسه وذلك لخفة حركته ، والمذبوح غير الذي طار لأنه يكون معه إثنان قد خبأ أحدهما وأظهر الآخر ويخبأ لخفة الحركة المذبوح ويظهر الذي نظيره ، ويظهر أنه قد ذبح إنساناً ، وأنّه قد بلع سيفاً معه وأدخله في جوفه ، وليس لشيء منه حقيقة . " ومن نحو ذلك ما يفعله أصحاب الحركات للصور المعمولة من صفر أو غيره فيرى فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر وينصرف بحيل قد أعدت لذلك ، وكفارس من صفر على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسّه أحد ولا يتقدّم إليه . " وقد ذكر الكلبي أن رجلاً من الجند خرج ببعض نواحي الشام متصيداً ومعه كلب له وغلام فرأى ثعلباً فأغرى به الكلب ، فدخل الثعلب ثقباً في تل هناك ودخل الكلب خلفه فلم يخرج فأمر الغلام أن يدخل فدخل وانتظره صاحبه فلم يخرج فوقف متهيئاً للدخول ؟ فمر به رجل فأخبره بشأن الثعلب والكلب والغلام وأن واحداً منهم لم يخرج وأنّه متأهب للدخول ، فأخذ الرجل بيده فأدخله إلى هناك فمضيا إلى سرب طويل حتى أفضى بهما إلى بيت قد فتح له ضوء من موضع ينزل إليه بمرقاتين فوقف به على المرقاة الأولى حتى أضاء البيت حينا ثمّ قال له : أنظر ، فنظر فإذا الكلب والرجل والثعلب قتلى ، وإذا في صدر البيت رجل واقف مقنع في الحديد وفي يده سيف فقال له الرجل : أترى هذا لو دخل إليه هذا المدخل ألف رجل لقتلهم كلّهم ، فقال : وكيف ؟ قال : لأنّه قد رتب وهندم على هيئة متى وضع الإنسان رجله على المرقاة الثانية للنزول تقدّم الرجل المعمول في الصدر فضربه بالسيف الذي في يده ، فإياك أن تنزل إليه . فقال : فكيف الحيلة في هذا ؟ قال : ينبغي أن تحفر من خلفه سرباً يفضي بك إليه ، فإن وصلت إليه من تلك الناحية لم يتحرك . فاستأجر الجندي أجراء وصناعاً حتى حفروا سرباً من خلف التل فأفضوا إليه فلم يتحرك ، وإذا رجل معمول من صفر أو غيره قد ألبس السلاح وأعطي السيف ، فقلعه ، ورأى باباً آخر في ذلك البيت ففتحه فإذا هو قبر لبعض الملوك ميت على سرير هناك ، وأمثال ذلك كثيرة جداً . " ومنها الصور التي يصوّرها مصوّر الروم والهند حتى لا يفرق الناضر بين الإنسان وبينها ، ومن لم يتقدّم له علم أنّها صورة لا يشك في أنّها إنسان ، وحتى تصوّرها ضاحكة أو باكية وحتى يفرّق فيها بين الضحك من الخجل والسرور ، وضحك الشامت . " فهذه الوجوه : من لطيف أمور التخاييل وخفيها ، وما ذكرناه قبل من جليها . وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب على النحو الذي بينا من حيلهم في العصي والحبال . والذي ذكرناه من مذاهب أهل بابل في القديم وسحرهم ووجوه : حيلهم بعضه سمعناه من أهل المعرفة بذلك ، وبعضه وجدناه في كتب قد نقلت حديثاً من النبطية إلى العربيّة منها كتاب في ذكر سحرهم وأصنافه ووجوهه وكلّها مبنية على الأصل الذي ذكرناه من قربانات الكواكب وتعظيمها وخرافات معها لا تساوي ذكرها ولا فائدة فيها . ( وضرب آخر ) من السحر وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين وطاعاتهم لهم بالرقى والعزائم ، ويتوّصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور ومواطأة قوم قد أعدوهم لذلك ، وعلى ذلك كان يجري أمر الكهان من العرب في الجاهلية ، وكانت أكثر مخاريق الحلاج من باب المواطآت ولولا أن هذا الكتاب لا يحتمل استقصاء ذلك لذكرت منها ما يوقف على كثير من مخاريقه ومخاريق أمثاله وضرر أصحاب العزائم ، وفتنتهم على الناس غير يسير ، وذلك أنهم يدخلون على الناس من باب أن الجن إنّما تطيعهم بالرقى التي هي أسماء الله تعالى فإنهم يجيبون بذلك من شاؤا ، ويخرجون الجن لمن شاؤا ، فتصدّقهم العامة على اغترار بما يظهرون من انقياد الجن لهم بأسماء الله تعالى التي كانت تطيع بها سليمان بن داود عليه السلام ، وأنهم يخبرونهم بالخبايا وبالسرق . " وقد كان المعتضد بالله مع جلالته وشهامته ووفور عقله اغتر بقول هؤلاء . وقد ذكره أصحاب التواريخ ، وذلك أنّه كان يظهر في داره التي كان يخلو فيها بنسائه وأهله شخص في يده سيف في أوقات مختلفة وأكثره وقت الظهر فإذا طلب لم يوجد ولم يقدر عليه ولم يوقف له على أثر مع كثرة التفتيش ، وقد رآه هو بعينه مراراً فأهمته نفسه ودعا بالمعزمين فحضروا وأحضروا معهم رجالاً ونساء وزعموا أن فيهم مجانين وأصحاء ، فأمر بعض رؤسائهم بالعزيمة فعزم على رجل منهم زعم أنّه كان صحيحاً فجن وتخبط وهو ينظر إليه وذكروا له إن هذا غاية الحذق بهذه الصناعة إذ أطاعته الجن في تخبيط الصحيح ، وإنما كان ذلك من المعزم بمواطأة منه لذلك الصحيح على أنّه متى عزم عليه جنن نفسه وخبط ، فجاز ذلك على المعتضد فقامت نفسه منه وكرهه ، إلاّ أنّه سألهم عن أمر الشخص الذي يظهر في داره فمخرقوا عليه بأشياء علقوا قلبه بها من غير تحصيل لشيء من أمر ما سألهم عنه فأمرهم بالإنصراف وأمر لكلّ واحد منهم ممن حضر بخمسة دراهم . ثمّ تحرز المعتضد بغاية ما أمكنه وأمر بالإستيثاق من سور الدار حيث لا يمكن فيه حيلة من تسلق ونحوه وبطحت في أعلى السور خواب لئلاّ يحتال بإلقاء المعاليق التي يحتال بها اللصوص . " ثمّ لم يوقف لذلك الشخص على خبر إلا ظهوره له الوقت بعد الوقت إلى أن توفي المعتضد وهذه الخوابي المبطوحة على السور ، وقد رأيتها على سور الثريا التي بناها المعتضد فسألت صديقاً لي كان قد حجب للمقتدر بالله عن أمر ذلك الشخص وهل تبيّن أمره ؟ فذكر لي أنّه لم يوقف على حقيقة هذا الأمر إلاّ في أيام المقتدر ، وأن ذلك الشخص كان خادماً أبيض يسمى ( يقق ) وكان يميل إلى بعض الجواري اللاتي في داخل دور الحرم ، وكان قد إتخذ لحى على ألوان مختلفة ، وكان إذا لبس بعض تلك اللحى لا يشك من رآه أنها لحيته ، وكان يلبس في الوقت الذي يريده لحية منها ويظهر في ذلك الموضع وفي يده سيف أو غيره من السلاح حيث يقع نظر المعتضد فإذا طلب دخل بين الشجر الذي في البستان أو في بعض تلك الممرات أو العطفات ، فإذا غاب عن أبصار طالبيه نزع اللحية وجعلها في كمه أو حزته ويبقى السلاح معه كأنّه بعض الخدم الطالبين للشخص ولا يرتابون به ويسألونه هل رأيت في هذه الناحية أحداً فإنا قد رأيناه صار إليها ؟ فيقول ما رأيت أحداً . وكان إذا وقع مثل هذا الفزع في الدار خرجت الجواري من داخل الدور إلى هذا الموضع فيرى هو تلك الجارية ويخاطبها بما يريد وإنّما كان غرضه مشاهدة الجارية وكلامها فلم يزل دأبه إلى أيام المقتدر ، ثمّ خرج إلى البلدان وصار إلى طرسوس وأقام بها إلى أن مات وتحدثت الجارية بعد ذلك بحديثه ووقف على احتياله . فهذا خادم قد إحتال بمثل هذه الحيلة الخفية التي لم يهتد لها أحد مع شدة عناية المعتضد به وأعياه معرفتها والوقوف عليها ولم تكن صناعة الحيل والمخاريق فما ظنك بمن قد جعل هذا صناعة ومعاشاً ؟ ( وضرب آخر من السحر ) وهي السعي بالنميمة والوشاية بها والبلاغات والإفساد والتضريب من وجوه : خفية لطيفة ، وذلك عام شائع في كثير من الناس وقد حكي أن إمرأة أرادت إفساد ما بين زوجين ، فصارت إلى الزوجة فقالت لها : إن زوجك معرض وقد سحر وهو مأخوذ عنك وسأسحره لك حتى لا يريد غيرك ، ولا ينظر إلى سواك ، ولكن لا بد أن تأخذي من شعر حلقه بالموسى ثلاث شعرات إذا نام وتعطينيها فإن بها يتم الأمر ، فأغترت المرأة بقولها وصدقتها . ثمّ ذهبت إلى الرجل وقالت له : إن امرأتك قد علقت رجلاً ، وقد عزمت على قتلك ، وقد وقفت على ذلك من أمرها فأشفقت عليك ولزمني نصحك فتيقظ ولا تغتر فإنها عزمت على ذلك بالموسى وستعرف ذلك منها فما في أمرها شك . فتناوم الرجل في بيته فلما ظنت إمرأته أنّه قد نام عمدت إلى موسى حاد وأهوت به لتحلق من حلقه ثلاث شعرات ففتح الرجل عينه فرآها وقد أهوت بالموسى إلى حلقه فلم يشك في أنّها أرادت قتله فقام إليها فقتلها وقتل ، وهذا كثير لا يحصى . ( وضرب آخر من السحر ) وهو الإحتيال في إطعامه بعض الأدوية المبلدة المؤثرة في العقل والدخن المسدرة المسكرة نحو دماغ الحمار إذا طعمه إنسان تبلد عقله وقلت فطنته مع أدوية كثيرة هي مذكورة في كتب الطب ويتوصلون إلى أن يجعلوه في طعام حتى يأكله فتذهب فطنته ويجور عليه أشياء ممّا لو كان تام الفطنة لأنكرها فيقول الناس إنه مسحور . " وحكمة كافية تبين لك أن هذا كلّه مخاريق وحيل لا حقيقة لما يدعون لها أن الساحر والمعزم لو قدرا على ما يدعيانه من النفع والضرر من الوجوه : التي يدعون وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب وأخبار البلدان النائية والخبيآت والسرق والأضرار بالناس من غير الوجوه : التي ذكرنا لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز والغلبة على البلدان بقتل الملوك بحيث لا يبدؤهم مكروه ولما مسّهم السوء ولامتنعوا ممن قصدهم بمكروه ، ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس . فإذا لم يكن كذلك وكان المدعون لذلك أسوأ الناس حالاً وأكثرهم طمعاً واحتيالاً وتوصلاً لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقرا وإملاقاً علمت أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك . " ورؤساء الحشو والجهال من العامة من أسرع الناس إلى التصديق بدعاوى السحرة والمعزمين وأشدهم نكيراً على من جحدها ، ويروون في ذلك أخباراً مفتعلة متخرصة يعتقدون صحتها كالحديث الذي يروون أن امرأة أتت عائشة فقالت إنّي ساحرة فهل لي توبة ؟ فقالت : وما سحرك ؟ قالت : سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا ، فأبيت ، فقالا لي إذهبي فبولي على ذلك الرماد فذهبت لأبول عليه ففكّرت في نفسي فقلت لا فعلت وجئت إليهما فقلت قد فعلت ، فقالا ما رأيت ؟ فقلت ما رأيت شيئاً ، فقالا ما فعلت إذهبي فبولي عليه ، فذهبت وفعلت ، فرأيت كأن فارساً قد خرج من فرجي مقنعاً بالحديد حتى صعد إلى السماء ، فأخبرتهما فقالا ذلك إيمانك خرج عنك وقد أحسنت السحر ، فقلت وما هو ؟ فقالا : لا تريدين شيئاً فتصورينه في وهمك إلاّ كان . فصورت في نفسي حبّاً من حنطة فإذا أنا بالحب ، فقلت له أنزرع فانزرع وخرج من ساعته سنبلاً فقلت له انطحن وانخبز إلى آخر الأمر حتى صار خبزاً ، وإنى كنت لا أصور في نفسي شيئاً إلاّ كان . فقالت لها عائشة ليست لك توبة . فيروي القصاص والمحدثون الجهال مثل هذا للعامة فتصدّقه وتستعيده وتسأله أن يحدّثها بحديث ساحرة ابن هبيرة فيقول لها إن ابن هبيرة أخذ ساحرة فأقرت له بالسحر فدعا الفقهاء فسألهم عن حكمها فقالوا القتل ، فقال ابن هبيرة لست أقتلها إلاّ تغريفاً قال فأخذ رحى البزر فشدّها في رجلها وقذفها في الفرات فقامت فوق الماء مع الحجر تنحدر مع الماء فخافوا أن تفوتهم فقال ابن هبيرة من يمسكها وله كذا وكذا ؟ فرغب رجل من السحرة كان حاضراً فيما بذله فقال أعطوني قدح زجاج فيه ماء فجاؤه به فقعد على القدح ومضى إلى الحجر فشقّ الحجر بالقدح فتقطع الحجر قطعة قطعة فغرقت الساحرة - فيصدقونه ، ومن صدّق هذا فليس يعرف النبوّة ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام من هذا النوع وإنّهم كانوا سحرة وقال الله تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } [ طه : 69 ] . " وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع ، وذلك أنهم زعموا أن النبيّ عليه السلام سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه : " أنّه يخيّل إليّ أنّي أقول الشيء وأفعله ، ولم أقله ولم أفعله " وأنّ إمرأة يهوديّة سحرته في جف طلعة ومشط ومشاقة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنّها سحرته في جف طلعة وهو تحت راعوفة البئر فاستخرج وزال عن النبيّ عليه السلام ذلك العارض . وقد قال الله تعالى مكذّباً للكفار فيما أدعوه من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال جلّ مَنْ قائل : { وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الفرقان : 8 ] ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعّباً بالحشو والطعام ، واستجراراً لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام ، والقدح فيها ، وأنّه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة وأن جميعه من نوع واحد . والعجب ممّن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم ، وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } [ طه : 69 ] فصدّق هؤلاء مَنْ كذّبه الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله . وجائز أن تكون المرأة اليهوديّة بجهلها فعلت ذلك ظنّاً منها بأن ذلك يعمل في الأجساد وقصدت به النبيّ عليه السلام فأطلع الله نبيّه على موضع سرّها ، وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنّت ليكون ذلك من دلائل نبوّته ، لا أن ذلك ضرّه ، وخلط عليه أمره ، ولم يقل كلّ الرواة أنّه اختلط عليه أمره وإنّما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له . والفرق بين معجزات الأنبياء وبين ما ذكرنا من وجوه : التخييلات ، أنّ معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها ، وبواطنها كظهائرها ، وكلّما تأمّلتها ، ازددت بصيرة في صحّتها ، ولو جهد الخلق كلّهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها ظهر عجزهم . ومخاريق السحرة وتخييلاتهم إنّما هي ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها ، وما يظهر منها على غير حقيقتها ، يعرف ذلك بالتأمّل والبحث ، ومن شاء أن يتعلّم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره ، ويأتي بمثل ما أظهره سواء " اهـ . هذا جلّ ما قاله أبو بكر الجصاص في معنى السحر وحقيقته وعقد بعده باباً في ذكر قول الفقهاء فيه وما تضمّنته الآية من حكمه وما يجري على مُدّعي ذلك من العقوبات ومنها القتل كفراً في بعض أنواعه المتضمّنة للشرك والمستلزمة للريب في معجزات الرسل . وأنّ كثيراً من العلماء يثبتون ما أنكره من تأثير الجن واستخدام بعض الناس لهم . ومن العجيب أنّه لا يزال في هذا العصر مَنْ يتوسّل إلى الإستعانة بالجن على بعض الأعمال السحريّة بما هو كفر قطعاً كرابط بعض القرآن على السوءتين كما علمت من بعض المخبرين لهؤلاء الدجالين الذين يعيشون بكتابة العزائم والحجب للحبّ والبغض والحبل وغير ذلك والمفاسد في ذلك كبيرة جدّاً وقد ذكرنا بعضها في تفسير : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 27 ] . فيراجع تفسيره في الجزء الثامن . عودة إلى تفسير الآيات لمّا أظهر موسى عليه السلام آية الله تعالى في مجلس فرعون : { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } أي أشراف قومه وأركان الدولة منهم : { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي راسخ في العلم - كما تدل عليه صيغة عليم { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } أي قد وجه إرادته لسلب ملككم منكم وإخراجكم من أرضكم بسحره بأن يستميل به الشعب المصري فيتبعه فينتزع منكم الملك ويستبد به دونكم ، ويلي ذلك إخراج الملك وعظماء رجاله من البلاد لئلاّ يناوئوه لاستعادة الملك منه ، كما فعل متغلبة الترك في هذه الأيام بعد إسقاط الدولة العثمانية فإنهم أخرجوا جميع أفراد الأسرة السلطانية من البلاد التركية التي بقيت لهم . وفي معنى هذا القول من فرعون ورجال دولته ما حكى الله تعالى عنهم من مراجعتهم لموسى وأخيه في سورة يونس : { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 78 ] . وما قال الملأ من قوم فرعون هذا القول إلاّ تبعاً لقوله هو الذي حكاه تعالى عنه في سورة الشعراء : { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ الشعراء : 34 - 35 ] أي رددوا قوله وصار يلقيه بعضهم إلى بعض كدأب الناس في نقل كلام ملوكهم ورؤسائهم وترديده إظهاراً للموافقة عليه ، وتعميماً لتبليغه . وإنما لم يصرحوا بكلمة " بسحره " كما صرّح هو لأنهم كانوا دونه خوفاً وانزعاجاً ، وأقل منه حرصاً على الطعن في دعوة موسى ، ولكن ذكرها السحرة في تناجيهم مع فرعون وهو أجدر بذكرها فحكاها الله تعالى عنهم بقوله من سورة طه : { فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ * قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ * فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ } [ طه : 62 - 64 ] . والأمر في قوله فرعون لهم وقول بعضهم لبعض { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } ليس هو المقابل للنهي بل هو بمعنى الأدلاء بالرأي في الشورى قال الزمخشري في الأساس : وتآمر القوم وائتمروا ، مثل تشاوروا واشتوروا . ومرني بمعنى أشر عليّ . قال بعض فتاكهم : @ ألم تر إنّي لا أقول لصاحب إذا قال مرني : أنت ما شئت فافعل ولكنني أفري له فأريحه ببزلاء تنجيه من الشك فيصل @@ وقال في مادة ( ب ز ل ) ومن المجاز بزل الأمر والرأي : استحكم . وأمر بازل . وتقول خطب بازل ، لا يكفيه إلاّ راي قارح ، وإنّه لذو بزلاء ، أي ذو صريمة محكمة ، وهو نهاض ببزلاء أي بخطة عظيمة . قال : @ إنّي إذا شغلت قوماً فروجهم رحب المسالك نهاض ببزلاء @@ أقول : ومعنى بيتي الفاتك أن صاحبه إذا استشاره فقال له اءمرني - أي أشر علي - لا يقول له إفعل ما تشاء أعراضاً عن نصحه أو عجزاً عنه ، بل يفري أي يقطع له الرأي المحكم بخطة بزلاء أي قويمة محكمة تخرجه من الشك والتردد وتكون فيصلاً أي فاصلة بين الخطأ والصواب . والبزلاء وبزول الأمر والرأي مأخوذ من بزول ناب البعير وهو أن ينشق ويخرج عند دخوله في السنة التاسعة فهو بازل ولذلك أطلقوا لقب البازل على الرجل القوي المحكم التجربة . { قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } أي قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله : " فماذا تأمرون ؟ : أرجه أي أرجيء وآخر أمره وأمر أخيه ولا تفصل فيه بادي الرأي وأرسل في مدائن ملكك رجالاً أو جماعات من الشرطة والجند حاشرين أي جامعين سائقين للسحرة منها - فالحشر الجمع والسوق - وإنّما يوجد السحرة في المدائن الجامعة الآهلة بدور العلم والصناعة ، فإن ترسلهم { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } بفنون السحر ماهر فيها وهم يكشفون لك كنه ما جاء به موسى فلا يفتتن به أحد . قرأ الجمهور ( ساحر ) بصيغة اسم الفاعل ، وحمزة والكسائي هنا وفي يونس ( سحار ) بصيغة المبالغة له وجاء ذلك بالإمالة وعدمها - وبها قرأ الجميع في الشعراء . ورسمهما في المصحف الإمام واحد هكذا ( سحر ) ليحتمل القراءتين ووجههما أن فرعون لما طلب كلّ ساحر عليم في مدائن البلاد خصّ بالذكر المهرة المتمرنين في السحر المكثرين منه - أو أن بعض ملئهِ طلب هؤلاء فقط لأنهم أجدر بإتيان موسى بمثل ما جاء به من الأمر العظيم كما حكى الله تعالى عن فرعون في سورة طه : { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } [ طه : 57 - 58 ] وطلب آخرون حشر جميع السحرة الراسخين في العلم لعله يوجد عند بعض المقتصدين أو المقلين من السحر ما لا يوجد عند المكثرين منه - فبينت القراءتان كلّ ما قيل مع الإيجاز البليغ .