Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 138-141)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قصّة موسى مع بني إسرائيل هذه الآيات وما بعدها شروع في قصّة موسى عليه السلام مع قومه بني إسرائيل معطوفة على قصّته مع فرعون وقومه على أكمل وجوه : العبرة مع السلامة من لغو القصص والتاريخ . قال عزَّ وجلّ : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه عدّاه وانتقل عنه . والعكوف على الشيء الإقبال عليه وملازمته على سبيل التعظيم ومنه العُكوف والإعتكاف في المسجد وهو ملازمته لأجل العبادة . قرأ حمزة والكسائي يعكفون بكِسر الكاف من باب جلس يجلس والباقون بضمّها من باب قعد يقعد . والأصنام جمع صنم وهو ما يُصنع من الخشب أو الحجر أو المعدن مثالاً لشيء حقيقي أو خيالي أو مذكّراً به ليعظّم تعظيم العبادة ، واتخذ بعض العرب في الجاهليّة صنماً من عجوة التمر فعبدوه ثمّ جاعوا فأكلوه . والفرق بينه وبين التمثال أنّ هذا لابدّ أن يكون مثالاً لشيء - وأنّه قد يكون للعبادة وحينئذ يسمّى صنماً وقد يكون للزينة كالذي تراه على جُدران بعض القصور المشيّدة أو أبوابها أو في حدائقها ، وقد يكون للتعظيم والتكريم غير الديني كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك وكبار علماء الدنيا أو القوّاد والزعماء للتذكير بتاريخهم وأعمالهم للإقتداء بهم ، ويكثر هذا في بلاد الإفرنج وقلّدهم بعض بلاد الشرق كمصر فنصب حكومتها تماثيل لبعض أمراء بيت الملك الحاضر وغيرهم من رجالهم . والفرق بين هذا التعظيم السياسي أو العلمي وبيّن تعظيم العبادة ، أن الغرض من الأوّل أمّا رفعة شأن الدولة وتمكين سلطانها في أنفس الأمّة بمشاهدة صور ملوكها وكبراء رجالها وتماثيلهم وهو قصد سياسي صحيح عند أهله . وأمّا بعث شعور حب العلم والإقتداء بالعلماء والأدباء والزعماء الذين نفعوا أمّتهم عسى أن يوجد في المستعدّين من يكون مثلهم أو خيراً منهم ، وهو قصد إجتماعي صحيح عند علماء التربية وأمّا تعظيم العبادة فالغرض منه التقرّب من المعبود وطلب ثوابه بدفع ضرر أو جلب منفعة من طريق الغيب لا الكسب والتعاون عليه من طريق الأسباب العامّة . فتعظيم الشيء الذي يعتقد أن له سلطة غيبيّة أو تعظيم ما يذكر به من صورة أو تمثال أو قبر أو ثوب أو غير ذلك من آثاره لأجل التقرّب إليه وقصد الإنتفاع به في الأمور التي لا تنال بالأسباب العامّة - وهي ما لا يطلب إلاّ من الله تعالى أو لأجل التقرّب إلى الله تعالى بجاهة - كلّ ذلك عبادة ظاهرة ، فإنّ قصد المعظّم لذلك الشيء أو لما يذكر به الإنتفاع به نفسه بما ذكر من التعظيم بالقول كالدعاء والإستغاثة أو بالفعل كالطواف بتمثاله أو قبره وتقبيله والتمرّغ بأرضه - كانت العبادة خالصة له من دون الله ، وإن قصد التقرّب به إلى الله تعالى ليحمله بجاهه على إعطائه ما يُريد كانت العبادة له ولله تعالى بالاشتراك ، وهذا من مظاهر الشرك الجليّ التي لا يخرجها تغيير التسمية عن كونها كفراً أو شركاً . إستطراد فقهي حظر الشرع الإسلامي نصب التماثيل لأنّها إمّا شرك أو ذريعة له أو تشبه بأهله وهي على هذا الترتيب في التدلي فأغلظها أولها وأخفها ثالثها . وللتشبه درجات في الحظر أشدها ما كان في أمور الدين فإنّه قد يكون كفراً ، وأهونها ما كان في العادات وأمور الدنيا فنجتنب منه مالنا غنى عنه وما كان نافعاً غير ضار بنفسه لا نأخذه بقصد التشبه فقط لأنّه لا يكون إلاّ من تعظيم المتشبّه لغير أهل ملّته ، وهو يتضمّن أو يستلزم إحتقارها أو إحتقارهم والشعور بأنّهم دونهم . وأمّا اقتباس العلم والحكمة والفنون والصناعات النافعة لأجل منفعتها بقدرها فليس من التشبه ولا من تفضيل المقتبس منهم على أهل ملّته لأنّ هذه الأمور ليست من أمور الدين ولا اقتبست لأجل التعظيم بل لفائدتها ، وقد تكون هذه الفائدة ممّا تعتز به ملة المقتبس المستفيد وأهلها . ومن ذلك أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم عمل الخندق عن الفرس إذ أخبره سلمان ( رضي الله عنه ) عنهم بذلك وقد يكون هذا الأخذ واجباً شرعاً ومنه أخذنا لفنون الحرب وصناعاتها وآلاتها عن الإفرنج إذ أتقنوها قبلنا ، فهو فرض كفاية بلا نزاع فالأمّة الحيّة تقتبس كلّ شيء نافع يغذّي حياتها ويزيدها قوّة وعزّة ، وتتّقي في ذلك كلّ ما فيه ضعف لها في مقوماتها أو مشخصاتها ولا سيّما إذا كان فيه تفضيل لخصومها أو غيرهم عليها ، وقد فطن اليابان لهذه القاعدة فحافظوا على شؤونهم المليّة والقوميّة عند اقتباسهم لعلوم الفرنجة وفنونها فصاروا مثلهم في ثلث قرن . وغفل عنه الترك والمصريّون فأضاعوا من ملكهم . وليس في نصب التماثيل فائدة ومنفعة ذات بال لا تحصل بغيرها تُبيح للمسلمين تقليد الوثنيين والنصارى فيها ولو في جعلها لغير رجال الدين بعداً عن شبهة عبادتها ، ومَنْ ذا الذي يأمن هذا وقد عبدت قبور الأولياء وأئمّة آل البيت كما عبد غلاة الشيعة من الباطنيّة أشخاصاً منهم أحياء وأمواتاً ، ونرى الشيعة المعتدلين الذين استباحو نصب التماثيل غير الدينيّة قد اتخذ بعضهم في هذه الأيام تمثالاً لأمير المؤمنين عليّ - كرم الله وجهه - في بلاد إيران كما نقلت صحف الأخبار عنهم . وأمّا الصور فلها فوائد في الحرب وحفظ الأمن وتحقيق معاني اللغة وكثير من العلوم ولا سيّما الطب والتشريح … فلا يحظر منها ما ليس عبادة ولا تشبها بعبدة الأصنام بدليل ما ثبت في السنّة الصحيحة من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم تهتك القرام ( الستار ) الذي نصبته ( عائشة ) في حجرتها إذ كان على هيئة الصور والتماثيل المعبودة فلمّا جعلت منه وسادة كان صلى الله عليه وسلم يستعملها وفيها الصور إذ كان الإتكاء والنوم عليها امتهاناً لا تعظيماً ولا يشبه التعظيم الوثني وقد حقّقنا هذا البحث ببيان ما ورد فيه من الأحاديث والأثار وأقوال العلماء في فتاوي المنار مراراً عود إلى تفسير الآية . معنى النظم الكريم : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ } أنّهم تجاوزوه بعنايته سبحانه وتأييده إيّاهم بفلق البحر ، وتيسير الأمر ، حتى كأنّه كان معهم بذاته فجاوزه مصاحباً لهم ، أو المعنى أنّنا أيدناهم ببعض ملائكتنا ، فجاوز بهم البحر بأمرنا ، فمَنْ المعهود في اللغة أن ينسب إلى الملوك ورؤساء القواد ما ينفذه بعض أتباعهم بأمرهم ، وما يقع بجاههم وقوّة سلطانهم ، ويجوز الجمع بين المعنيين . ففرق البحر بهم كان بعناية الله وقدرته . وفي آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج ذكر خبر إرتحال بني إسرائيل وقال : " 20 وكأن الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود من غمام ليهديهم الطريق وليلاً في عمود من نار ليُضيء لهم ليسيروا نهاراً وليلاً ( 21 ) لم يبرح عمود الغمام نهاراً وعمود النار ليلاً من أمام الشعب " ، ثمّ جاء في الفصل الرابع عشر منه بعد ذكر إتّباع فرعون ومَنْ معه بني إسرائيل " 19 فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر بني إسرائيل فصار وراءهم وانتقل عمود الغمام من أمامهم فوقف وراءهم ( 20 ) ودخل بين عسكر المصريين وعسكر إسرائيل ، فكان من هنا غماماً مظلماً ، وكان من هناك ينير الليل ، فلم يقترب أحد من الفريقين طول الليل " . وهذا بعض ما جاء في التوراة ممّا يصحّ أن يكون تفسيراً لقوله تعالى في القرآن { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ } فالباء هنا للمصاحبة كقولك سافرت به وجئت به ، وإسناد المسير في عمود الغمام إلى الرب مجازي كقوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ } [ البقرة : 210 ] " فأتوا " عقب تجاوزهم إياه ودخولهم في بلاد العرب من البر الآسيوي { عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ } يعبدونها ، فماذا كان من شأنهم إذا رأوهم يعبدون غير الله تعالى كالمصريين الذين أنقذهم الله تعالى منهم ، وأراهم آياته على وحدانيته فيهم ؟ هل استهجنوا شركهم وأنكروه كما هو الواجب عليهم والمعقول ممّن رأى ما رأوا من سوء مصير المشركين ، وحسن عاقبة الموحدين ؟ الجواب أنّهم لم ينكروه بألسنتهم ولا قلوبهم ، بل { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } حنيناً منهم إلى ما ألفوا في مصر من عبادة آلهة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها ، فعلم بهذا الطلب أنهم لم يكونوا فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه مَنْ آمن من سحرة المصريين ، لأنّ السحرة كانوا من العلماء فأمكنهم التمييّز بين آيات الله تعالى التي لا يقدر عليها غيره وبين السحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم ، وأمّا هؤلاء الإسرائيليون فكانوا من العامّة الجاهلين الذين بلّد الذل أفهامهم ، وإنّما تبعوا موسى لإنقاذه إياهم من ظلم فرعون وتعبيده لهم ، لا لفهمهم حقيقة التوحيد بالآيات الدالة عليه ولذلك قيل أنّهم بعض القوم لا جميعهم ، فالتوحيد المحض الخالص من شوائب الشرك والوثنية هو غاية ما يرتقي إليه عرفان البشر ؛ وهو المراد من قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] على القول بأن اللام للغاية ، وهو لا يقتضي حصوله لكل فرد منهم ، ولو عقل جميع بني إسرائيل كنه التوحيد لما وقع من تبرمهم بالتكاليف وتمرّدهم على موسى عليه السلام ما قصّه الله تعالى علينا في كتابه ، وفي التوراة التي لديهم من الزيادة عليه والتفصيل له ما هو من مواطن العجب ، وقد ابتلاهم الله تعالى ورباهم بالحسنات والسيئات ، وحرم الأرض المقدّسة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، حتى انقرض ذلك الجيل الذي نشأ في حجر الوثنية ، وشب أو اكتهل أو شاخ في ذل العبوديّة الفرعونيّة . وقد رأينا نموذجاً لذلك في طوائف من أمّتنا ولدوا في مهد الظلم ، وشبّوا في حجر النفاق والفسق ، فسنحت لأعلمهم بشؤون الإجتماع والعمران فرص متعددة كان يرجى أن يحرروا فيها أنفسهم من رقها السياسي ويستقلوا بأمرهم ، فأضاعوها واحدة بعد أخرى ، وكان هذا من عبر التاريخ التي تثبت أن فلاح الأمم بأخلاقها وعقائدها ، وأن العلم الناقص شر من الجهل المطلق ، وأن العلم الصحيح في الرجل أو الشعب الفاسد الأخلاق كالسيف في يد المجنون ربما جنى به على صديقه أو على نفسه وربما نصر به عدوه . ولم يبيّن لنا كتاب الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم " شيئاً من أمر القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل عقب خروجهم من مصر إلى أرض العرب والظاهر أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر : روي عن قتادة أنّهم من عرب لخم وعن أبي عمران الجوني لخم وجذام . وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس ، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنّه من تلك البقر فذاك كان أوّل شأن العجل لتكون لله عليهم حجّة فينتقم منهم بعد ذلك . أقول : ولم يكن أنّ جريج يعلم أن قدماء المصريين كانوا يعبدون عجلاً اسمه ( أبيس ) وكان بنو إسرائيل يعبدونه معهم كغيره من معبوداتهم ، ويرون تماثيله منصوبة في معابدهم ، وأن السامري لم يصنع لهم العجل بعد ذلك إلاّ لمّا كان من ألفهم لعبادته ، وتأثر أعصابهم بما ورثوا من مظاهر روعته ، ولذلك قال تعالى فيهم : { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } [ البقرة : 93 ] والمراد عجل السامري وقد علّل إشرابهم إياه في قلوبهم بما كان من كفرهم السابق أي بالوراثة المتغلغلة في النفس بطول الزمان وتعاقب الأجيال ، فذلك الذي يطول تأثيره في الأعقاب والأنسال ؛ ألم تر إلى ما استحدثه بعض المبتدعة في الإسلام وقلّدهم فيه بعض الملوك من المنسوبين إلى السنّة : من تشييد القبور ، وتزيينها بالعمائم والستور ، وبناء القباب فوقها ، واتخاذها مساجد يصلّى إليها أو لديها ، وإيقاد السرج والشموع عليها ، أنّه قد جعل لها مكانة دينيّة كبيرة في قلوب عامّة المسلمين ، حتى صارت عندهم من شعائر الدين ، بحيث يعدّون مَنْ روى لهم الأحاديث الصحيحة في لعن الله ورسوله لمَنْ يفعل ذلك مبتدعاً فيه أو مارقاً منه ، وينبزونه في بعض البلاد بلقب " وهابي " إذ كانت طائفة من الحنابلة في بلاد العرب سُمّيت الوهابيّة قد عمدوا إلى إزالة هذه المنكرات بأيديهم ، لمّا لم يؤثّر في إزالتها إنكار علماء السنّة المصلحين لها بألسنتهم وأقلامهم ، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإنّ لم يستطع فبلسانه فإنّ لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " يعني الإنكار بالقلب وحده ، ولو مع العجز عما فوقه . والحديث رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) . إذا علمنا هذا الشأن من شؤون الضعف البشري فلا نعجب أنّ روي عن بعض حديثي العهد من الصحابة بالإسلام ، مثل ما طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام ، بما كان من تأثير مظاهر الوثنيّة في قلوبهم : روى أحمد والنسائي وأكثر مصنفي التفسير المأثور عن أبي واقد الليثي قال " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حُنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول الله إجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط ، فقال : " الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } إنّكم تركبون سنن من قبلكم " " . وروى نحوه ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعاً وذكر أن المكان الذي طلبوا فيه ذلك بين حنين والطائف . والعبرة في هذا أن للمسلمين الآن ذوات أنواط في بلاد كثيرة كشجرة " ست المنضورة " وشجرة الحنفيّ بمصر ، ونحو من ذلك ما اتخذوه من القبور والأشجار والأحجار والآبار يعكفون عليها ، ويطوفون حولها ، ويقبّلونها ويتمرّغون بأعتابها ، ويتمسّحون بها خاضعين ضارعين ، خاشعين داعين ، راجين شفاء الأدواء ، والإنتقام من الأعداء ، والغنى والثراء ، وحبل العقيم ، ورد الضالة ، وغير ذلك من النفع وكشف الضر ، خلافاً لنصوص كتاب الله عزَّ وجل . ولكنهم لا يعلمون إنّها تسمّى في اللغة العربيّة آلهة وأن جلّ ما يأتونه عندها يسمّى عبادة ، وأنّه شرك جليّ لا يغفر ، ولا فرق بينه وبين شرك عرب الجاهليّة وأمثالهم إلاّ الإختلاف في التسمية ، فأولئك كانوا يسمّون الأشياء بأسمائها لأنّهم أهل اللغة ، وهؤلاء تحاموا إطلاق لفظ الإله والمعبود والعبادة في هذا المقام ، واستباحوا غيرها من الألفاظ كالأولياء والشفعاء والوسيلة والتوسّل وهي مشتركة أيضاً ولكنّها استعملت في الإسلام بغير المعاني التي كانت تستعمل بها في الجاهليّة ، كأن الله تعبد الناس بإطلاق الألفاظ دون حقائق المعاني . وحقيقة معنى العبادة في اللغة العربيّة وكذا في غيرها من اللغات يشمل كلّ قول أو عمل يوجه إلى معظم يرجى نفعه أو يخشى ضره وحده - وهذا توحيد له - أو يرجى ويخاف بالتأثير عند الله تعالى - وهذا هو الشرك - بشرط أن يكون هذا الرجاء فيه أو الخوف منه لأمر غيبي خارج عن الأمور الكسبيّة والأسباب الدنيويّة ، وقد سبق شرح هذا آنفاً وقبله مراراً ، ويظن أهل العلم بكتب الفقه والكلام الذين لم يطلعوا على ملل الوثنيين أنّهم يعبدون الأصنام وغيرها من المخلوقات التي يتبرّكون بها لذاتها وأنهم يعتقدون أنها تضر وتنفع بقدرتها وإرادتها ، والصحيح أنهم يتوسّلون بها إلى الخالق كما حكى الله تعالى عن مشركي قريش وغيرهم ، وقد سمعت هذا من بعض علمائهم في الهند . ماذا كان جواب موسى عليه السلام : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } وصفهم بالجهل المطلق غير متعلّق بشيء وهو على طريقتنا وطريقة ابن جرير والخصاف يشمل كلّ ما يصلح له من الجهل الذي هو فقد العلم والجهل الذي هو سفه النفس وطيش العقل ، وأهمّه المناسب للمقام جهل التوحيد وما يجب من أفراد الرب تعالى بالعبادة من غير واسطة ، ولا التقيّد بمظهر من المظاهر يتوجه إليه معه ، ولا سيّما مظهر الأصنام والتماثيل لبعض المخلوقات التي اغترّ الجاهلون من قبل بنفعها أو الخوف من ضررها ، فالأوّل كالكواكب والنيل والعجل ( أبيس ) والثاني كالثعبان - ثمّ جهل ما كرم الله تعالى به البشر فجعلهم أهلاً لمعرفته ودعائه ومناجاته كفاحاً بغير واسطة يقربهم إليه فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد ، وهو الأحد الصمد الذي يتوجه إليه ويقصد وحده ولذلك قال إماما الموحّدين ، إبراهيم ومحمّد عليهما الصلاة والتسليم { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 79 ] . وهذا النوع من الجهل هو الذي قال الله تعالى فيه : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] وإسناد الجهل إلى القوم أبلغ من إسناده إلى ضمير المخاطبين لأنّه حكم على جماعتهم ، بما هو كالمتحقق المعروف من حالهم ، الذي هو علّة لمقالهم ، يدخل فيه الذين سألوه ذلك منهم دخولاً أوّليّاً . وبعد أن ذكرهم سوء حالهم من جهلهم وسفاهة أنفسهم بين لهم فساد ما طلبوه في نفسه عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال بأسلوب الإستئناف المفيد للتعليل والدليل : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } التبار والتبر الهلاك والتتبير الأهلاك والتدمير يقال تبر الشيء من بأني تعب ونصر وتبره - بالتشديد : أهلكه ودمّره . أي أنّ هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضي على ما هم فيه بالتبار ، بما سيظهر من التوحيد الحق في هذه الديار ، وباطل ما كانوا يعملون من الأصنام ، وعبادة غير الله ذي الجلال والإكرام ، أي هالك وزائل لا بقاء له ، فإنّما بقاء الباطل في ترك الحق له أو بعده عنه ، وهذا يتضمّن البشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض وكذلك كان . قال البغوي في تفسيره إن طلب بني إسرائيل للآلهة لم يكن عن شك منهم بوحدانيّة الله تعالى وإنّما كان غرضهم إلهاً يعظمونه ويتقرّبون بتعظيمه إلى الله تعالى وظنّوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك جهلهم كما آذنت به الآيات . وقال الرازي : أعلم أنّ من المستحيل أن يقول العاقل لموسى : { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } وخالقاً مدبّراً ، لأنّ الذي يحصل يجعل موسى وتدبيره لا يمكن أن يكون خالقاً للعالم ومدبّراً له ، ومَنْ شك في ذلك لم يكن كامل العقل ، والأقرب أنّهم طلبوا من موسى أن يعيّن لهم أصناماً وتماثيل يتقرّبون بعبادتها إلى الله تعالى ، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول : لِمَ كان هذا القول كفراً ؟ فنقول أجمع كلّ الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر سواء أعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم أو اعتقدوا فيه أنّ عبادته تقرّبهم إلى الله تعالى - لأنّ العبادة نهاية التعظيم ، ونهاية التعظيم لا تليق إلاّ بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام . ثمّ قال بعد أن جزم بأن هذا القول صدر عن بعضهم لا كلّهم وإنّه كان فيهم مَنْ يترفّع عنه ما نصّه : ثمّ إنّه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنّه أجابهم فقال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } وتقرير هذا الجهل ما ذكر من أن العبادة هي غاية التعظيم فلا تليق إلاّ بمن يصدر عنه غاية الأنعام وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها ، والقادر على هذه الأشياء ليس إلاّ الله تعالى فوجب أن لا تليق العبادة إلاّ به ، ( فإنّ قالوا ) إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرّب بها إلى تعظيم الله تعالى فما الوجه في قبح هذه العبادة ؟ قلنا : فعلى هذا الوجه لم يتخذوها آلهة أصلاً وإنّما جعلوها كالقبلة ، وذلك ينافي قولهم : { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } اهـ . أقول : من العجب أن يقع أمام النظار في علم العقائد على طريقة الفلسفة والكلام في مثل هذا الخطأ في أسئلته وأجوبته والتناقض في كلامه ، ومنشأ هذا الخطأ الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن في اللغة العربيّة واستعمالها بلوازم معناها العرفيّة كلفظ " الإله " فإنّ معناه في اللغة المعبود مطلقاً لا الخالق ولا المدبّر لأمر العالم كلّه ولا بعضه ، ولم يكن أحد من العرب الذين سمّوا أصنامهم وغيرها من معبوداتهم آلهة يعتقد أن اللاّت أو العزّى أو هُبلاً خلق شيئاً من العالم أو يدبّر أمراً من أموره ، وإنّما تدبير أمور العالم يدخل في لفظ الرب . والشواهد على هذا في القرآن كثيرة ناطقة بأنهم كانوا يعتقدون ويقولون إنّ خالق السماوات والأرض ومدبّر أمورهما هو الله تعالى وإن آلهتهم ليس لها من أمر الخلق والتدبير شيء ، وإنّ شركهم لأجل التقرّب إليه تعالى وابتغاء الشفاعة عنده بعباده ما عبدوه ، ولذلك كانوا يقولون في طوافهم : لبيك لا شريك لك ، إلاّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ولذلك يحتج القرآن عليهم في مواضع بأن غير الخالق المدبّر لا يصحّ أن يكون إلهاً يعبد مطلقاً وهو معنى قول بعض المحقّقين أنّه يحتج بما يعترفون به من توحيد الربوبيّة ، على ما ينكرون من توحيد الإلهيّة ، وإذ كنّا بيّنا هذا مراراً بالشواهد نكتفي بهذا التذكير هنا . ثمّ أنّ عبارة طلاب الأصنام من بني إسرائيل لم تنقل إلينا بنصّها في لغتهم فنبحث فيها أخطأ أم صواب وإنّما حكاها الله تعالى لنا بلغة كتابه فمعناها صحيح قطعاً فإنّ الإله في هذه اللغة هو المعبود بالذات أو بالواسطة وإن كان مصنوعاً وإنّما جهلهم موسى يطلب عبادة أحد مع الله لا بتسمية ما طلبوا منه صنعه إلهاً فإنّه هو سمّى المعبود المصنوع إلهاً أيضاً في قوله للسامري الذي حكاه الله عنه في سورة طه : { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ } [ طه : 97 ] الآية وإنّما كان عجل السامري من صنعه - وأن جميع من عبدوا الأصنام من قبلهم ومن بعدهم كانت أصنامهم مجعولة مصنوعة متخذة من هذه المخلوقات كالحجر والخشب والمعدن . أنسي أمام النظار وصاحب التفسير الكبير ما حكاه الله تعالى من تسمية قوم إبراهيم لأصنامهم بالآلهة ؟ أم نسي ما حكاه الله من حجّته عليهم بقوله : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] ومن محاجته إياهم بقوله : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 69 - 74 ] وجملة القول أن هذا القول الذي قاله الرازي من أظهر هفواته الكثيرة بطلاناً وسببه إمتلاء دماغه عفا الله عنه بنظريات الكلام وجدل الإصطلاحات الحادثة وغفلته عن معنى الإله في أصل اللغة ومن آيات القرآن الكثيرة فيه ، ومنها قوله تعالى : { قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـٰهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أي قال لهم موسى أأطلب لكم معبوداً غير الله ربّ العالمين وخالق السماوات والأرض وكلّ شيء والحال أنّه فضّلكم على العالمين ، بما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين ، على ملّة إبراهيم وسنّة المرسلين ؟ فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه ؟ والإستفهام في الآية للإنكار المشرب معنى التعجب ، وإنّما هو إنكار ابتغاء إله غير الله المستحق وحده للعبادة لا إنكار تسمية المعبود المصنوع إلهاً . وأبغي ينصب مفعولين بنفسه كقوله تعالى : { يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ } [ التوبة : 47 ] . بدأ موسى عليه السلام جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، وثنى ببيان فساد ما طلبوه وكونه عرضة للتبار والزوال ، وباطلاً في نفسه على كلّ حال ، فلا الطالب على علم وعقل فيما طلب ، ولا المطلوب ممّا يصحّ أن يطلب ، ( ضعف الطالب والمطلوب ) فهذا ملخّص معنى الآية السابقة . ثمّ انتقل في هذه الآية إلى المطلوب منه جعل الإله لهم - وهو هو عليه السلام - والمطلوب لأجله هذا المجعل - وهو الله تعالى - وموسى على الحق والله تعالى هو الحق والذي يحق الحقّ ، وبين هذين الحقين وذينك الباطلين غاية المباينة فلذلك كان هذا جواباً مستقلاً مبايناً لما قبله بحيث لا ينبغي أن يعطف عليه عطفاً ، ولا أن يعد معه عداً ، ولهذا أعاد فيه كلمة " قال " كما سنبيّنه . وقد قدّم فيه ذكر الأهمّ الأفضل المقصود بالذات من هذين الحقين فقال ( أغير الله ) فغير الله أعم الألفاظ الدالة على المحدّثات فهو يشمل أخسّ المخلوقات وأعجزها عن النفع والضرّ كالأصنام ، ويشمل أفضلها وأكملها كالملائكة والنبيّين عليهم السلام ، ليثبت أنّه لا يوجد مخلوق يستحق العبادة مع الله تعالى وإن علا قدره ، وعظم أمره ، وأنّ تجهيلهم بما طلبوا لا لأنّ المطلوب كالأصنام خسيس وباطل في نفسه ، وعرضه للتبار فلا فائدة فيه لغيره ، - لا لهذا فقط - بل لأنّ العبادة لا يصحّ أن تكون لغير الله تعالى البتة ، مهما يكن غيره مكرماً عنده ، ومفضّلاً على كثير من خلقه ، على أنّ طلب عبادة الأخس ، دليل على منتهى الخسة والجهل ، إذ لا شبهة توهم قدرته على الإثابة أو التقريب من الله عزّ وجلَّ ، كشبهة مَنْ عبدوا الملائكة وبعض النبيّين والصالحين ، زاعمين أنّهم بكرامتهم عند الله يقربون إليه مَنْ قصّر به إيمانه وعمله أن يتقرّب إليه بنفسه ، مع إصراره على خبثه ورجسه ، جاهلين أن الله تعالى أمر المشركين والفاسقين ، أن يتوبوا أي يرجعوا إليه لا إلى غيره من عباده المكرمين ، وأن يدعوه وحده كدعائهم مخلصين له الدين ، وأن يخصّوه مثلهم بالعبادة والإستعانة وذلك ما فرضه علينا في صلاتنا بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . وبعد أن قدّم المقصود بالذات من الإنكار وهو جعل غير الله إلهاً ذكر مَنْ أرادوا أن يكون الواسطة في هذا الجعل ، الذي دعا إليه ذلك الجهل ، وهو نفسه عليه السلام بقوله ( أبغِيكم إلهاً ) ليعلمهم أن طلب هذا الأمر الأمر والشيء الأزد والمنكر الفظيع منه عليه السلام جهل بقيمته ، وبمعنى رسالته ، وبما رأوه من جهاده لفرعون وقومه ، من غير حول ولا قوّة له في شخص أخيه ولا في شخصه ، بل بالإتّكال على حول الله وقوّته ، ولولا إرادة إنكار الأمرين معاً : طلب آله مع الله ، وكونه بجعله عليه السلام - لقال : أغير الله تبغون إلهاً . كقوله تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ } [ آل عمران : 83 ] . ثمّ أيّد هذا الإنكار بما يعرفون من آيات الله تعالى فيهم ، وهو تفضيلهم على أهل زمانهم ، فقد كان أرقى الناس في ذلك العصر فرعون وقومه بما أوتوا من العلم والقوّة والحضارة وسعة الملك ومن السيادة على بعض الشعوب ، وقد فضّل الله بني إسرائيل عليهم ، برسالة موسى وهارون منهم ، وتجديد ملّة إبراهيم فيهم ، وإيتائهما من الآيات ما تقدّم بيانه وأثره في السياق الذي قبل هذا ، وقيل إنّ المراد تفضيلهم على العالمين مطلقاً بكثرة الأنبياء والمرسلين منهم ، والأوّل أظهر ، لأنّه عليه السلام أحتج عليهم بما عرفوا فيبعد أن يراد به تفضيلهم على القرون الأولى وأقوام رسلهم وعلى مَنْ سيأتي بعدهم ، وحال كلّ منهما مجهول عنده وعندهم ، فقد سأل فرعون موسى عن القرون الأولى فقال { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } [ طه : 52 ] والقرون الآخرة بذلك أولى . وأنت إذا قلت لغني أو عالم أنّك أغنى أو أعلم الناس ، أو لملك : إنّك أقوى الملوك ، أو في شعب أنّه أرقى الشعوب - فإنّ أحداً لا يفهم من مثل هذا تفضيل مَنْ ذُكر على غير أهل زمانهم ، ولا سيّما مَنْ يأتي بعدهم ، وأهل الحضارة في زماننا يعتقدون أن الأجيال الآتية سيكونون خيراً من هذا الجيل ، وكان موسى يعلم أن هداية الدين ، سترتقي إلى أن تكمل برسالة خاتم النبيّين ، ولكنّه أوتي هذا العلم بما أوحاه الله إليه في التوراة ولم يكن نزل منها شيء عند طلب بني إسرائيل منه ما ذكر . والدليل على أن المراد بتفضيلهم على العالمين ما ذكرنا أنّه عطف عليه أعظم مظاهره الحديثة العهد بقوله : { وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ البقرة : 49 ] قرأ ابن عامر ( وإذ نجاكم ) على أنّه من مقول موسى عليه السلام قطعاً والباقون ( أنجيناكم ) وذكروا فيه إحتمالين : أحدهما : وهو الأظهر والمتبادر أن يكون مُسنداً إلى الله تعالى متمّماً لكلام موسى ومبيّناً للمراد منه على طريقة الإلتفات عن الحكاية عنه : ولهذا الإلتفات نظائر في التنزيل وفي كلام بلغاء العرب ، ومنه قوله تعالى في قصّة موسى من سورة طه : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } [ طه : 53 ] إلخ فأوّل الآية من قول موسى في جواب فرعون وقوله " فأخرجنا " إلتفات عن الحكاية وإنتقال إلى كلامه تعالى عن نفسه ، خاطب به مَنْ أنزل إليهم هذا الوحي من خلقه ، تنبيهاً لهم بتلوين الكلام ، وبما في مخاطبة الرب لهم كفاحاً من التأثير الخاص ، إلى كونه هو المسدي لهذا الأنعام . واقتصر بعض المفسّرين على أن المخاطب بهذه القراءة من كان من بني إسرائيل في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فأفادت قراءة ابن عامر أن موسى قالها لقومه في ذلك الوقت ، وأفادت قراءة الآخرين أن محمّداً صلى الله عليه وسلم ذكر بها قوم موسى في زمنه كما تقدّم في سورة البقرة وهذه فائدة الجمع بين القراءتين وهي إعجاز إيجاز القرآن . الثاني : أن قراءة الإلتفات من جملة الحكاية عن موسى ( ع . م ) أسند الأنجاء فيها إلى الله تعالى مع حذف القول للعلم به من القرينة أو بدونه أو إلى نفسه وحده أو مع أخيه للإشارة إلى جعله تعالى هذا الأنجاء بسبب رسالتهما وتأييده تعالى لهما بتلك الآيات . والمعنى وأذكروا إذ أنجاكم الله تعالى بفضله - أو إذ أنجيناكم بإرساله تعالى إيّانا لأجل ذلك وممّا أيدنا به من الآيات من آل فرعون حال كونهم يسومونكم سوء العذاب نجعلكم عبيداً مسخّرين لخدمتهم كالبهائم فلا يعدونكم منهم ، وخصّ بالذكر من هذا العذاب شرّ أنواعه بقوله : يقتلون ما يولد لكم من الذكور - ويستبقون نساءكم بترك الإناث لكم لتزدادوا ضعفاً بكثرتهن - وهذا بدل بعض من كلّ . وفي ذلكم العذاب والأنجاء منه بفضل الرب الواحد عليكم وتفضيله إياكم على أولئك العالين في الأرض وعلى غيرهم كسكان البلاد المقدّسة التي سترثونها بلاء عظيم أيّ إختبار لكم من ربّكم المنفرد بتربيتكم ، وتدبير أموركم ليس وراءه بلاء واختبار ، فإنّ أجدر الناس بالإعتبار والإستفادة من أحداث الزمان ، من يعطى النعمة بعد النقمة ، وأحق الناس بمعرفة وحدانية الله تعالى وإخلاص العبادة له مَنْ يرى من آياته في نفسه وفي الآفاق ما يوقن به أنّه لا يمكن أن يكون لغيره شركة فيه أي فكيف تطلبون بعد هذا كلّه ممّن رأيتم هذه الآيات على يده وليس لها فيها أقلّ تأثير أن يجعل لكم إلهاً من أخسّ المخلوقات تجعلونه واسطة بينكم وبين الله تعالى وهو قد فضّلكم عليها وعلى عابديها ومَنْ هم أرقى منهم ؟ وقد غفل الشهاب الخفاجي عن كون تفضيلهم على العالمين لم يكن إلاّ بدعوة التوحيد المؤيدة بتلك الآيات ، فزعم أن الإحتجاج به خطابي ، لا برهان عقلي ، واعتذر عن عدم إحتجاج موسى ببرهان التمانع بأنهم من العوم ، وهو لا ينكر أن تلك المعجزات من البراهين القطعية ، وإن اختلف المتكلّمون في دلالتها ، هل هي عقليّة أو وضعية . وغفل أيضاً عن كون برهان التمانع إنّما يحتج به على المشركين في الربوبيّة دون العبادة فقط . وقد تعقّبه في هذا الألوسي فقال : وفي إقامة برهان التمانع على الوثنيّة القائلين : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] والمجيبين إذا سُئلوا : مَنْ خلق السماوات والأرض ؟ بخلقهن الله - خفاء ، والظاهر إقامته على الوثنية كما لا يخفى ، اهـ ووجهه إن الوثنية يقولون بوجود ربّين إلهين إشتركا في خلق العالم وتدبير أمره أحدهما ربّ النور والخير ، والثاني ربّ الظلمة والشرّ ، ويحتجّ عليهم بأنّه لو كان في العالم خالقان مدبّران أو أكثر لأمتنع أن يوجد فيه نظام يصلح به أمره إذا فرض جواز وجوده ، لأنّ تعدّد المدبّرين لأمر الشيء كتعدّد الخالقين يقتضي تعدد العلم والإرادة والقدرة التي يكون بها التدبير ، والخلق والتقدير ، وتعددها يقتضي التغاير والإختلاف فيها وإلاّ فلا تعدد ، وهذا الإختلاف يقتضي التعارض في متعلقاتها بأنّ يتعلّق بعضها بغير ما تعلّق به الآخر من ضدّ ونقيض ، وأي فساد في النظام وموجب للإختلال أشدّ من هذا ؟ وإنّما قلنا إذا جاز وجوده لأنّ الإشارة إلى البرهان في قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] قد بني على أن السماوات والأرض موجودتان والنظام فيهما مشاهد بالأبصار والبصائر ، وكما يمتنع إستقامة النظام وصلاح التدبير الصادر عن علوم وإرادات وقدر مختلفة متعارضة ، كذلك يمتنع صدور الكون نفسه عنها بالأولى . وفي الآية التي قبل الأخيرة من نكت البلاغة أنّه أعيد لفظ " قال " في أوّلها لما أشرنا إليه من أن هذا جواب مستقل لا يشترك مع ما قبله فيعطف عليه ، ولا هو معه من قبيل سرد الصفات أو الأعداد التي يطلب فيها الفصل ، أي كقوله تعالى : { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ } [ التوبة : 112 ] إلخ . وقولهم : الأوّل كذا - الثاني كذا إلخ فلم يبق إلاّ إعادة " قال " لإمتناع الفصل والوصل كليهما بدونها ، وأن تكون " قال " مفصولة لا معطوفة لإفادة هذا الإستقلال في الجواب ، إذ لا فرق بين عطف القول وعطف الجملة الإستفهاميّة بدونه في أنّ كلاَّ منهما يقتضي الإشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه كما حقّقه عبد القاهر في دلائل الإعجاز . ولمّا كان كلّ من له ذوق في أساليب هذه اللغة يشعر بأن البدء بهذا الإستفهام هنا بدون " قال " غير مستعذب ولا مستساغ وإن لم يعرف سبب هذا ونكتته - بحث طلاب نكت البلاغة في التفسير عن نكتة هذه الإعادة فلمّح بعضهم ما قرّرناه ولم يتبيّنه واضحاً ليبيّنه . قال الألوسي : قيل هذا هو الجواب وما قبله تمهيد له ولعلّه لذلك أُعيد لفظ قال ، اهـ فنقل هذه النكتة بصيغة التمريض " قيل " إذ كانت أخفى عنده منها عند صاحبها الذي قال : ولعلّه . … فلم يجزم - ثمّ نقل عن أبي السعود قوله في هذا الجواب : هو شروع في بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته ممّا لا يمكن طلبه أصلاً ، لكونه هالكاً باطلاً أصلاً ، ولذلك وسط بينهما " قال " مع كون كلّ منهما كلام موسى عليه السلام ، اهـ ثمّ نقل تعليلاً آخر للشهاب وهو : أعيد لفظ قال مع إتّحاد ما بين القائلين ( ؟ ) لأنّ هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين ولم يستدلّ بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى . وأقول إنّ العبارة الأولى أصحّ وأسلم من هذين القولين المعترضين على أنّهما مبنيّان على لمح ما لمح صاحبها إذ لو سلّم للأول أن الآية في بيان شؤون الله إلخ وللثاني إنّها دليل خطابي لا برهاني لما كان هذا ولا ذاك مقتضياً لإعادة فعل القول لذاته وإنّما العبرة بموقعه وإمتناع كلّ مَنْ فصّله بدون القول ووصّله بالعطف على ما قبله كما علم ممّا بيّناه والحمد لملّهم الصواب ، وقد بيّنا بطلان قول الشهاب آنفاً ، وضعف قول أبي السعود لا يحتاج إلى بيان .