Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 155-157)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } الإختيار صيغة تكلّف من مادة الخير كالإنتقاء من النقي ( بالكسر ) وحقيقته دهن العظام ومجازه لباب كلّ شيء والإصطفاء من الصفو والإنتخاب من النخب وأصّله إنتزاع الصقر وغيره من الجوارح قلب الطائر ثمّ صار يقال لكل من إنتزع لب الشيء وخياره : نخبه وانتخبه ، وتطلق النخبة ( بالضم مع سكون الخاء وفتحها ) على الجيّد المختار من كلّ شيء كما أطلقوا النخب والنخيب والمنتخب على الجبان الذي لا فؤاد له والأفين الذي لا رأي له ، كأنّه إنتزع فؤاده وعقله بالفعل . والكلام معطوف على ما قبله ، والمعنى : وانتخب موسى سبعين رجلاً من خيار قومه للميقات الذي وقّته الله تعالى له ودعاهم للذهاب معه إلى حيث يناجي ربّه من جبل الطور ، فالإختيار يكون من فاعل مختار وشيء مختار منه فيتعدّى للثاني بمن وكأن نكتة حذف " من " الإشارة إلى كون أولئك السبعين خيار قومه كلّهم لا طائفة منهم . { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } أي فلما أخذتهم رجفة الجبل وصعقوا قال موسى يا ربّ إنّي أتمنى لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معي إلى هذا المكان فأهلكتهم وأهلكتني معهم حتى لا أقع في حرج شديد مع بني إسرائيل فيقولوا قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم - أي وإذ لم تفعل من قبل فأسألك برحمتك أن لا تفعل الآن - وهذا مفهوم التمنّي ، فقد أراده موسى ولا يبعد أن يكون قد نطق به إذا كانت لغته لا تدلّ عليه كلغتنا وكان من إيجاز القرآن الإكتفاء بذكر التمنّي الدال عليه . واختلف المفسّرون هل كان هذا بعد أن أفاق موسى من صعقة تجلّي ربّه للجبل عقب سؤاله الرؤية ، إذ كان مَنْ معه من شيوخ بني إسرائيل ينتظرونه في مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة كما تقدّم أو كان بعد عبادة العجل ذهبوا للإعتذار وتأكيد التوبة وطلب الرحمة - وكما اختلفوا في هذا اختلفوا في سبب أخذ الرجفة إياهم هل كان طلبهم رؤية الله تعالى جهرة كما تقدّم في سورة البقرة أو سبباً آخر ؟ قال الحافظ ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنّ الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً فأختار سبعين رجلاً فوفد بهم ليدعوا ربّهم وكان فيما دعوا الله أن قالوا : اللّهمّ أعطنا ما لم تعطه أحداً من قبلنا ولا تعطه أحداً من بعدنا ، فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة قال موسى ربّ لو شئت أهلكتهم ، الآية . وقال السدي : إن الله تعالى أمر موسى أن يأتيه في أُناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه ثمّ ذهب بهم ليعتذروا فلمّا أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة فإنّك قد كلّمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا فقام موسى يبكي ويقول يا ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم ؟ { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } . وقال محمّد بن إسحاق إختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخير فالخير وقال إنطلقوا إلى الله فتوبوا إليه ممّا صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهّروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربّه وكان لا يأتيه إلاّ بإذن منه وعلم فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربّه يا موسى أطلب لنا نسمع كلام ربّنا فقال إفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشّى الليل كلّه ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم إدنوا وكان موسى إذا كلّمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه إفعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم فقالوا لموسى { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربّه ويدعوه ويرغب إليه ويقول { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } قد سفهوا ، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل اهـ . أقول : كلّ ما نُقل عن مفسّري المأثور في هذه المسألة وأمثالها مأخوذ عن الإسرائيليات غير الموثوق بها إذ ليس فيه شيء مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وإنّما يرجّح من بعدهم بعض أقوالهم على بعض بكونه أقرب إلى ظاهر نظم الآيات وأساليبها وتناسبها من غيره . وأمّا التوراة التي في أيدي أهل الكتاب فقد ذكرت خبر السبعين من شيوخ بني إسرائيل في سياق مناجاة موسى عليه السلام لربّه كما تقدّم وقد نقلنا المهم منها في ذلك ومجموع عباراتها مضطربة ففيها أن السبعين مع موسى وهارون وناداب وآبيهو " رأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنفة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة ولكنّه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا " خروج 24 : 10 - 11 . وفيها أن الرب قال لموسى إذ طلب منه رؤية مجده " لا تقدر أن ترى وجهي لأنّ الإنسان لا يرانّي ويعيش " ، ثمّ ذكر له أنّه أي الرب يضعه في نقرة صخرة ويستره بيده حتى يجتاز - أي الرب - قال : " ثمّ أرفع يدي فتنظر ورائي وأمّا وجهي فلا يرى " خروج 23 : 18 - 22 . وفي سفر العدد : وقائع ذكر فيها غضب الرب على بني إسرائيل لتمردهم وعنادهم وإتهام اللاويين منهم لموسى وهارون بحب الرياسة والترفّع عليهم وزعمهم أنّهم كلهم مقدّسون والرب في وسطهم وفيه أنّ الرب أهلك منهم خلقاً كثيراً وكان موسى يستغيثه ليرفع الهلاك عنهم ويرحمهم ولا أذكر أن في شيء منها ذكر عدد السبعين ولكن في بعضها ذكر شيوخ إسرائيل وفي بعضها ذكر عدد 250 رجلاً وذلك في الفصل 16 من سفر العدد وهاك بعضه : ( 20 ) وكلّم الرب موسى وهارون قائلاً ( 21 ) إفترزا من بين هذه الجماعة فإنّي أفنيهم في لحظة ( 22 ) فخرّا على وجهيهما وقالا اللّهمّ إله أرواح جميع البشر هل يخطيء رجل واحد فتسخط على كلّ الجماعة ( 23 ) فكلّم الرب موسى قائلاً ( 24 ) أطلعوا من حوالي مسكن قورح وداثان وأبيرام ( 25 ) فقام موسى وذهب إلى داثان وأبيرام وذهب وراءه شيوخ إسرائيل ( 26 ) فكلّم الجماعة قائلاً إعتزلوا عن خيام هؤلاء القوم البغاة ولا تمسّوا شيئاً ممّا لهم لئلاّ تهلكوا بجميع خطاياهم ( 27 ) فطلعوا من حوالي مسكن قورح وداثان وأبيرام وخرج داثان وأبيرام ووقفا في باب خيمتيهما مع نسائهما وبنيهما وأطفالهما ( 28 ) فقال موسى بهذا تعلمون أن الرب قد أرسلني لأعمل كلّ هذه الأعمال وإنّها ليست من نفسي ( 29 ) إنّ مات هؤلاء كموت كلّ إنسان وأصابتهم مصيبة كلّ إنسان فليس الرب قد أرسلني ( 30 ) ولكن إنّ إبتدع الرب بدعة وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكلّ ما لهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء القوم قد إزدروا بالرّب ( 31 ) فلما فرغ من التكلّم بكلّ هذا الكلام إنشقت الأرض التي تحتهم " 32 " وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكلّ من كان لقورح مع كلّ الأموال " 33 " فنزلوا هم وكلّ من كان لهم أحياء إلى الهاوية وانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة " 34 " وكلّ إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم لأنهم قالوا لعلّ الأرض تبتلعنا " 35 " وخرجت نار من عند الرب وأكملت المئتين والخمسين رجلاً الذين قربوا البخور " اهـ ، المراد منه ومبدأ هذه القصّة في أوّل الفصل 16 وفي آخره أنّه أخذهم الوباء إذ لم يتوبوا . وما في سورة البقرة من ذكر مسألة عبادة العجل وذكر مسألة طلب بني إسرائيل لرؤية الله جهرة وأخذ الصاعقة إياهم يدلّ على أن هذه الواقعة غير الأولى ونقلنا هنالك عن الأستاذ الإمام إختيار استقلال كلّ منهما دون الأخرى وقوله إنّها مذكورة في كتبهم فإن كان يعني ما نقلناه آنفاً عن سفر العدد أو ما في معناه وهو ممّا يذكر فيه عدد السبعين فلعله يُريد أنّ ما ذكر في القرآن مختصر بقدر العبرة كسنته وأن السبعين هم الذين أهلكوا أوّلاً وإنّ لم يذكر الكاتب عددهم ثمّ هلك غيرهم فكان الجميع 250 ، فإن كانت الآية تشير إلى هذه القصّة فقول موسى { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } إشارة إلى قورح وجماعته من اللاويين المغرورين المتمرّدين ، وهل هم الذين طلبوا من موسى رؤية الله تعالى جهرة لغرورهم بأنفسهم أم غيرهم ؟ وإنّ كانت في عابدي العجل فهي دليل على أن عقلاء بني إسرائيل وأصحاب الرؤية منهم لم يعبدوه وإنّما عبده السفهاء وهم الأكثرون . { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } " أن " نافية والفتنة الإختبار والإمتحان مطلقاً أو بالأمور الشاقة والباء في " بها " للسببية ، أي ما تلك الفعلة التي كانت سبباً لأخذ الرجفة إياهم إلاّ محنتك وإبتلاؤك الذي جعلته سبباً لظهور إستعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية ، وما يستحقون عليه من عقوبة ومثوبة ، وسنتك في جريان مشيئتك في خلقك بالعدل والحق ، والنظام الحكيم في الخلق ، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ولست بظالم لهم في تقديرك ، وتهدي من تشاء ولست بمحاب لهم في توفيقك ، بل أمر مشيئتك دائر بين العدل والفضل ، ولك الخلق والأمر . { أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } أي أنت المتولّي لأمورنا ، والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا ، فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك ، أو التقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك ، بأن تستر ذلك علينا ، وتجعله بعفوك كأنه لم يصدر عنّا ، وأرحمنا برحمتك الخاصّة ، فوق ما شملت به الخلق كلهم من رحمتك العامّة ، وأنت خير الغافرين حلماً وكرماً وجوداً ، فلا يتعاظمك ذنب ، ولا يعارض غفرانك ما يعارض غفران سواك من عجز أو ضعف أو هوى نفس - وما ذكر في المغفرة يدلّ على إعتبار مثله في الرحمة لدلالته عليه - أي وأنت خير الراحمين رحمة وأوسعهم فيها فضلاً وإحساناً ، فإن رحمة جميع الراحمين من خلقك ، نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك ، حذف ذكر الرحمة إستغناء عنه بذكر المغفرة فإن ترتيب التذييل في الثناء عليه تعالى على طلب مغفرته ورحمته معاً ، يقتضي أن يكون هذا الثناء بهما معاً ، فاكتفى بذكر الأوّلى لدلالتها على الثانية قطعاً ، فهو من الإيجاز المسمّى في علم البديع بالإكتفاء ، وقد غفل عن هذا من قال من المفسّرين أنّه إكتفى بذكر المغفرة لأنّها الأهم ، ولم لم يكتف بذكر الرحمة لأنها أعم ، ولأنّها قد تستلزم المغفرة دون العكس ، فإنّ معنى المغفرة سلبي وهو عدم المؤاخذة على الذنب ، والرحمة فوق ذلك فهي إحسان إلى المذنب لا يستحقه إلاّ بعد المغفرة ولذلك يقدّم ذكر المغفرة على ذكر الرّحمة ، لأنّ التخليّة كما يقولون مقدّمة على التحلية ، فلا يليق خلع الحلل النفسيّة ، إلاّ على الأبدان النظيفة ، وقد قال موسى عليه السلام في دعائه لنفسه ولأخيه { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ } [ الأعراف : 151 ] الآية ، وقال نوح عند توبته من سؤاله النجاة لولده الكافر { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ هود : 47 ] وعلّمنا تعالى من دعائه في خاتمة سورة البقرة : { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ } [ البقرة : 286 ] وقلّما ذكر اسم الله { ٱلْغَفُورُ } في كتابه العزيز إلاّ مقروناً بإسمه { ٱلرَّحِيمُ } ومن غير الأكثر قرنه بالشكور وبالحليم وبالودود ويقرب معناهن من معنى الرحيم ، وورد قرنه بالعفو وبالعزيز لإقتضاء المقام ذلك . ودعاء موسى عليه السلام هنا لنفسه مع قومه بضمير الجمع قد إقتضاه مقام المناجاة والمعرفة الكاملة ، ومن كان أعرف بالله وأكمل إستحضاراً لعظمته ، كان أشدّ شعوراً بالحاجة إلى مغفرته ورحمته ، وإن كان ما يستغفر منه تقصيراً صغيراً بالنسبة إلى ذنوب الغافلين والجاهلين ، أو من باب : حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، فإنّ كان هذا الدعاء عقب طلب الرؤية ، فوجّه طلبه للمغفرة والرحمة لنفسه أظهر ، لأنّ طلبه ذاك كان ذنباً له ، صرّح بالتوبة منه ، وإنّ كان عقب طلب السبعين رؤية الله جهرة فالأمر أظهر ، لأنّ الذنب مشترك ، وإن كان على أثر حادثة عبادة العجل ، فقد علم ما كان من شدّته فيها على أخيه هارون عليهما السلام ، وإنّه طلب لكل من نفسه وأخيه المغفرة على الإنفراد ، والرحمة بالإشتراك ، وإنّ كان عقب تمرّد بني إسرائيل الذي عاقبهم الله تعالى عليه بإهلاك بعضهم وتهديدهم بالإستئصال ، فإدخال نفسه معهم من باب الإستعطاف ، إذ لم ينقل عنه فيه شيء ممّا يعد من ذنوب الأنبياء عليهم السلام . تخطئة مَنْ إتّهم الكليم عليه السلام ، بالجرأة على ربّه في هذا المقام كنت في أوّل العهد بطلبي للعلم في طرابلس الشام أسمع بعض العلماء والأدباء ينقلون عن بعض الصوفيّة أن موسى عليه السلام لم يقل لربّه عزَّ وجلّ { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } [ الأعراف : 155 ] إلاّ وقد كان في مقام الإنس والإدلال ، الذي يطلق اللسان بمثل هذا المقال ، وإن هذا خير جواب عمّا قيل من أن هذا القول جرأة عظيمة تاب منها عليه السلام . وقال الألوسي في تفسير الآية : والقول بأن أقدامه عليه السلام على أن يقول ( أن هي إلاّ فتنتك جرأة عظيمة فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها - ممّا يأباه السوق ، عند أرباب الذوق ، ولا أظنّ أن الله تعالى عدّ ذلك ذنباً منه ، ليستغفره عنه ، وفي ندائه السابق ما يؤيّد ذلك اهـ . وأقول لا مجال للقول بالجرأة ولا بالإدلال ، وما كان هذا بالذي يخطر للعربي القحّ ببال ، ولا للعالم الدقيق بمعاني المفردات وأساليب المقال ، وسببه كلمة " الفتنة " فقد إشتهر من عهد بعيد فيما أظن أن معناها إغراء الشرّ بين الناس وأراهم يتناقلون إستعمال قوله تعالى : { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } [ البقرة : 191 ] بهذا المعنى ، وله أصل في إستعمال العرب فإنّها تطلق على الحرب ويوصف الشيطان بالفتان . ولكن هذا وذاك من المعاني الفرعيّة لهذه المادة وإنّما معناها الأصلي الذي تفرّعاهما وأمثالهما وأضدادهما منه الإمتحان والإختبار ولا سيّما الشاق الذي يظهر به جيّد الشيء أو الشخص من رديئه ، كعرض الذهب على النار : لتصفية الغشّ من النضار ، ومثله الفضّة بل كلّ ما أدخل النار يسمّى مفتوناً كما يقال دينار أو درهم مفتون ، ويسمّى حجر الصائغ الفتانة ، وقد ورد تسمية الملكين اللذين يمتحنان الناس عقب الموت بفتاني القبر ، وفسّروا فتنة الممات وفتنة القبر بسؤال الملكين ، وقال تعالى : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] أي إختبار لكم يتبيّن بهما قدر وقوفكم عند الحق وإلتزامكم الكسب الحلال ، وقال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] . وجملة القول أن الفتن والفتون مصدري فتن معناهما الإبتلاء للإختبار وظهور حقيقة حال المفتونين أو لتصفيتهم وتمحيصهم ، ومن الأوّل قوله تعالى لموسى في هذه الواقعة التي نحن بصدد تفسيرها على قول بعضهم : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } [ طه : 85 ] فقوله عليه السلام لربّه : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } مأخوذ من قول ربّه له : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } [ طه : 85 ] فلا جرأة فيها ولا إدلال ، دع ما يرد هذه الدعوى من منافاتها لموقف التوبة والإستغفار - ومن الثاني قوله تعالى له في قصّته من سورة طه { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } [ طه : 40 ] أي صفّيناك من الشوائب حتى صرت أهلاً لإصطناعنا ورسالتنا . وتقدّم تحقيق هذا اللفظ من قبل . { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ } أي وأثبت وأوجب لنا برحمتك وفضلك حياة حسنة في هذه الدنيا من العافية وبسط الرزق ، وعزّ الإستقلال والملك ، والتوفيق للطاعة ، ومثوبة حسنة في الآخرة بدخول جنّتك ونيل رضوانك ، فهو كقوله تعالى فيما علمنا من دعائه : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] فإنّ ثمرة دين الله على ألسنة جميع رسله سعادة الدارين : الدنيا والآخرة { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } في لسان العرب : هاد يهود هوداً ( أي من باب قال ) وتهوّد تاب ورجع إلى الحق فهو هائد ، وقوم هود - مثل حائك وحوك وبازل وبزل - قال أعرابي ( أنّي إمرؤ من مدحه هائد ) وفي التنزيل { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي تبنا إليك وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم . قال ابن سيده : عداه بإلى لأنّ فيه معنى رجعنا . ابن الأعرابي : هاد - إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير ، وداه إذا عقل ويهود اسم القبيلة قال : @ أولئك أولى من يهود بمدحه إذا أنت يوماً قلّتها لم تؤنب @@ وقيل إنّما هذه القبيلة يهوذ فعربت بقلب الذال دالاً . … اهـ ، ملخّصاً والمعنى إنّا تبنا إليك ممّا فرط من سفهائنا من طلب الآلهة وعبادة العجل ، وتقصير خيارنا في الإنكار عليهم - أو من طلب رؤيتك - أو من تمرّد المغرورين على شريعتك ، وكفر نعمتك - تبنا ورجعنا إليك في جملتنا مستغفرين مسترحمين كما فعل أبونا آدم إذ تاب إليك من معصيته فتبت عليه وهديته واجتبيته ، فكانت تلك سنّتك في ولده - يدلّ على هذا المعنى فضل قوله : " إنّا هدنا إليك " فإنّه في مقام التعليل والإستدلال على إستحقاق التائب المنيب بالقول والفعل والإعتقاد للمغفرة وقد كان ممّا حكاه الله تعالى من وحيه إلى موسى في سورة طه : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] وبماذا أجابه الله تعالى ؟ { قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي قد كان من سبق رحمتي غضبي أن أجعل عذابي خاصاً أصيب به من أشاء من الكفّار والعصاة المجرمين وأما رحمتي فقد وسعت كلّ شيء في العالمين ، فهي من صفاتي القديمة الأزلية التي قام بها أمر العالم منذ خلقته ، والعذاب ليس من صفاتي بل من أفعالي المرتبة على صفة العدل ، ولهذا عبر عن التعذيب بالفعل المضارع وعن تعلق الرحمة بالفعل الماضي وهذه الرحمة هي العامّة المبذولة لكل مخلوق ولولاها لهلك كلّ كافر وعاص عقب كفره وفجوره ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] وهنالك رحمة خاصة يوجبها ويكتبها تعالى لبعض المؤمنين المحسنين ويبذل ما شاء منها لمَنْ شاء بغير كتابة منه ، وما كتابته إلاّ فضل منه ورحمة ، وأمّا العذاب فلم يرد في الكتاب ولا في خبر المعصوم أن الله تعالى كتبه على نفسه ، ولكن أثبته وتوعد به فكان لابد من وقوعه ، ولأنّه من متعلقات صفتي العدل والحكمة ، وقد أفرط قوم في النظر إلى عموم الرحمة وغفلوا عن النظر في مقتضى العدل والحكمة ، والوعيد على الكفر والمعصية ، فذهب بعضهم إلى عدم تعذيب أحد من المؤمنين ، وآخرون إلى عدم تعذيب أحد من العالمين ، ومن هؤلاء بعض غلاة التصوّف الذين زعموا أن العذاب صوري لا حقيقي وأنّه مشتق من العذوبة وأنّ في جهنّم من هم أحب إلى الله تعالى من كثير من أهل الجنّة - جعلهم الله منهم - وأفرط آخرون في النظر إلى مقتضى الحكمة فأوجبوا عليه تعالى تعذيب العصاة بإرتكاب الكبائر لا الكفّار فقط ، ولولا أن صار هذا وذاك مذهباً لسهل جمع كلمة الفريقين على الأخذ بظواهر نصوص القرآن ، في كلّ صفة من صفات الرحمن ، ولما قال مثل الزمخشري من جهابذة البيان ، في تفسير قوله تعالى : { عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ } أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لأنّه مفسدة انتهى فقد فسّر مَنْ يشاء تعالى تعذيبه بمن وجب عليه تعذيبه ، وجماعته يقولون إن هذا وجوب عقلي لا يدخل في الإمكان سواه ولا تتعلق القدرة بخلافه ، وهذا المعنى ينافي المشيئة منافاة قطعيّة فكيف تفسّر به ؟ يا ليت الزمخشري لم ينتحل مذهباً ولم ينظر في خلاف المذاهب ، وإذا لكان كشافه حجّة على جميع أصحابها ومرجعاً لهم في تحرير معاني نصوص الكتاب والسنّة وآثار السلف إذ كان من أدقّ علماء هذه اللّغة فهما وأحسنهم بياناً لما فهم ، ومسألة الوجوب على الله تعالى نظرية فكرية لا لغوية ، والجمع بين الحكمة والرحمة لا يقتضي أن يجب على الله تعالى شيء لذاته ، وليس في النصوص ما يدلّ على هذا الوجوب إلاّ أن يوجبه تعالى بمشيئته ، بمعنى كتابته وجعله أمراً مقضياً ، وليس في إيجابه على نفسه بمشيئته ما في إيجاب عقول خلقه عليه من معنى إستعلاء غيره عليه تعالى - أو من إيهام كونه عزَّ وجلّ محكوماً بما ينافي سلطانه الإختياري الذي هو فوق كلّ سلطان ، بل لا سلطان سواه ، وإنّما سلطان غيره به ومنه ؛ فلو لم يكن في إختلاف التعبير إلاّ مراعاة الأدب لكفى . { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ، إلخ أي وإذ كان الأمر كذلك فسأكتب رحمتي كتبة خاصّة وأثبتها بمشيئتي إثباتاً لا يحول دونه شيء للذين يتّقون الكفر والمعاصي والتمرّد على رسولهم ، ويُؤتون الصدقة المفروضة التي تتزكّى بها أنفسهم ، وغيرها من أركان الدين ، وخصّ الزكاة بالذكر دون الصلاة وما دونها من الطاعات لأنّ فتنة حبّ المال تقتضي بنظر العقل والإختبار بالفعل أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين لغيرها من الفرائض . وفيه إشارة إلى شدّة حبّ اليهود للدنيا وإفتتانهم بجمع المال ومنع بذله في سبيل الله ، وقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } معناه وسأكتبها كتبة خاصّة للذين يصدّقون بجميع آياتنا التي تدلّ على توحيدنا وصدّق رسلنا تصديق إذعان ، مبني على العلم والإيقان ، دون التقليد للآباء وعصبيات الأقوام ، ونكتة إعادة الموصول ( الذين ) مع الضمير ( هم ) إمّا جعل الموصول الأوّل عامّاً لقومه الذين دعا لهم ، من استمروا على إلتزام التقوى وأداء الزكاة منهم وجعل الثاني خاصّاً بمن يدركون بعثة خاتم الرّسل عليه السلام ويتّبعونه كما يعلم ممّا بعده - وإمّا لبيان الفصل بين مفهوم الإسلام ومفهوم الإيمان والتعريض بأن الذين طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة والذين عبدوا العجل والذين قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] لم يكونوا مؤمنين بآيات الله العامّة ولا الخاصّة التي جاء بها نبيّهم إذ لم يكونوا يعقلونها بل كانوا متّبعين له لإنقاذهم من ظلم المصريين ، وبيان أن كتابة الرحمة الخاصّة إنّما تكون لمَنْ جمعوا بين الإسلام وهو إتباع الرسل بالفعل ، والإيمان الصحيح بالآيات الإلهيّة المفيدة لليقين المانع من العودة إلى الشرك بمثل عبادة العجل والمقتضى لإتباع من يأتي من الرسل بمثل هذه الآيات ، وفي هذا توطئة لما بعده ، فهو بيان لصفة من يكتب تعالى لهم الرحمة على الإطلاق ، ويدخل فيهم موسى عليه السلام ومَنْ يصدّق عليهم ما ذكر من قومه وذلك يفيد إستجابة دعائه بشرطه ، ويليه بيان أحق الأمم بهذه الرحمة ذكر على سبيل الإستطراد المقصود بالذات على سنّة القرآن ، في الإنتقال من قصص الرسل إلى أمّة خاتم الرسل - عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو قوله عزَّ وجلّ : { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ } فصل الاسم الموصول هنا لأنّه بيان مستأنف للموصول الأخير أو للموصولين اللذين قبله معاً ، وهم الذين يُنفقون ويُؤتون الزكاة ، والذين يؤمنون بالآيات ، ولو وصله فقال : { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ } ، إلخ لكان مغايراً لهما في المصداق لا في المفهوم بأن يراد بالأخير مَنْ يدركون بعثة الرسول النبيّ الأمّي ويتّبعونه بالفعل في زمنه وبعد زمنه ، ويراد بمن قبلهم من يصدّق عليهم معنى صلة الموصولين في زمن موسى وما بعد إلى زمن محمّد عليهما السلام ، ومعنى الفصل على الوجه الأخير إتحاد الموصولات الثلاثة في المفهوم والمصداق جميعاً . والمعنى : إنّ كتابة الرحمة كتبة خاصّة هي للمتّصفين بما دلّت عليه صلات الموصولات الثلاثة وإنّما هم الذين يتّبعون الرسول الموصوف بأنّه النبيّ الأُمي نسبة إلى الأُم ، والمراد به الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وكان أهل الكتاب يسمّون العرب بالأمّيين ، ولعلّه كان لقباً لأهل الحجاز ومَنْ جاورهم دون أهل اليمن . لكن ظاهر قوله تعالى في الخونة من اليهود : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] العموم وليس بنصّ فيه ، وقال تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ولم ينقل أن الله تعالى بعث نبيّاً أُمّيّاً غير نبيّنا صلى الله عليه وسلم فهو وصف خاص لا يُشارك محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلم فيه أحد من النبيّين . والأمّيّة آية من أكبر آيات نبوّته فإنّه جاء بعد النبوّة بأعلى العلوم النافعة وهي ما يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم وأحكامهم وعمل بها فكان لها من التأثير في العالم ما لم يكن ولنّ يكون لغيره من خلق الله ، وتعريف الرسول والنبيّ الموصوف بالأمّيّة كلاهما للعهد كما يعلم ممّا سنبينه من بشارات الأنبياء بنبيّنا صلى الله عليه وسلم . والرسول في إصطلاح الشرع أخصّ من النبيّ فكلّ رسولٍ نبيّ وما كلّ نبيّ رسول ، ولذلك جعل بعض المفسّرين نكتة تقديم الرسول على النبيّ هنا كونه أهم وأشرف أو أنهما ذكرا هنا بمعناهما اللغوي كقوله : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } [ مريم 51 ] وما أشرنا إليه من نكتة التقديم أظهر ، وهو أن النبيّ الأمّي وصف مميّز للرسول الذي يجب على كلّ أحد إتباعه متى بُعث ، وأن الرسول هو المعروف الذي نزل فيه : { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [ آل عمران : 81 ] إلخ آيته المعروفة في سورة آل عمران . والنبيّ في اللغة ( فعيل ) من مادة النبأ بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن أو بمعنى الإرتفاع وعلوّ الشأن والأوّل أظهر وأكثر العرب لا تهمزه بل نقل أنّه لم يهمزه إلاّ أهل مكّة ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنكر على رجل قال له يا نبيّ الله . وأمّا في الإصطلاح فالنبيّ من أوحى الله إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم بكسبه من خبر أو حكم يعلم به علماً ضرورياً إنّه من الله عزَّ وجلّ ، والرسول نبيّ أمره الله تعالى بتبليغ شرع ودعوة دين وبإقامته بالعمل ، ولا يشترط في الوحي إليه أن يكون كتاباً يقرأ وينشر ، ولا شرعاً جديداً يعمل به ويحكم بين الناس . بل قد يكون تابعاً لشرع غيره كلّه كالرسل من بني إسرائيل كانوا متبعين لشريعة التوراة عملاً وحكماً بين الناس كما قال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } [ المائدة : 44 ] الآية . وقد يكون ناسخاً لبعضه كما نسخ عيسى عليه السلام بعض أحكام التوراة وأقر أكثرها كما يدلّ على ذلك مثل قوله تعالى حكاية لما خاطب به بني إسرائيل : { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عمران : 50 ] وسيرته المأثورة عن الإنجيليين الأربعة وغيرهم تدل على ذلك ففيها أنّه ما جاء لينقض الناموس ( أي التوراة ) وإنّما جاء ليتمم ، وأنّه أحل لهم بعض ما حرم عليهم حتى ما دل عليه عموم ترك العمل يوم السبت فخصّه بغير العمل الصالح من أمور الدنيا بل نرى فرق النصارى الرسميين بعد تكوين نظام الكنيسة قد تركوا ما عدا الوصايا العشر من شريعة التوراة واستبدلوا يوم الأحد بيوم السبت فيما حرمت الوصايا من العمل فيه وخالف الأكثرون وصية النهي عن إتّخاذ الصور والتماثيل ولكن لا يستطيعون أن يأتوا بدليل على هذا من قول المسيح ولا من فعله . وجملة القول أن الرسول أخص في عرف شرعنا من النبيّ ، فكل رسول نبيّ ولا عكس ، وإذا أطلق الرسول بالمعنى الذي يعمّ رسل الملائكة كان من هذا الوجه أعم من النبيّ لأنّ الله إصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس ، ولم يجعل فيهم أنبياء . فنبينا صلى الله عليه وسلم نبيّ رسول ، وجبريل عليه السلام رسول غير نبيّ ، وآدم عليه السلام نبيّ غير رسول كأكثر أنبياء بني إسرائيل ، وهذا على قول المحققين في نصّ حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما الناطق بأن نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، وقد تقدّم في الكلام على عدد الرسل من تفسير سورة الأنعام جواز تسميته رسولاً في عرف بعض أهل الكلام ، وأنّهم لهذا العرف عدّوه من الرسل الذين تجب معرفة رسالتهم وأوّل هؤلاء حديث الشفاعة تأويلات تجدها هنالك . وصف الله الرسول الذي أوجب إتباعه على كلّ من أدركه من بني إسرائيل وغيرهم بصفات ونعوت : أوّلها : ( أنّه هو النبيّ الأمّي الكامل ) . ثانيها : قوله تعالى : { ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } ومعناه الذي يجد الذين يتبعونه من بني إسرائيل صفته ونعوته مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل ، وإنّما ذكر الإنجيل والسياق في قوم موسى لأنّ المخاطب به بالذات بنو إسرائيل ، وممّا هو مأثور عن المسيح عليه السلام في هذه الأناجيل : لم أبعث إلاّ إلى خراف إسرائيل الضالّة . ولا يعارضه ما رووا عنه من أمره تلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلّها إذ يجمع بينهما أن يراد بالخليقة ما كانوا يسمونه ( اليهودية ) والعبارة الأولى نصّ بصيغة الحصر لا تحتمل التأويل . وقال أبو السعود ( الذي يجدونه مكتوباً ) باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنّه هو ولذلك عدل عن أن يقال يجدون نعته أو وصفه مكتوباً عندهم ، والظرف ( عندهم ) لزيادة التقرير وأن شأنه عليه السلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم اهـ وسيأتي بيان ذلك في فصل خاصّ . ثالثها ورابعها : قوله : { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } يحتمل أنّه إستئناف لبيان أهم ما يحتاجون إليه عند بعثته - ويحتمل أنّه تفسير لما كتب . والمعروف ما تعرف العقول السليمة حسنة وترتاح القلوب الطاهرة له لنفعه وموافقته للفطرة والمصلحة بحيث لا يستطيع العاقل المنصف السليم الفطرة أن يرده أو يعترض عليه إذا ورد الشرع به . والمنكر ما تنكره العقول السليمة وتنفر منه القلوب وتأباه على الوجه المذكور أيضاً . وأمّا تفسير المعروف بما أمرت به الشريعة والمنكر بما نهت عنه فهو من قبيل تفسير الماء بالماء . وكون ما قلناه يثبت مسألة التحسين والتقبيح العقليين وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشعرية مردود إطلاقه بأننا إنّما نوافق كلا منهما من وجه ونخالفه من وجه إتباعاً لظواهر الكتاب والسنّة وفهم السلف لهما فلا ننكر إدراك العقول لحسن الأشياء مطلقاً ولا نقيد التشريع بعقولنا ولا نوجب على الله شيئاً من عند أنفسنا بل نقول إنّه لا سلطان لشيء عليه فهو الذي يوجب على نفسه ما شاء إن شاء كما كتب على نفسه الرحمة لمَنْ شاء وأن من الشرع ما لم تعرف العقول حسنة قبل شرعه ، وأن كلّ ما شرعه تعالى يطاع بلا شرط ولا قيد . قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذا الأمر والنهي ما نصه : هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة ، وهكذا كانت حاله عليه السلام لا يأمر إلاّ بخير ولا ينهى إلاّ عن شر كما قال عبد الله بن مسعود إذا سمعت الله يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ المائدة : 1 ] فارعها أسمعك فإنّه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه . ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن عبادة ما سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله كما قال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] وقال الإمام أحمد - وذكر سنده إلى أبي حميد وأبي أسيد ( رضي الله عنهم ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنّه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنّه منكم بعيد ، فأنا أبعدكم منه " رواه أحمد ( رضي الله عنهم ) بإسناد جيّد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب . خامسها وسادسها : قوله تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ } الطيب ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وتستفيد منه التغذية النافعة ، ومن الأموال ما أخذ بحق وتراض في المعاملة . والخبيث من الأطعمة ما تمجه الطباع السليمة وتستقذره ذوقاً كالميتة والدم المسفوح ، أو تصدّ عنه العقول الراجحة لضرره في البدن كالخنزير الذي نتولد من أكله الدودة الوحيدة - أو لضرره في الدين كالذي يذبح للتقرّب به إلى غير الله تعالى على سبيل العبادة ، أي لا ما يذبح لتكريم الضيفان ، من صغير وكبير أو أمير أو سلطان . والذي يحرّم ذبحه أو أكله لتشريع باطل لم يأذن به الله كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . والخبيث من الأموال ما يؤخذ بغير حق كالرّبا والرشّوة والغلول والسرقة والخيانة والغصب والسحت . وقد كان الله تعالى حرّم على بني إسرائيل بعض الطيبات عقوبة لهم كما قال : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] الآية . وتقدّم تفسيرها في سورة النساء . وحرّموا هم على أنفسهم طيبات أخرى لم يحرّمها الله تعالى عليهم ، وأحلوا لأنفسهم أكل أموال غير الإسرائيليين بالباطل كما حكى الله تعالى عليهم بعد ذكر إستحلال بعضهم أكل ما يأتمنهم عليه العرب : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 75 ] وتقدّم تفسيرها في سورة آل عمران . سابعها : قوله تعالى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله ، وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته نحو إشتراط قتل الأنفس في صحّة توبتهم . وكذلك الأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشّاقة ، قالهما الزمخشري . وذكر للثاني عدّة أمثلة من شدّة أحكام التوراة . وقال ابن كثير : أي أنّه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " بعث بالحنيفية السمحة " وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن : " بشّروا ولا تنفروا ، ويسّروا ولا تعسروا ، وتطاوعا ولا تختلفا " والحديث رواه الشيخان وغيرهما وحاصل ما تقدّم أن بني إسرائيل كانوا فيما أخذوا به من الشدّة في أحكام التوراة من العبادات والمعاملات الشّخصيّة والمدنيّة والعقوبات كالذي يحمل أثقالاً يئط منها وهو مع ذلك موثّق بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه . وقد بيّنا في مواضع أخرى حكمة أخذ بني إسرائيل بالشدّة في الأحكام وأن المسيح عليه السلام خفّف عنهم بعض التخفيف في الأمور المادية وشدّد عليهم في الأحكام الروحية لما كان من إفراطهم في الأولى وتفريطهم في الأخرى ، وكلّ هذا وذاك قد جعله الله تعالى تربية موقوتة لبعض عباده ليكمل إستعدادهم للشريعة الوسطى العادلة السمحة الرحيمة التي يبعث بها خاتم الرسل الذي أوجب إتباعه على كلّ من أدركه من الرسل وأقوامهم . { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } يطلق التعزير في اللّغة على الرّد والضرب والمنع والتأديب والتعظيم . وقال الراغب : التعزير النصرة مع التعظيم . وروي عن ابن عباس : عزّروه عظّموه ووقّروه . ولكن ورد في سورة الفتح : { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفتح : 9 ] والأقرب إلى فقه اللّغة ما حقّقه الزمخشري في الكشاف هنا قال ( وعزروه ) ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ ، وأصل العزر المنع ، ومنه التعزير للضرب دون الحدّ ، لأنّه منع عن معاودة القبيح ألاّ ترى إلى تسميته الحدّ ، والحدّ هو المنع اهـ وجاء في لسان العرب بعد نقل الأقوال ، وجعله من قبيل الأضداد : والعزر النصر بالسيف ، وعزره عزرا ، وعزره ( تعزيراً ) أعانه وقوّاه ونصره ، قال الله تعالى : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } [ الفتح : 9 ] وقال تعالى : { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } [ المائدة : 12 ] جاء في التفسير . لتنصروه بالسيف ومن نصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالسيف فقد نصر الله عزَّ وجلّ ، وعزرتموهم عظّمتموهم ، وقيل : نصّرتموهم قال إبراهيم بن السري : وهذا هو الحقّ والله تعالى أعلم - وذلك أنّ العزر في اللّغة الرّد والمنع ، وتأويل عزرت فلاناً أي أدبته إنّما تأويله فعلت به ما يردعه عن القبيح ، كما إذا نكّلت به تأويله فعلت به ما يجب أن ينكل معه عن المعاودة . فتأويل عزرتموهم نصرتموهم بأن تردوا عنهم أعداءهم ، ولو كان التعزير هو التوقير لكان الأجود في اللّغة الإستغناء به والنصرة إذا وجبت فالتعظيم داخل فيها ، لأنّ نصرة الأنبياء هي المدافعة عنهم أو الذب عن دينهم وتعظيمهم وتوقيرهم اهـ . المراد منه . والمعنى أن الذين آمنوا - أي يؤمنون - بالرسول النبيّ الأُمي عند مبعثه أي من قوم موسى ومن كلّ قوم - فإنّه لم يقل فالذين آمنوا به منهم بل أطلق - ويعزرونه بأن يمنعوه ويحموه من كلّ من يعاديه مع التعظيم والإجلال ، لا كما يحمون بعض ملوكهم مع الكره والإشمئزاز ، ونصروه باللسان والسنان ، وإتّبعوا النور الأعظم الذي أنزل مع رسالته وهو القرآن ، أولئك هم المفلحون ، أي الفائزون بالرحمة العظمى والرضوان ، دون سواهم من أهل كلّ زمان ومكان . فمنهم الفائزون بدون ما يفوّز به هؤلاء ، كأتباع سائر الأنبياء ، ومنهم الخائبون المخذلون ؛ أولئك حزب الشيطان ألاّ أن حزب الشيطان هم الخاسرون . فصل في بيان بشارات التوراة والإنجيل وغيرهما بنبينا صلّى الله عليه وآله وسلم أعلم أنه قد سبق لنا ذكر بشارات كتب أنبياء بني إسرائيل بنبينا صلى الله عليه وسلم في مواضع من هذا التفسير بعضها بالإجمال وبعضها بشيء من التفصيل وفي مواضع من المنار كما يعلم من فهارسهما ، ونريد هنا أن نفصّل القول في ذلك تفصيلاً كافياً لأنّه هو المكان المناسب له أتم المناسبة ، فنقول . كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى يتناقلون خبر بعثته صلى الله عليه وسلم فيما بينهم ويذكرون البشارات به من كتبهم حتى إذا ما بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون وكان علماؤهم يصرحون بذلك كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود وتميم الداري من علماء النصارى وغيرهم من الذين أسلموا في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهم ، والروايات في هذه كثيرة ، ومن أعجبها قصّة سلمان الفارسي ( رضي الله عنه ) وأمّا الذين أبوا واستكبروا فكانوا يكتمون البشارات به في كتبهم ويؤلون ما بقي منها لمَنْ أطلع عليه ويكتمونه عمن لم يطلع عليه ، وقد أربى المتأخرون ولا سيّما الإفرنج منهم على المتقدمين في المكابرة والتأويل والتضليل . لذلك وضّح العلامة المحقق الشيخ رحمة الله الهندي هذه المسألة في كتابه ( إظهار الحقّ ) بأمور جعلها مقدمات لبشارات تلك الكتب به صلى الله عليه وسلم فرأينا أن نقتبسها بنصّها ، قال رحمه الله تعالى في سياق مسالك الإستدلال على نبوّته صلى الله عليه وسلم ما نصّه : المسلك السادس أخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته عليه السلام ، ولما كان القسيسون يغلطون العوام في هذا الباب تغليطاً عظيماً إستحسنت أن أقدم على نقل تلك الأخبار أموراً ثمانية تفيد الناظر بصيرة . الأمر الأوّل إنّ الأنبياء الإسرائيليّة مثل أشعيا وأرميا ودانيال وحزقيال وعيسى عليهم السلام أخبروا عن الحوادث الآتية ، كحادثة بخت نصر ، وقورش والإسكندر وخلفائه ، وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوى وبابل ، ويبعد كلّ البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمّد صلى الله عليه وسلم الذي كان وقت ظهوره كأصغر البقول ، ثمّ صار شجرة عظيمة تتأوى طيور السماء في أغصانها ، فكسر الجبابرة والأكاسرة ، وبلغ دينه شرقاً وغرباً وغلب الأديان ، وامتد دهراً بحيث مضى على ظهوره مدّة ألف ومائتين وثمانين إلى هذا الحين ، ويمتد إنّ شاء الله إلى آخر بقاء الدنيا . وظهر في أمّته ألوف ألوف من العلماء الربانيين ، والحكماء المتقنين ، والأولياء ذوي الكرامات والمجاهدات ، والسلاطين العظام . وهذه الحادثة كانت أعظم الحوادث ، وما كانت أقل من حادثة أرض أدوم ونينوى وغيرهما ، فكيف يجوز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة وتركوا الأخبار عن هذه الحادثة العظيمة . الأمر الثاني إنّ النبيّ المقدّم إذا أخبر عن النبيّ المتأخر لا يشترط في أخباره أن يخبر بالتفصيل التام بأنّه يخرج من القبيلة الفلانيّة ، في السنّة الفلانيّة ، في البلد الفلاني ، وتكون صفته كيت وكيت ، بل يكون هذا الأخبار في غالب الأوقات مجملاً عند العوام ، وأمّا عند الخواص فقد يصير جلياً بواسطة القرائن ، وقد يبقى خفيا عليهم أيضاً لا يعرفون مصداقه إلاّ بعد إدعاء النبيّ اللاحق أن النبيّ المتقدم أخبر عني وظهور مصدق إدعائه بالمعجزات ، وعلامات النبوّة ، وبعد الإدعاء ، وظهور صدقه يصير جلياً عندهم بلا ريب ، ولذلك يعاتبون كما عاتب المسيح عليه السلام علماء اليهود بقوله : ( 52 ويل لكم أيّها الناموسيون لأنّكم أخذتم مفتاح المعرفة ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم ) كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل لوقا وعلى مذاق المسيحين قد يبقى خيفاً على الأنبياء فضلاً عن العلماء ، بل قد يبقى خفياً على النبيّ المخبر عنه على زعمهم في الباب الأوّل من إنجيل يوحنّا هكذا 19 : ( وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاوبين ليسألوه من أنت ) ؟ 20 : ( فاعترف ولم ينكر ، وأقر إني لست أنا المسيح ) 21 : ( فسألوه إذاً ماذا ؟ أنت إيليا ؟ فقال : أنا لست إيليا ، فسألوه أنت النبيّ ؟ فأجاب : لا ) 22 : ( فقالوا له : من أنت لنعطي جواباً للذين أرسلونا ؟ ماذا تقول عن نفسك ) ؟ 23 : ( قال : أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب ، كما قال أشعياً النبيّ ) 24 : ( وكان المرسلون من الفريسيين ) 25 : ( فسألوه وقالوا له : فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبيّ ) . والألف واللام في لفظ النبيّ الواقع في الآية 21 و 25 للعهد ، والمراد النبيّ المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام في الباب الثامن عشر من سفر الإستثناء . على ما صرّح به العلماء المسيحيّة ، فالكهنة واللاويون كانوا من علماء اليهود وواقفين على كتبهم ، وعرفوا أيضاً أنّ يحيى عليه السلام نبيّ ، لكنّهم شكّوا في أنّه المسيح عليه السلام أو إيليا عليه السلام أو النبيّ المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام ، فظهر منه أن علامات هؤلاء الأنبياء الثلاثة لم تكن مصرحة في كتبهم بحيث لا يبقى الإشتباه للخواص فضلاً عن العوام ، فلذلك سألوا أولاً : أنت المسيح ؟ فبعدما أنكر يحيى عليه السلام عن كونه مسيحاً ، سألوه : أنت إيليا ؟ فبعد ما أنكر عن كونه إيليا ؟ أيضاً سألوه أنت النبيّ أي ( المعهود ) ؟ ولو كانت العلامات مصرحة لما كان للشك محل ، بل ظهر منه أن يحيى عليه السلام لم يعرف نفسه أنّه إيليا حتى أنكر فقال : لست أنا ، وقد شهد عيسى أنّه إيليا في الباب الحادي عشر من إنجيل متّي قول ( ؟ ) عيسى عليه السلام في حق يحيى عليه السلام هكذا 14 : ( وإنّ أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي ) وفي الباب السابع عشر من إنجيل متّي هكذا 10 : ( وسأله تلاميذه قائلين فماذا يقول الكتبة : إن إيليا ينبغي أن يأتي أولا ) 11 : ( فأجاب يسوع وقال لهم : إن إيليا يأتي أولا ويرد كلّ شيء ) 12 : ( ولكنّي أقول لكم : إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه ، بل عملوا به كلّ ما أرادوا ، كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم ) 13 : ( حينئذ فهم التلاميذ أنّه قال لهم عن يوحنا المعمدان ) وظهر من العبارة الأخيرة أن علماء اليهود لم يعرفوه بأنّه إيليا وفعلوا به ما فعلوا ، وإن الحواريين أيضاً لم يعرفوه بأنّه إيليا ، مع أنّهم كانوا أنبياء في زعم المسيحيين ، وأعظم رتبة من موسى عليه السلام ، وكانوا إعتمدوا من يحيى عليه السلام ورأوه مراراً ، وكان مجيئه ضرورياً قبل إلههم ومسيحهم - وفي الآية 33 من الباب الأوّل من إنجيل يوحنا قول يحيى هكذا ( وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي : الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس ) ومعنى قوله ( وأنا لم أكن أعرفه ) على زعم القسيسين أنا لم أكن أعرفه معرفة جيدة بأنّه المسيح الموعود به ، فعلم أن يحيى عليه السلام ما كان يعرف عيسى عليه السلام معرفة يقينية بأن المسيح الموعود به إلى ثلاثين سنة ما لم ينزل الروح القدس ، لعل كون ولادة المسيح من العذراء لم يكن من العلامات المختصّة بالمسيح ، وإلاّ فكيف يصحّ هذا ؟ لكنّي أقطع النظر عن هذا وأقول : إنّ يحيى أشرف الأنبياء الإسرائيليّة بشهادة عيسى عليه السلام ، كما هو مصرّح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متّي ، وأن عيسى عليه السلام إلهه وربّه على زعم المسيحيين ، وكان مجيئه ضرورياً قبل المسيح ، وكان كونه إيليا يقينياً ، فإذا لم يعرف هذا النبيّ الأشرف نفسه إلى آخر العمر ، ولم يعرف إلهه وربّه إلى المدّة المذكورة ، وكذا لم يعرف الحواريون الذين هم أفضل من موسى وسائر الأنبياء الإسرائيليّة مدّة حياة يحيى أنّه إيليا فماذا رتبة العلماء والعوام عندهم في معرفة النبيّ اللاحق بخبر النبيّ المتقدّم عنه وترددهم فيه ؟ وقيافاً رئيس الكهنة كان نبياً على شهادة يوحنا ، كما هو مصرّح به في الآية الحادية والخمسين من الباب الحادي عشر من إنجيله ، وهو أفتى بقتل عيسى عليه السلام وكفره وأهانه ، كما هو مصرّح به في الباب السابع والعشرين من إنجيل متّى ، ولو كانت علامات المسيح في كتبهم مصرّحة بحيث لا يبقى الإشتباه ( فيها ) على أحد ما كان مجال لهذا النبيّ المفتي بقتل إلهه وبكفره أن يفتي بقتله وكفره . ونقل متى ولوقاً في الباب الثالث ومرقس ويوحنا في الباب الأوّل من أناجيلهم خبر أشعيا في حق يحيى عليهما السلام ، وأقرّ يحيى عليه السلام بأن هذا الخبر في حقّه على ما صرّح به يوحنا ، وهذا الخبر في الآية الثالثة من الباب الأربعين من كتاب أشعيا هكذا ( صوت المنادي في البرية سهلوا طريق الرب أصلحوا في البوادي سبيلاً لإلهنا ) ولم يذكر فيه شيء من الحالات المختصّة بيحيى عليه السلام لا من صفاته ، ولا من زمان خروجه ، ولا مكان خروجه ، بحيث لا يبقى الإشتباه ، ولو لم يكن إدعاء يحيى عليه السلام بأن هذا الخبر في حقّه وكذا إدعاء مؤلفي العهد الجديد لما ظهر هذا للعلماء المسيحيّة وخواصّهم فضلاً عن العوام لأنّ وصف النداء في البرية يعم أكثر الأنبياء الإسرائيليّة الذين جاؤا من بعد أشعيا عليه السلام ، بل يصدّق على عيسى عليه السلام أيضاً ، لأنّه كان ينادي مثل نداء يحيى عليه السلام : توبوا لأنّه قد إقترب ملكوت السماء وسيظهر لك في ( الأمر السادس ) حال الإخبارات التي نقلها الأنجيليون في حق عيسى عليه السلام عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام . ولا ندعي أن الأنبياء الذين أخبروا عن محمّد صلى الله عليه وسلم كان إخبار كلّ منهم بصفته مفصّلاً بحيث لا يكون فيه مجال التأويل للمعاند . قال الإمام الفخر الرازي في ذيل تفسير قوله تعالى : { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 42 ] : وأعلم أن الأظهر في الباء في قوله : ( بالباطل ) إنّها باء الإستعانة كالتي في قولك كتبت بالقلم . والمعنى ( لا تلبسوا الحق ) بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين . وذلك لأنّ النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمّد عليه السلام كانت نصوصاً خفيّة تحتاج في معرفتها إلى الإستدلال ، ثمّ إنّهم كانوا يجادلون فيها ويشوّشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات ، إنتهى كلامه بلفظه . وقال المحقق عبد الحكيم السيالمكوتي في حاشيته على البيضاوي : هذا فصل يحتاج إلى مزيد شرح ، وهو أنّه يجب أن يتصور أن كلّ نبيّ أتى بلفظه معرضة وإشارة مدرجة ، لا يعرفها إلاّ الراسخون في العلم ، وذلك لحكمة إلهية . وقد قال العلماء : ما إنفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم لكن بإشارات ، ولو كان منجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه . ثمّ إزداد ذلك غموضاً بنقله من لسان إلى لسان من العبراني إلى السرياني ، ومن السرياني إلى العربيّ . وقد ذكرت محصّلة ألفاظ من التوراة والإنجيل إذا أعتبرتها وجدتها دالّة على صحّة نبوّته عليه السلام ، بتعريض هو عند الراسخين في العلم جلي ، وعند العامّة خفي . إنتهى كلامه بلفظه . الأمر الثالث إدعاء أن أهل الكتاب ما كانوا ينتظرون نبياً آخر غير المسيح وإيليا إدعاء باطل لا أصل له ، بل كانوا منتظرين لغيرهما أيضاً لما علمت في الأمر الثاني أن علماء اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام سألوا يحيى عليه السلام أولاً أنت المسيح ؟ ولما أنكر سألوه : أنت إيليا ؟ ولما أنكر سألوه : أنت النبيّ ؟ أي النبيّ المعهود الذي أخبر به موسى ، فعلم أن هذا النبيّ كان منتظراً مثل المسيح وإيليا ، وكان مشهوراً بحيث ما كان محتاجاً إلى ذكر الاسم ، بل الإشارة إليه كانت كافية . وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا بعد نقل قول عيسى عليه السلام هكذا 40 - ( فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا : هذا بالحقيقة هو النبيّ ) 41 - ( وآخرون قالوا : هذا هو المسيح ) وظهر من الكلام أيضاً أن النبيّ المعهود عندهم كان غير المسيح ، ولذلك قابلوه بالمسيح . الأمر الرابع إدعاء أن المسيح خاتم النبيين ولا نبيّ بعده باطل لما عرفت في الأمر الثالث أنّهم كانوا منتظرين للنبي المعهود الآخر الذي يكون غير المسيح وإيليا عليهم السلام ، ولما لم يثبّت بالبرهان مجيئه قبل المسيح فهو بعده ولأنّهم يعترفون بنبوّة الحواريين وبولس ، بل بنبوّة غيرهم أيضاً . وفي الباب الحادي عشر من كتاب الأعمال هكذا 27 - ( وفي تلك الأيام إنحدر الأنبياء من أورشليم إلى إنطاكية ) 28 - ( وقام واحد منهم اسمه أغابوس وأشار بالروح أن جوعاً عظيماً كان عتيداً أن يصير على جميع المسكونة الذي صار في أيام كلوديوس قيصر ) فهؤلاء كلّهم كانوا أنبياء على تصريح إنجيليهم . وأخبر واحد منهم اسمه أغابوس عن وقوع الجدب العظيم . وفي الباب الحادي والعشرين من الكتاب المذكور هكذا 10 - ( وبينما نحن مقيمون أياماً كثيرة إنحدر من اليهوديّة نبيّ اسمه أغابوس ) 11 - ( فجاء إلينا وأخذ منطقة بولس وربط يدي نفسه ورجليه وقال : هذا يقوله الروح القدس الرجل الذي له هذه المنطقة ، هكذا سيربطه اليهود في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الأمم ) وفي هذه العبارة أيضاً تصريح بكون أغابوس نبياً ، وقد يتمسكون لإثبات هذا الإدعاء بقول المسيح المنقول في الآية الخامسة عشرة من الباب السابع من إنجيل متّى هكذا ( إحترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة ) والتمسّك به عجيب لأنّ المسيح عليه السلام أمر بالإحتراز من الأنبياء الكذبة لا الأنبياء الصدقة أيضاً ، ولذلك قيد بالكذبة نعم لو قال : إحترزوا من كلّ نبيّ يجيء بعدي ، لكان بحسب الظاهر وجه للتمسك وإن كان واجب التأويل عندهم لثبوت نبوّة الأشخاص المذكورين . وقد ظهر الأنبياء الكذبة الكثيرون في الطبقة الأولى بعد صعوده ، كما يظهر من الرسائل الموجودة في العهد الجديد في الباب الحادي عشر من الرسالة الثانية إلى أهل قورنيثوس هكذا 12 - ( ولكن ما أفعله سأفعله لأقطع فرصة الذين يُريدون فرصة كي يوجدوا كما نحن أيضاً فيما يفتخرون به ) 13 - ( لأنّ مثل هؤلاء رسل كذبة فعلة ماكرون ، مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح ) فمقدسهم ينادي بأعلى نداء أنّ الرسل الكذبة الغدارين ظهروا في عهده ، وقد تشبهوا برسل المسيح . وقال آدم كلارك المفسّر في شرح هذا المقام : هؤلاء الأشخاص كانوا يدعون كذباً أنهم رسل المسيح ، وما كانوا رسل المسيح في نفس الأمر ، وكانوا يعظون ويجتهدون ، لكن مقصودهم ما كان إلاّ جلب المنفعة ) وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا ( أيّها الأحباء لا تصدّقوا كلّ روح بل إمتحنوا الأرواح هل هي من الله ؟ لأنّ الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم ) . فظهر من العبارتين أن الأنبياء الكذبة قد ظهروا في عهد الحواريين . وفي الباب الثامن من كتاب الأعمال هكذا 9 - ( وكان قبلاً في المدينة رجل اسمه سيمون يستعمل السحر ويدهش شعب السامرة قائلاً أنّه شيء عظيم ) 10 - ( وكان الجميع يتعبونه من الصغير إلى الكبير قائلين : هذا هو قوّة الله العظيمة ) وفي الباب الثالث عشر من الكتاب المذكور هكذا ( ولما إجتازا الجزيرة إلى باقوس وجدا رجلاً ساحراً نبياً كذاباً يهودياً اسمه باريشوع ) وكذا سيظهر الدجالون الكذابون يدعي كلّ منهم أنّه المسيح ، كما أخبر عيسى عليه السلام ( وقال : لا يضلكم أحد فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين : أنا هو المسيح ويضلون كثيرين ) كما هو مصرح في الباب الرابع والعشرين من إنجيل متّى . فمقصود المسيح عليه السلام التحذير من هؤلاء الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة ، لا من الأنبياء الصادقين أيضاً ، ولذلك قال بعد القول المذكور في الباب السابع ( من ثمارهم تعرفونهم هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تينا ) ومحمّد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء الصادقين كما تدل عليه ثماره على ما عرفت في المسالك المتقدمة ، ولا إعتبار لمطاعن المنكرين كما ستعرف في الفصل الثاني ، ولأنّ كلّ شخص يعلم أن اليهود ينكرون عيسى ابن مريم عليهما السلام ويكذّبونه ، وليس عندهم رجل أشر منه من إبتداء العالم إلى زمان خروجه ، وكذا ألوف من الحكماء والعلماء الذين هم من أبناء صنف القسيسين وكانوا مسيحيين ثمّ خرجوا عن هذه الملّة لإستقباحهم إياها ينكرونه ويستهزؤون به وبملّته وألفوا رسائل كثيرة لإثبات آرائهم وإشتهرت هذه الرسائل في أكناف العالم ويزيد متبعوهم كلّ يوم في ديار أوربا . فكما أنّ إنكار اليهود وهؤلاء الحكماء والعلماء في حق عيسى عليه السلام غير مقبول عندنا ، فكذا إنكار أهل التثليث في حق محمّد صلى الله عليه وسلم غير مقبول عندنا . الأمر الخامس الإخبارات التي نقلها المسيحيون في حق عيسى عليه السلام لا تصدّق عليه على تفاسير اليهود وتأويلاتهم ، ولذلك هم ينكرونه أشد الإنكار ، والعلماء المسيحيّة لا يلتفتون في هذا الباب إلى تفاسيرهم وتأويلاتهم ، ويفسرونها ويؤولونها بحيث تصدّق في زعمهم على عيسى عليه السلام ( ونقل هنا عبارة عن ميزان الحقّ بهذا المعنى ثمّ قال ) كما أن تأويلات اليهود في الآيات المذكورة مردودة غير صحيحة ، وغير لائقة عند المسيحيين ، كذلك تأويلات المسيحيين في الإخبارات التي هي في حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم مردودة غير مقبولة عندنا . وسنرى أن الإخبارات التي ننقلها في حق محمد صلى الله عليه وسلم أظهر صدّقاً من الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حقّ عيسى عليه السلام فلا بأس علينا أن لم نلتفت إلى تأويلاتهم الفاسدة ، وكما أن اليهود إدعوا في حق بعض الإخبارات التي هي في حقّ عيسى عليه السلام على زعم المسيحيين أنها في حق مسيحهم المنتظر ، أو في حق غيره ، أو ليست في حق أحد . والمسيحيون يدعون أنها في حق عيسى عليه السلام ولا يبالون بمخالفتهم ، فكذا نحن لا نبالي بمخالفة المسيحيين في حقّ بعض الإخبارات التي هي في حق محمّد صلى الله عليه وسلم لو قالوا إنّها في حقّ عيسى عليه السلام . وسترى أيضاً أن صدّقها في حق محمّد صلى الله عليه وسلم أليق من صدّقها في حقّ عيسى عليه السلام فإدّعاؤنا أحقّ من إدّعائهم . الأمر السادس مؤلفو العهد الجديد بإعتقاد المسيحيين ذوو إلهام . وقد نقلوا الإخبارات في حقّ عيسى عليه السلام ، فيكون هذا النقل على زعمهم بالإلهام ، فأذكر نبذاً منها بطريق الأنموذج ليقيس المخاطب حال هذه الإخبارات بالإخبارات التي أنقلها في هذا المسلك حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم ، وإنّ سلك أحد من القسيسين مسلك الإعتساف وتصدي لتأويل الإخبارات التي أنقلها في هذا المسلك يجب عليه أن يوجه أوّلاً الإخبارات التي نقلها مؤلفو العهد الجديد في حقّ عيسى عليه السلام ليظهر للمنصف اللبيب حال الإخبارات التي نقلها الجانبان ويقابلهما بإعتبار القوّة والضعف ، وأنّ غمض النظر عن توجيه الإخبارات العيسويّة التي نقلها المؤلفون المذكورون وأوّل الإخبارات المحمدية التي أنقلها في هذا المسلك يكون محمولاً على عجزه وتعصبه ، لأنّك قد علمت في الأمر الثاني والخامس أن المعاند له مجال واسع للتأويل في أمثال هذه الإخبارات ، وإنّما إكتفيت على نبذ ممّا نقله مؤلفو العهد الجديد ، لأنّه إذا ظهر أن البعض منها غلط يقيناً ، والبعض منها محرف ، والبعض منها لا يصدق على عيسى عليه السلام إلاّ بالإدعاء البحت والتحكّم الصرف ، ظهر أن حال الإخبارات الآخر التي نقلها المسيحيون الذين ليسوا ذوي إلهام ووحي يكون أسوأ فلا حاجة إلى نقلها . الخبر الأوّل : ما هو المنقول في الباب الأوّل من إنجيل متّى ؟ وقد عرفت في بيان الغلط الخمسين في الفصل الثالث من الباب الأوّل أنّه غلط على أن كون مريم عذراء وقت الحبل غير مسلم عند اليهود والمنكرين ، ولا يتم عليهم حجة لأنّها قبل ولادة عيسى عليه السلام كانت في نكاح يوسف النجار على تصريح الإنجيل . واليهود المعاصرون لعيسى عليه السلام يقولون : إنّه ولد يوسف النجار كما هو مصرح به في الآية 55 من الباب 13 من إنجيل متّى ، والآية 45 من الباب الأوّل والآية 42 من الباب السادس من إنجيل يوحنا ، وإلى الآن يقولون هكذا ، بل أشنع منه . والعلامة الأخرى المختصّة بعيسى عليه السلام غير مذكورة في هذا الخبر . الخبر الثاني : ما هو المنقول في الآية السادسة من الباب الثاني من إنجيل متّى ، وهو إشارة إلى الآية الثانية من الباب الخامس من كتاب ميخا . ولا تطابق عبارة متى عبارة ميخا ، فإحداهما محرفة وقد عرفت في الشاهد الثالث والعشرين من المقصد الأوّل من الباب الثاني أن محققيهم إختاروا تحريف عبارة ميخا ، لكن إدعوا أن هذا لأجل المحافظة على الإنجيل فقط و ( هو ) عند المخالف باطل . الخبر الثالث : ما هو المنقول في الآية الخامسة عشرة من الباب المذكور من إنجيل متّى . الخبر الرابع : ما هو المنقول في الآية 17 و 18 من الباب المذكور ؟ الخبر الخامس : ما هو المنقول في الآية الثالثة والعشرين من الباب المذكور ؟ وهذه الأخبار الثلاثة غلط كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأوّل . الخبر السادس : الآية التاسعة من الباب السابع والعشرين من إنجيل متّى وقد عرفت في الشاهد التاسع والعشرين من المقصد الثاني من الباب الثاني أنّه غلط على أن هذا الحال يوجد في الباب الحادي عشر من كتاب زكريا ولا مناسبة له بالقصّة التي نقلها متى لأنّ زكريا عليه السلام بعد ما ذكر اسمي عصوين ورعي قطيع ( فإنّه ) يقول هكذا - ترجمة عربية سنة 1844 - ( 12 - وقلت لهم أن حسن في أعينكم فهاتوا أجري وإلاّ فكفوا . فوزنوا أجري ثلاثين من الفضّة ) 13 - ( وقال لي الرب ألقها إلى صناع التماثيل ثمناً كريماً ثمنوني به ، فأخذت الثلاثين من الفضّة وألقيتها في بيت الرب إلى صناع التماثيل ) فظاهر كلام زكريا أنّه بيان حال لا أخبار عن الحادثة الآتية ، وأن يكون آخذ الدراهم من الصالحين مثل زكريا عليه السلام لا من الكافرين مثل يهوذا . الخبر السابع : ما نقله مقدسهم بولس في الآية السادسة من الباب الأوّل من الرسالة العبرانية وقد عرفت حالة في الفصل الثالث أنّه غلط لا يصدّق على عيسى عليه السلام . والخبر الثامن : الآية الخامسة والثلاثون من الباب الثالث عشر من إنجيل متّى هكذا ( لكي يتم ما قيل بالنبيّ القائل سأفتح بأمثال فمي وأنطق بمكتوبات منذ تأسيس العالم ) وهو إشارة إلى الآية الثانية من الزبور الثامن والسبعين ، لكنّه إدعاء محض وتحكم بحت ، لأنّ عبارة هذا الزبور هكذا 2 - ( أفتح بالأمثال فمي وأنطق بالذي كان قديماً ) 3 - كلّ ما سمعناه وعرفناه وآباؤنا أخبرونا ) 4 - ( ولم يخفوه عن أولادهم إلى الجيل الآخر إذ يخبرون بتسابيح الرب وقواته وعجائبه التي صنع ) 5 - ( إذ أقام الشهادة في يعقوب ووضع الناموس في إسرائيل كلّ الذي أوصى آباؤنا ليعرفوا به أبناءهم ) 6 - ( لكي ما يعلم الجيل الآخر بينهم المولودين ) 7 - ( فيقومون أيضاً ويخبرون به أبناءهم ) 8 - ( لكي يجعلوا إتكالهم على الله ، ولا ينسوا أعمال الله ويلتمسوا وصاياه ) 9 - ( لئلاّ يكونوا مثل آبائهم الجيل الأعرج المتمرد الذي لم يستقم قلبه ولا آمنت بالله روحه ) . وهذه الآيات صريحة في أن داود عليه السلام يُريد نفسه ، ولذا عبر عن نفسه بصيغة المتكلّم ويروي الحالات التي سمعها من الآباء ليبلغها إلى الأبناء على حسب عهد الله لتبقى الرواية محفوظة . وبين من الآية العاشرة إلى الخامسة والستين حال إنعامات الله والمعجزات الموسوية ، وشرارة بني إسرائيل وما لحقهم بسببها ثمّ قال 66 - ( وإستيقظ الرب كالنائم مثل الجبار المفيق من الخمر ) 67 - ( فضرب أعداءه في الوراء وجعلهم عاراً إلى الدهر ) 68 - ( وأبعد محلّة يوسف ولم يختر سبط أفرام 69 - بل إختار سبط يهوذ الجبل صهيون الذي أحب 70 - وبني مثل وحيد القرن قدسه وأسسه في الأرض إلى الأبد 71 - وإختار داود عبده وأخذه من مراعي الغنم 72 : ومن خلف المرضعات أخذه ليرعى يعقوب عبده إسرائيل ميراثه 73 : فرعاهم بدعة قلبه وبفهم يديه أهداهم ) . وهذه الآيات الأخيرة أيضاً دالّة صراحة على أن هذا الزبور في حقّ داود عليه السلام فلا علاقة لهذا بعيسى عليه السلام . الخبر التاسع : في الباب الرابع من إنجيل متّى هكذا 14 - ( لكي يتم ما قبل بأشعيا النبيّ القائل 15 - أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم 16 - الشعب الجالس في ظلمة أبصر نوراً عظيماً . والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور ) وهو إشارة إلى الآية الأولى والثانية من الباب التاسع من كتاب أشعيا وعبارته هكذا ( 1 - في الزمان الأوّل إستخفت أرض زبلون وأرض نفتالي ، وفي الآخر تثقلّت طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم 2 - الشعب السالك في الظلمة رأى نوراً عظيماً . الساكنون في بلاد ظلال الموت أشرق عليهم نور ) وفرّق ما بين العبارتين فإحداهما محرفة ، ومع قطع النظر عن هذا لا دلالة لكلام أشعيا على ظهور شخص بل الظاهر أن أشعيا عليه السلام يخبر أن حال سكان أرض زبلون ونفتالي كان سقيماً في سلف الزمان ثمّ صار حسناً ، كما تدلّ عليه صيغ الماضي أعني : إستخفت ، وتثقلت ، ورأى ، وأشرق ، وإن عدلنا عن الظاهر وحملناها على المجاز بمعنى المستقبل وقلنا إن رؤية النور وإشراقه عليهم عبارة عن مرور الصلحاء بأرضهم ، فإدعاء أنّ مصداق هذا الخبر عيسى عليه السلام فقط تحكم صرف ، لأنّ كثيراً من الأولياء والصلحاء مر بتلك الأرض ولا سيّما أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم وأولياء أمّته أيضاً الذين زالت ظلمة الكفر والتثليث من هذه الديار بسببهم ، وظهر نور التوحيد وتصديق المسيح كما ينبغي . وإكتفى خوفاً من التطويل على ( ؟ ) هذا القدر . ونقلت الأخبار الأخر أيضاً في ( إزالة الأوهام ) وغيره من مؤلفاتي وبيّنت وجوه : ضعفها . الأمر السابع أن أهل الكتاب سلفا وخلفا عادتهم جارية بأنّهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد ، وإنّهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام الذي هو كلام الله في زعمهم ولا يشيرون إلى الإمتياز ، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم . ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة ، وأنا أورد أيضاً بطريق الأنموذج بعضاً منها . 1 - في الآية الرابعة عشر من الباب السادس عشر من سفر التكوين في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1625 وسنة 1831 وسنة 1844 هكذا ( لذلك دعت اسم تلك البيربير الحي الناظرني ) فترجموا اسم البئر الذي كان في العبراني بالعربي . 2 - وفي الآية الرابعة عشر من الباب الثاني والعشرين من سفر التكوين في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 ( هكذا سمّى إبراهيم اسم الموضع مكان يرحم الله زائره ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 ( دعا إبراهيم اسم ذلك الموضع الرب يرى ) فترجم المترجم الأوّل الاسم العبراني بمكان يرحم الله زائره ، والمترجم الثاني بالرّب يرى . 3 - وفي الآية العشرين من الباب الحادي والثلاثين من سفر التكوين في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا ( فكتم يعقوب أمره عن حميه ) وفي ترجمة أردو ( الترجمة الأوردية ) المطبوعة سنة 1825 لفظ لإبان موضع حميّه فوضع مترجمو العربيّة لفظ الحمى موضع الاسم . 4 - وفي الآية العاشرة من الباب التاسع والأربعين من سفر التكوين في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 ( فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبّر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم ) فقوله ( الذي له الكل ) ترجمة لفظ " شيلوه " وهذه الترجمة موافقة للترجمة اليونانية ، وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 ( فلا يزول القضيب من يهوذا والرسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه يجتمع الشعوب ) وهذا المترجم ترجم لفظ شيلوه ( بالذي هو له ) وهذه الترجمة موافقة للترجمة السريانية . وترجم هذا اللفظ محققهم المشهور ليكارك بعاقبته . وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1825 وقع لفظ شيلا ، وفي الترجمة اللاتينية ولتكيت ( الذي سيرسل ) فالمترجمون ترجموا لفظ شيلوه بما ظهر وترجح عندهم ، وهذا اللفظ كان بمنزلة الاسم للشخص المبشر به . 5 - وفي الآية الرابعة عشرة من الباب الثالث من سفر الخروج في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 ( فقال الله لموسى : أهيه أشراهيه ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 ( قال له الأزلي الذي لا يزال ) فلفظ أهيه أشراهيه كان بمنزلة اسم الذات ، فترجمه المترجم الثاني بالأزلي الذي لا يزال . 6 - وفي الآية الحادية عشرة من الباب الثامن من سفر الخروج في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا ( تبقى في النهر فقط ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 هكذا ( تبقى في النيل فقط ) . 7 - وفي الآية الخامسة عشرة من الباب السابع عشر من سفر الخروج في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا ( فأبتنى موسى مذبحاً ودعا اسمه الرب عظمتي ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 ( وبنى مذبحاً وسماه الله علمي ) وترجمة أردو موافقة لهذه الأخيرة فأقول مع قطع النظر عن الإختلاف أن المترجمين ترجموا الاسم العبراني . 8 - وفي الآية الثالثة والعشرين من الباب الثلاثين من سفر الخروج في الترجمتين المذكورتين هكذا ( من ميعة فائقة ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 ( من المسك الخالص ) وبين الميعة والمسك فرق ما فسّروا الاسم العبراني بما ترجّح عندهم . 9 - وفي الآية الخامسة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الإستثناء ( أي التثنية ) في الترجمتين المذكورتين هناك ( فمات هناك موسى عبد الرب ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 هكذا ( فمات هناك موسى رسول الله ) فهؤلاء المترجمون لو بدّلوا في البشارات المحمديّة لفظ رسول الله بلفظ آخر فلا استبعاد منهم . تركنا الشاهدين 10 و 11 للإختصار 12 - وفي الآية الرابعة عشر من الباب الحادي عشر من إنجيل متّى في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 وسنة 1844 هكذا ( فإن أردتم أن تقبلوه فهو إيليا المزمع أن يأتي ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1816 ( فإن أردتم أن تقبلوه فهذا هو المزمع بالإتيان ) فالمترجم الأخير بدلّ لفظ إيليا بهذا . فأمثال هؤلاء لو بدّلوا اسماً من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم في البشارة فلا عجب . 13 - وفي الآية الأولى من الباب الرابع من إنجيل يوحنا في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 وسنة 1831 وسنة 1844 هكذا ( لما علم يسوع ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1816 وسنة 1860 ( لما علم الرب ) فبدّل المترجمان الأخيران لفظ يسوع الذي كان علم عيسى عليه السلام بالرّب الذي هو من الألفاظ التعظيمية ، فلو بدّلوا اسماً من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالألفاظ التحقيرية لأجل عادتهم وعنادهم فلا عجب . وهذه الشواهد تدلّ على ترجمة الأسماء وإيراد لفظ آخر بدلها . 1 - في الباب السابع والعشرين من إنجيل متّى هكذا ( ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لماذا شبقتني ؟ أي إلهيّ إلهيّ لماذا تركتني ) وفي الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس هكذا ( وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً الوى الوى لماذا شبقتني ، الذي تفسيره إلهيّ إلهيّ لماذا تركتني ) فلفظ : أي إلهيّ إلهيّ لماذا تركتني ، في إنجيل متّى ، وكذا لفظ : الذي تفسيره إلهيّ إلهيّ لماذا تركتني في إنجيل مرقس ، ليسا من كلام الشخص المصلوب بقينا ، بل ألحقا بكلامه . 2 - في الآية السابعة عشرة من الباب الثالث من إنجيل مرقس هكذا ( لقبهما ببوان رجس أي : إبني الرعد ) فلفظ أي إبني الرعد ليس من كلام عيسى عليه السلام ، بل هو إلحاقي . 3 - في الآية الحادية والأربعين من الباب الخامس من إنجيل مرقس هكذا ( وقال لها طليثاً قومي ، الذي تفسيره يا صبيّة لك أقول قومي ) فهذا التفسير إلحاقي ليس من كلام عيسى عليه السلام . 4 - في الآية الرابعة والثلاثين من الباب السابع من إنجيل مرقس في الترجمة المطبوعة سنة 1816 ( ونظر إلى السماء وتأوه وقال : أفثا يعني إنفتح ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 ( ونظر إلى السماء وتنهد وقال : أفاثاً ، الذي هو إنفتح ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 هكذا ( ونظر إلى السماء وتنهد وقال له : إنفتح الذي هو إنفتح ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1860 هكذا ( ورفع نظره نحو السماء وأن وقال له : أفثاً أي إنفتح ) ومن هذه العبارة وأنّ لم يعلم صحة اللفظ العبراني أهو أفثاً أو أفاثاً أو إنفتح لأجل إختلاف التراجم التي منشأ إختلافها عدم صحّة ألفاظ أصولها ، لكنّه يعلم يقينا أن لفظ أي إنفتح أو الذي هو إنفتح الحاقي ليس من كلام عيسى عليه السلام . وهذه الأقوال المسيحيّة الأربعة التي نقلتها من الشاهد الأوّل إلى هاهنا تدل على أن المسيح عليه السلام كان يتكلّم باللسان العبراني الذي كان لسان قومه ، وما كان يتكلم باليوناني ، وهو قريب القياس أيضاً لأنه كان عبرانياً إبن عبرانية نشأ في قومه العبرانيين فنقل أقواله في هذه الأناجيل في اليوناني نقل بالمعنى ، وهذا أمر آخر زائد على كون أقواله مروية برواية الآحاد . 5 - في الآية الثامنة والثلاثين من الباب الأوّل من إنجيل يوحنا هكذا ( فقالا له : ربي ، الذي تفسيره يا معلم ) فقوله : الذي تفسيره يا معلم - إلحاقي ليس من كلامهما . 6 - في الآية الحادية والأربعين من الباب المذكور في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 وسنة 1844 ( قد وجدنا مسيا الذي تأويله المسيح ) وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1816 ( ما مسيح راكه ترجمة آن كرسطوس ميباشد يافتيم ) وترجمة أورد والمطبوعة سنة 1814 يوافق الفارسية فيعلم من الترجمتين العربيتين أن اللفظ الذي قاله إندراوس هو مسياوان المسيح ترجمته ، ومن الترجمة الفارسية وأردو ( أي الترجمة الأورديه ) أن لفظ الأصل هو المسيح وكرسطوس ترجمته ، ويعلم من ترجمة أردو المطبوعة سنة 1839 أن لفظ الأصل خرسته ، وأن المسيح ترجمته . فلا يعلم من كلامهم أي لفظ كان الأصل ؟ أمسيا أم المسيح أم خرسته ؟ وهذه الألفاظ وإن كان معناها واحداً لكن لا شك أن الذي قاله إندراوس هو واحد من هذه الثلاثة يقيناً ، وإذا ذكر اللفظ والتفسير فلابد من ذكر لفظ الأصل أولاً ، ثمّ من ذكر تفسيره ، لكنّي أقطع النظر عن هذا وأقول : إن التفسير المشكوك فيه أياماً كان إلحاقي ليس من كلام إندراوس . 7 - في الآية الثانية والأربعين من الباب الأوّل من إنجيل يوحنا قول عيسى عليه السلام في حقّ بطرس الحواري في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 هكذا ( أنت تدعى ببطرس الذي تأويله الصخرة ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1816 ( ستسمى أنت بالصفا المفسّر ببطرس ) وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1816 ( ترا بكيفاس كه ترجمة أن سنك است تداخوا هند كرد ) أمطر الله حجارة على تحقيقهم وتصحيحهم لا يتميز المفسّر من كلامهم عن المفسّر ، لكنّي أقطع النظر عن هذا وأقول : إن التفسير ليس من كلام المسيح عليه السلام ، بل هو إلحاقي ، وإذا كان حال تراجمهم وحال تحقيقهم في لقب إلههم ولقب خليفته كما علمت فكيف نرجو منهم صحة بقاء لفظ محمّداً وأحمداً ولقب من ألقابه صلى الله عليه وسلم . ( ثم قال بعد إيراد شواهد أخرى ما نصه ) : فإذا كانت خصلة أهل الدين والديانة ما عرفت فما ظنّك بغير أهل الديانة ؟ بل الحق أن التحريف القصدي بالتبديل بالزيادة والنقصان من خصالهم كلّهم أجمعين ، فبعض الأخبار التي نقلها العلماء الإسلاف من أهل الإسلام ، مثل الإمام القرطبي وغيره إذا لم تجدها موافقة في بعض الألفاظ للتراجم المشهورة الآن فسببه غالباً هذا التغيير ، لأنّ هؤلاء العلماء من أهل الإسلام نقلوا عن الترجمة العربيّة التي كانت رائجة في عهدهم ، وبعد زمانهم وقع الإصلاح في تلك الترجمة ويحتمل أن يكون ذاك السبب إختلاف التراجم لكن الأوّل هو المعتمد لأنا نرى أن هذه العادة جارية إلى الآن في تراجمهم ورسائلهم ، ألا ترى إلى ميزان الحق إلخ . الأمر الثامن إن بولس وإن كان عند أهل التثليث في رتبة الحواريين لكنّه غير مقبول عندنا ولا نعدّه من المؤمنين الصادقين ، بل من المنافقين الكذابين ومعلمي الزور والرسل الخداعين الذين ظهروا بالكثرة بعد عروج المسيح كما عرفت في الأمر الرابع . وهو خرّب الدين المسيحي ؛ وأباح كلّ محرّم لمعتقديه . وكان في إبتداء الأمر مؤذياً للطبقة الأولى من المسيحيين جهراً لكنّه لما رأى هذا الإيذاء الجهري لا ينفع نفعاً معتداً به دخل على سبيل النفاق في هذه الملّة وإدعى رسالة المسيح وأظهر الزهد الظاهري ففعل في هذا الحجاب ما فعل وقبله أهل التثليث لأجل زهده الظاهري ولأجل إفراغ ذمتهم من جميع التكاليف الشرعية كما قبل أناس كثيرون من المسيحيين في القرن الثاني منتش الذي كان زاهداً مرتاضاً وإدعى أيه هو الفار قليط الموعود به فقبلوه لأجل زهده ورياضته كما سيجيء ذكره في البشارة الثامنة عشر ورده المحققون من علماء الإسلام سلفاً وخلفاً . قال الإمام القرطبي رحمه الله في كتابه في حقّ بولس هذا مجيباً لبعض القسيسين في بحث مسألة الصوم هكذا : " قلنا ذلك - أي بولس - هو الذي أفسد عليكم أديانكم ، وأعمى بصائركم وأذهانكم ، ذلك هو الذي غير دين المسيح الصحيح ، الذي لم تسمعوا له بخبر ، ولا وقفتم منه على أثر ، هو الذي صرفكم عن القبلة ، وحلل لكم كلّ محرم كان في الملّة ؛ ولذلك كثرت أحكامه عندكم وتداولتموها بينكم " إنتهى كلامه بلفظه . وقال صاحب ( تخجيل من حرف الإنجيل ) في الباب التاسع من كتابه في بيان فضائح النصارى في حق بولس هذا هكذا " وقد سلهم بولس هذا من الدين بلطيف خداعه إذ رأى عقولهم قابلة لكل ما يلقى إليها وقد طمس هذا الخبيث رسوم التوراة " إنتهى كلامه بلفظه وهكذا أقوال علمائنا الآخرين . فكلامه عندنا مردود ورسائله المنضمة بالعهد العتيق كلّها واجبة الرد ولا نشتري قوله بحبة خردل فلا أنقل عن أقواله في هذا المسلك شيئا ولا يكون قوله حجة علينا . وإذ قد عرفت هذه الأمور الثمانية أقول إن الأخبار الواقعة في حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم توجد كثيرة إلى الآن أيضاً مع وقوع التحريفات في هذه الكتب ومَنْ عرف أوّلاً طريق أخبار النبيّ المتقدّم عن النبيّ المتأخر على ما عرفت في الأمر الثاني ثمّ نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الأخبار وقابلها بالأخبار التي نقلها الإنجيليون في حقّ عيسى عليه السلام - وقد عرفت نبذا منها في الأمر السادس - جزم بأن الأخبار المحمدية في غاية القوّة . وأنقل في هذا المسلك عن الكتب المعتبرة عند علماء بروتستنت ثماني عشرة بشارة . البشارة الأولى في الباب الثامن عشر من سفر الإستثناء ( التثنية ) هكذا ( 17 - فقال الرب لي نعم جميع ما قالوا 18 - وسوف أقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوتهم وإجعل كلامي في فمه ويكلّمهم بكل شيء آمره به 19 - ومن لم يطع كلامه الذي يتكلّم به باسمي فأنا أكون المنتقم من ذلك 20 - فأمّا النبيّ الذي يجتري بالكبرياء ويتكلّم في اسمي ما لم آمره بأنّه يقوله أم باسم آلهة غيري فليقتل 21 - فإن أجبت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميّز الكلام الذي لم يتكلّم به الرب 22 - فهذه تكون لك آية أن ما قاله ذلك النبيّ في اسم الرب ولم يحدث فالرّب لم يكن تكلّم به بل ذلك النبيّ صوره في تعظم نفسه ولذلك لا تخشاء ) . وهذه البشارة ليست بشارة يوشع عليه السلام كما يزعم الآن أحبار اليهود ولا بشارة بعيسى عليه السلام كما زعم علماء بروتستنت بل هي بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم لعشرة أوجه . الوجه الأوّل : قد عرفت في الأمر الثالث أن اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام كانوا ينتظرون نبياً آخر مبشراً به في هذا الباب وكان هذا المبشر به عندهم غير المسيح فلا يكون هذا المبشر به يوشع ولا عيسى عليهما السلام . والوجه الثاني : إنّه وقع في هذه البشارة لفظ مثلك ويوشع وعيسى عليهما السلام لا يصحّ أن يكونا مثل موسى عليه السلام أمّا أولا فلأنّهما من بني إسرائيل ولا يجوّز أن يقوم أحد من بني إسرائيل مثل موسى كما تدلّ عليه الآية العاشرة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الإستثناء ( التثنية ) وهي هكذا ( 10 ولم يقم بعد ذلك نبيّ في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه ) إلخ وأمّا ثانياً فلأنه لا ممّاثلة بين يوشع وبين موسى عليهما السلام لأنّ موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهي ويوشع ليس كذلك بل هو متبع لشريعته ، وكذا لا توجد المماثلة التامّة بين موسى وعيسى عليهما السلام لأنّ عيسى عليه السلام كان إلها وربا على زعم النصارى وموسى عليه السلام كان عبداً لله وأن عيسى عليه السلام على زعمهم صار ملعوناً لشفاعة الخلق كما صرح به بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية وموسى عليه السلام ما صار ملعوناً لشفاعتهم وأن عيسى عليه السلام دخل الجحيم بعد موته كما هو مصرح به في عقائد أهل التثليث وموسى عليه السلام ما دخل الجحيم وأن عيسى عليه السلام صلب على زعم النصارى ليكون كفارة لأمته وموسى عليه السلام ما صار كفارة لأمته بالصلب وأن شريعة موسى مشتملة على الحدود والتعزيرات وأحكام الغسل والطهارات والمحرمات من المأكولات والمشروبات بخلاف شريعة عيسى عليه السلام فإنها فارغة عنها على ما يشهد به هذا الإنجيل المتداول بينهم وأن موسى عليه السلام كان رئيساً مطاعاً في قومه نفاذاً لأوامره ونواهيه وعيسى عليه السلام لم يكن كذلك . الوجه الثالث : أنّه وقع في هذه البشارة لفظ من بين إخوتهم ولا شك أن الأسباط الأثنى عشر كانوا موجودين في ذلك الوقت مع موسى عليه السلام حاضرين عنده فلو كان المقصود كون النبيّ المبشّر به منهم لقال منهم لا " من بين إخوتهم " لأنّ الإستعمال الحقيقي لهذا اللفظ أن لا يكون المبشّر به له علاقة الصلبيّة والبطنيّة ببني إسرائيل كما جاء لفظ الأخوة بهذا الإستعمال الحقيقي في وعد الله هاجر في حق إسماعيل عليه السلام في الآية الثانية عشر من الباب السادس عشر من سفر التكوين وعبارتها في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 هكذا ( وقبلة جميع إخوته ينصب المضارب ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 هكذا ( بحضرة جميع إخوته يسكن ) وجاء بهذا الإستعمال أيضاً في الآية الثامنة عشر من الباب الخامس والعشرين من سفر التكوين في حق إسماعيل في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 هكذا ( منتهى إخوته جميعهم سكن ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 هكذا ( أقام بحضرة جميع إخوته ) والمراد بالأخوة هاهنا بنو عيسو وإسحاق وغيرهم من أبناء إبراهيم عليه السلام . وفي الآية الرابعة عشرة من الباب العشرين من سفر العدد هكذا ( ثمّ أرسل موسى رسلاّ من قادس إلى ملك الروم قائلاً : هكذا يقول أخوك إسرائيل إنّك قد علمت كلّ البلاء الذي أصابنا ) وفي الباب الثاني من سفر ( التثنية ) هكذا ( 2 وقال لي الرب 4 ثمّ أوص الشعب أنّكم ستجوزون في تخوم إخوتكم بني عيسو الذين في ساعير وسيخشونكم 8 فلما جزنا إخوتنا بني عيسو الذين يسكنون ساعير إلخ ) والمراد بإخوة بني إسرائيل بنو عيسو ، ولا شك أنّ إستعمال لفظ إخوة بني إسرائيل في بعض منهم كما جاء في بعض المواضع من التوراة إستعمال مجازي ولا تترك الحقيقة ولا يصار إلى المجاز ما لم يمنع من الحمل على المعنى الحقيقي مانع قوي ويوشع وعيسى عليهما السلام كانا من بني إسرائيل فلا تصدّق هذه البشارة عليهما . الوجه الرابع : أنّه قد وقع في هذه البشارة لفظ سوف أقيم ، ويوشع عليه السلام كان حاضراً عند موسى عليه السلام داخلاً في بني إسرائيل نبياً في ذلك الوقت ، فكيف يصدّق عليه هذا اللفظ . الوجه الخامس : أنّه وقع في هذه البشارة لفظ : إجعل كلامي في فمه ، وهو إشارة إلى أن ذلك النبيّ ينزل عليه الكتاب ، وإلى أنّه يكون أمياً حافظاً للكلام ، وهذا لا يصدّق على يوشع عليه السلام لإنتفاء كلا الأمرين فيه . الوجه السادس : أنّه وقع في هذه البشارة : ومن لم يطع كلامه الذي يتكلّم به فأنا أكون المنتقم منه . فهذا الأمر لما ذكر لتعظيم هذا النبيّ المبشر به فلا بد أن يمتاز ذلك المبشر به بهذا الأمر عن غيره من الأنبياء فلا يجوز أن يراد بالإنتقام من المنكر العذاب الأخروي الكائن في جهنم أو المحن والعقوبات الدنيوية التي تلحق المنكرين من الغيب ، لأنّ هذا الإنتقام لا يختصّ بإنكار نبيّ دون نبيّ بل يعم الجميع ، فحينئذ يراد بالإنتقام الإنتقام التشريعي . فظهر منه أن هذا النبيّ يكون مأموراً من جانب الله بالإنتقام من منكره فلا يصدّق على عيسى عليه السلام ، لأنّ شريعته خالية عن أحكام الحدود والقصاص والتعزير والجهاد . الوجه السابع : في الباب الثالث من كتاب الأعمال في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 هكذا ( 19 فتوبوا وإرجعوا كي تمحى خطاياكم 20 حتى إذا تأتي أزمنة الراحة من قدام وجه الرب ويرسل المنادى به لكم وهو يسوع المسيح 21 - الذي إياه ينبغي للسماء أن تقبله إلى الزمان الذي يسترد فيه كلّ شيء تكلّم به الله على أفواه أنبيائه القديسين منذ الدهر 22 - أن موسى قال : إن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي له تسمعون في كلّ ما يكلمكم به 13 - ويكون كلّ نفس لا تسمع ذلك النبيّ تهلك من الشعب ) وفي الترجمة الفارسية … حذفنا النص الفارسي إستغناء عنه بما يذكره من مضمونه وهو قوله : فهذه العبارة سيّما بحسب التراجم الفارسية تدلّ صراحة على أن هذا النبيّ غير المسيح عليه السلام ، وأن المسيح لابد أن تقبله السماء إلى زمان ظهور هذا النبيّ ، ومن ترك التعصب الباطل من المسيحيين - وتأمل في عبارة بطرس ظهر له أن هذا القول من بطرس يكفي لإبطال إدعاء علماء بروتستنت أن هذه البشارة في حق عيسى عليه السلام . وهذه الوجوه : السبعة التي ذكرتها تصدق في حق محمّد صلى الله عليه وسلم أكمل صدق لأنه غير المسيح عليه السلام ، ويماثل موسى عليه السلام في أمور كثيرة ( 1 ) كونه عبد الله ورسوله ( 2 ) كونه ذا والدين ( 3 ) كونه ذا نكاح وأولاد ( 4 ) كون شريعته مشتملة على السياسات المدنية ( 5 ) كونه مأموراً بالجهاد ( 6 ) إشتراط الطهارة وقت العبادة في شريعته ( 7 ) وجوب الغسل للجنب والحائض والنفساء في شريعته ( 8 ) إشتراط طهارة الثوب من البول والبراز فيها ( 9 ) حرمة غير المذبوح وقرابين الأوثان فيها ( 10 ) كون شريعته مشتملة على العبادات البدنية والرياضات الجسمانية ( 11 ) أمره بحد الزنا ( 12 ) تعيين الحدود والتعزيرات والقصاص ( 13 ) كونه قادراً على تنفيذها ( 14 ) تحريم الرّبا ( 15 ) أمره بإنكار من يدعو إلى غير الله ( 16 ) أمره بالتوحيد الخالص ( 17 ) أمره الأمّة بأن يقولوا له عبد الله ورسوله لا إبن الله أو الله ، والعياذ بالله ( 18 ) موته على الفراش ( 19 ) كونه مدفوناً كموسى ( 20 ) عدم كونه ملعوناً لأجل أمّته . وهكذا أمور أخر تظهر إذا تؤمل في شريعتهما ، ولذلك قال الله تعالى في كلامه المجيد : { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } [ المزمل : 15 ] وكان من إخوة بني إسرائيل لأنّه من بني إسماعيل وأنزل عليه الكتاب ، وكان أمياً جعل كلام الله في فمه وكان ينطق بالوحي كما قال الله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 3 - 4 ] وكان مأموراً بالجهاد وقد إنتقم الله لأجله من صناديد قريش والأكاسرة والقياصرة وغيرهم ، وظهر قبل نزول المسيح من السماء ، وكان للسماء أن تقبل المسيح عليه السلام إلى ظهوره ليرد كلّ شيء إلى أصله ، ويمحق الشرك والتثليث وعبادة الأوثان ، ولا يرتاب أحد من كثرة أهل التثليث في هذا الزمان الأخير ، لأنّ هذا الصادق المصدوق قد أخبرنا على أتم تفصيل وأكمل وجه بحيث لا يبقى ريب ما بكثرتهم وقت قرب ظهور المهدي ( رضي الله عنه ) ، وهذا الوقت قريب إن شاء الله ، وسيظهر الإمام ويظهر الحق عن قريب ويكون الدين كلّه لله ، جعلنا الله من أنصاره وخدامه آمين . الوجه الثامن : أنّه صرّح في هذه البشارة بأن النبيّ الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره يقتل فلو لم يكن محمّد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً لكان قتل ، وقد قال الله في القرآن المجيد أيضاً { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] وما قتل ، بل قال الله في حقّه : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ المائدة : 67 ] وأوفى وعده ولم يقدر على قتله أحد حتى لقي الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم ، وعيسى عليه السلام قتل وصلب على زعم أهل الكتاب . فلو كانت هذه البشارة في حقّه لزم أن يكون نبياً كاذباً كما يزعمه اليهود ، والعياذ بالله . الوجه التاسع : إن الله بين علامة النبيّ الكاذب ( وهي ) أن أخباره عن الغيب المستقبل لا يخرج صادقاً ، ومحمّد صلى الله عليه وسلم أخبر عن الأمور الكثيرة المستقبلة كما علمت في المسلك الأوّل وظهر صدقة فيها فيكون نبياً صادقاً لا كاذباً . الوجه العاشر : إن علماء اليهود سلموا كونه مبشراً به في التوراة لكن بعضهم أسلم وبعضهم بقي في الكفر - كما أن قيافاً وكان رئيس الكهنة ونبياً على زعم يوحنا عرف أن عيسى هو المسيح الموعود به ولم يؤمن بل أفتى بكفره وقتله كما صرّح به يوحنا في الباب الحادي عشر والثامن عشر من إنجيله - كما " روي من حديث مخيريق أنّه كان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وغلبت عليه إلفة دينه فلم يزل على ذلك حتى كان يوم ( غزوة ) أحد ، وكان يوم السبت فقال : يا معشر اليهود والله أنّكم لتعلمون أنّ نصر محمّد عليكم لحق . قالوا : فإن اليوم يوم السبت ؟ قال : لا سبت . ثمّ أخذ سلاحه وخرج حتى أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأحد ، وكان يوم السبت ، وعهد إلى من ورائه من قومه : إن قتلت هذا اليوم فمالي لمحمد يصنع فيه ما أراه الله تعالى ، فقاتل حتى قتل ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مخيريق خير يهودي " وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله ، فعامّة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها " - وعن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس فقال : " أخرجوا إلي أعلمكم " فقالوا : عبد الله إبن صوريا فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فناشده بدينه وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المَنْ والسلوى وظللهم من الغمام " أتعلم أني رسول الله " ؟ قال : اللهم نعم ، وأن اليهود يعرفون ما أعرف ، وأنّ صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكن حسدوك قال : " فما يمنعك أنت " ؟ قال : أكره خلاف قومي عسى أن يتّبعوك ويسلموا فأسلم " - وعن صفية بنت حيي ( رضي الله عنها ) : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس ، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا ، فهششت إليهما فما إلتفت إلي أحد منهما مع ما بهما من الهم فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي : أهو هو ؟ ( أي المبشر به في التوراة ) قال : نعم والله ، قال : أتثبته وتعرفه ؟ قال : نعم قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ما بقيت أبداً - فتلك عشرة كاملة . ( فإن قيل ) : إن أخوة بني إسرائيل لا تنحصر في بني إسماعيل لأنّ بني عيسو وبني أبناء قطورا زوجة إبراهيم عليهما السلام من إخوتهم أيضاً ، ( قلت ) : نعم هؤلاء أيضاً من أخوة بني إسرائيل لكنّهم لم يظهر أحد منهم يكون موصوفاً بالأمور المذكورة ، ولم يكن وعد الله في حقهم أيضاً بخلاف بني إسماعيل فإنّهم كان وعد الله في حقّهم لإبراهيم ولهاجر عليهما السلام مع أنّه لا يصحّ أن يكون مصداق هذا الخبر بني عيسو على ما هو مقتضى دعاء إسحاق عليه السلام المصرّح به في الباب السابع والعشرين من سفر التكوين . ولعلماء بروتستنت إعتراضان نقلهما صاحب الميزان في كتابه المسمى بحل الأشكال في جواب الإستفسار . الأوّل : إنّه وقع في الآية 15 من الباب 18 من سفر الإستثناء ( التثنية ) هكذا ( فإن الرب إلهك يقيم من بينك من بين إخوتك ) إلخ . فلفظ من بينك يدلّ دلالة ظاهرة على أن هذا النبيّ يكون من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل . والثاني : أن عيسى عليه السلام نسب هذه البشارة إلى نفسه فقال في الآية 46 من الباب الخامس من إنجيل يوحنا : أن موسى كتب في حقي . أقول : آية ( التثنية ) على وفق التراجم الفارسية وتراجم أردو هكذا ( فإن الرب إلهك يقيم من بينك من بين إخوتك نبياً مثلي فأسمع منه ) والقسيس أيضاً نقلها هكذا . والجواب أن اللفظ المذكور لا ينافي مقصودنا لأنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره قد كان حوله بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم فقد قام من بينهم ، ولأنه إذا كان من إخوتهم فقد قام من بينهم ، ولأنّ قوله من بين إخوتك بدل من قوله من بينك بدل إشتمال على رأي إبن الحاجب ومتبعيه القائلين بكفاية علاقة الملابسة غير الكليّة والجزئية في تحقق هذا البدل نحو جاءني زيد أخوه ، وجاءني زيد غلامه ، وبدل إضراب على رأي إبن مالك ، والمبدل منه على كلا التقديرين غير مقصود ، ويدلّ على كونه غير مقصود أن موسى عليه السلام لما أعاد هذا الوعد من كلام الله في الآية الثامنة عشرة لم يوجد فيه لفظ من بينك ، ونقل بطرس الحواري أيضاً هذا القول ولم يوجد فيه هذا اللفظ كما علمت في الوجه السابع ، وكذا نقله إستفانوس أيضاً ولم يوجد في نقله أيضاً هذا اللفظ كما صرّح به في الباب السابع من كتاب الأعمال وعبارته هكذا ( هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون ) فسقوطه في هذه المواضع دليل على كونه غير مقصود فإحتمال البدل قوي جداً . وقال صاحب الإستفسار : إن لفظ من بينك إلحاقي زيد تحريفاً ويدلّ عليه ثلاثة أمور : الأوّل : أن المخاطبين في هذا الموضوع كانوا بني إسرائيل كلهم لا البعض فقوله : من بينك خطاب لجميع القوم فصار لفظ من إخوتك لغواً محضاً لا معنى له ، لكن لفظ من إخوتك جاء في الموضع الآخر أيضاً فيكون صحيحاً ، ولفظ من بينك إلحاقياً زيد تحريفاً . الثاني : أن موسى عليه السلام لما نقل كلام الله لإثبات قوله لم يوجد فيه هذا اللفظ ولا يجوز أن يكون ما قال موسى مخالفاً لما قاله الله . والثالث : أن الحواريين كلّما نقلوا هذا الكلام لم يوجد فيه لفظ من بينك . وإن قلتم إن المحرف إذا حرف فلم لم يحرف الكلام كلّه ؟ ( قلت ) نحن نرى في محاكم العدالة دائماً أن القبالجات المحرفة يثبت تحريف الألفاظ المحرفة فيها من مواضع أخرى منها غالباً وأنّ شهود الزور يؤخذ ببعض بياناتهم . فالوجه الوجيه على أنّ عادة الله جارية بأنّه لا يهدي كيداً الخائنين وبأنّه يظهر خيانة خائن الدين بمقتضى رحمته ، فبمقتضى هذه العادة يصدر عن الخائن شيء ما تظهر به خيانته ، على أنّه لا توجد ملّة يكون أهلها كلّهم خائنين . فالخائنون الذين حرفوا كتب العهدين كان لهم لحاظ ما من جانب بعض المتدينين فلذلك ما بدلوا الكل انتهى . أقول هذا الجواب بالنسبة إلى عادة أهل الكتاب كما عرفت في الأمر السابع . وأقول في الجواب عن الإعتراض الثاني إن آية الإنجيل هكذا ( لأنكم لو كنتم تصدّقون موسى لكنتم تصدّقونني لأنّه هو كتب عني ) وليس فيها تصريح بأن موسى عليه السلام كتب في حقّه في الموضع الفلاني بل المفهوم منه أن موسى كتب في حقّه ( مطلقاً ) وهذا يصدّق إذا وجد في موضع من التوراة إشارة إليه ، ونحن نسلّم هذا الأمر كما ستعرف في ذيل بيان البشارة الثالثة لكننا ننكر أن يكون قوله إشارة إلى هذه البشارة للوجوه : التي عرفتها ، وقد إدعى هذا المعترض في الفصل الثالث من الباب الثاني من الميزان أن الآية الخامسة عشرة من الباب الثالث من سفر التكوين إشارة إليه ، فهذا القدر يكفي لتصحيح قول عيسى عليه السلام ، نعم لو قال عيسى عليه السلام أن موسى عليه السلام ما أشار في أسفاره الخمسة إلى نبيّ من الأنبياء إلاّ إلي لكان لهذا التوهم مجال في هذه الحال . البشارة الثانية الآية 21 من الباب 32 من سفر الإستثناء ( التثنية ) هكذا ( هم أغاروني بغير إله وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة وأنا أيضاً أغيرهم بغير شعب وبشعب جاهل أغضبهم ) والمراد بشعب جاهل العرب لأنهم كانوا في غاية الجهل والضلال وما كان عندهم علم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية ، وما كانوا يعرفون سوى عبادة الأوثان والأصنام ، وكانوا محقرين عند اليهود لكونهم من هاجر الجارية . فمقصود الآية أن بني إسرائيل أغاروني بعبادة المعبودات الباطلة فأغيرهم بإصطفاء الذين هم عندهم محقرون وجاهلون . فأوفى بما وعد ، فبعث من العرب النبيّ صلى الله عليه وسلم فهداهم إلى الصراط المستقيم كما قال الله تعالى في سورة الجمعة : { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الجمعة : 2 ] . وليس المراد بالشعب الجاهل اليونانيين كما يفهم من ظاهر كلام مقدسهم بولس في الباب العاشر من الرسالة الرومية لأنّ اليونانيين قبل ظهور عيسى عليه السلام بأزيد من ثلاثمائة سنة كانوا فائقين على أهل العالم كلّهم في العلوم والفنون ، وكان منهم جميع الحكماء المشهورين مثل سقراط وبقراط وفيثاغورس وأفلاطون وأرسطا طاليس وأرشميدس وبليناس وأقليدس وجالينوس وغيرهم الذين كانوا أئمة الإلهيات والرياضيات والطبيعيات وفروعها قبل عيسى عليه السلام ، وكان اليونانيون في عهده على غاية درجة الكمال في فنونهم . وكانوا واقفين على أحكام التوراة وقصصها ، وعلى سائر كتب العهد العتيق أيضاً بواسطة ترجمة سبتوجنت التي ظهرت باللسان اليوناني قبل المسيح بمقدار مائتين وست وثمانين سنة ، لكنّهم ما كانوا معتقدين للملّة الموسوية ، وكانوا متفحّصين عن الأشياء الحكمية الجديدة كما قال مقدّسهم هذا في الباب الأوّل من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا ( 22 لأنّ اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة 23 ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلّوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة ) فلا يجوز أن يكون المراد بالشعب الجاهل اليونانيين ، فكلام مقدسهم في الرسالة الرومية إما مؤول أو مردود - وقد عرفت في الأمر الثامن أن قوله ساقط عن الإعتبار عندنا . البشارة الثالثة في الباب الثالث والثلاثين من سفر ( التثنية ) في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 هكذا ( 2 وقال : جاء الرب من سينا وأشرق لنا من ساعير وإستعان من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار ) فمجيئه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام وإستعلانه من جبل فاران إنزاله القرآن ، لأنّ فاران جبل من جبال مكّة ، فقد جاء في بيان حال إسماعيل عليه السلام من سفر التكوين ( 21 : 20 وكان الله معه ونما وسكن في البرية وصار شاباً يرمي بالسهام 21 وسكن برية فاران وأخذت له أمه إمرأة من أرض مصر ) ولا شك أن إسماعيل عليه السلام كانت سكناه بمكّة ، ولا يصحّ أن يراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير ومن فاران أيضاً ، فانتشرت في هذه المواضع ، لأنّ الله لو خلق ناراً في موضع لا يقال جاء الله من ذلك الموضع إلاّ إذا اتبع تلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة أو ما أشبه ذلك . وقد اعترفوا بأن الوحي إتبع تلك ( النار التي رآها موسى ) في طور سيناء فكذا لابد أن يكون في ساعير وفاران . البشارة الرابعة في الآية العشرين من الباب السابع عشر من سفر التكوين وعد الله في حقّ إسماعيل عليه السلام لإبراهيم عليه السلام في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 هكذا ( وعلى إسماعيل أستجيب لك ، هوذا أباركه وأكبره وأكثره جداً فسيلد إثنى عشر رئيساً وإجعله لشعب كبير ) قوله " إجعله لشعب كبير يشير إلى محمّد صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لشعب كبير غيره . وقد قال الله تعالى حاكياً دعاء إبراهيم وإسماعيل في حقّه عليهم السلام في كلامه المجيد أيضاً : { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } [ البقرة : 129 ] . وقال الإمام القرطبي في الفصل الأوّل من القسم الثاني من كتابه : وقد تفطن بعض النبهاء ممّن نشأ على لسان اليهود وقرأ بعض كتبهم فقال : يخرج ممّا ذكر من عبارة التوراة في موضعين اسم محمّد صلى الله عليه وسلم بالعدد على ما يستعمله اليهود فيما بينهم : الأوّل : قوله جداً جداً بتلك اللّغة " بمادماد " وعدد هذه الحروف إثنان وتسعون ، لأنّ الباء اثنان والميم أربعون والألف واحد والدال أربعة والميم الثانية أربعون والألف واحد والدال أربعة ، وكذلك الميم من محمّد أربعون والحاء ثمانية والميم أربعون والدال أربعة . والثاني : قوله لشعب كبير بتلك اللّغة " لغوي غدول " فاللام عندهم ثلاثون والغين ثلاثة - لأنّه عندهم في مقام الجيم ، إذ ليس في لغتهم جيم ولا صاد - والواو ستة والياء عشرة والغين أيضاً ثلاثة والدال أربعة والواو ستة واللام ثلاثون فمجموع هذه أيضاً إثنان وتسعون ، إنتهى كلامه بتلخيص ما . وعبد السلام كان من أحبار اليهود ثمّ أسلم في عهد السلطان المرحوم بايزيد خان ، وصنف رسالة صغيرة سمّاها بالرسالة الهادية فقال فيها " إن أكثر أدلّة أحبار اليهود بحرف الجمل الكبير ، وهو حرف أبجد ، فإن أحبار اليهود حين بنى سليمان النبيّ عليه السلام بيت المقدس إجتمعوا وقالوا : يبقى هذا البناء أربعمائة وعشر سنين ، ثمّ يعرض له الخراب ، لأنّهم حسبوا لفظة " برأت " ثمّ قال : " وإعترضوا على هذا الدليل بأن الباء في بمادماد ليست نفس الكلمة بل هي أداة وحرف جيء به للصلة فلو أخرج منه لأحتاج اسم محمّد إلى باء ثانية ويقال : بمادماد ( قلنا ) من المشهور عندهم إذا إجتمع الباآن ( أحدهما ) أداة ( والآخر ) من نفس الكلمة تحذف الأداة وتبقى التي هي من نفس الكلمة ، وهذا شائع عندهم في مواضع غير معدودة فلا حاجة إلى إيرادها " إنتهى كلامه بلفظه . أقول : قد صرح العلماء بأن من أسمائه صلى الله عليه وسلم مادماد كما في شفاء القاضي عياض . البشارة الخامسة جاء في ترجمات سنة 1722 وسنة 1831 وسنة 1844 العربيّة من سفر التكوين ( 49 : 10 فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبّر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم ) وفي ترجمة سنة 1811 ( فلا يزول القضيب من يهوذا والراسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب ) ولفظ الذي له الكل أو الذي هو له ترجمة لفظ " شيلوه " وفي ترجمة هذا اللفظ إختلاف كثير فيما بينهم كما عرفت في الأمر السابع أيضاً . وقال عبد السلام في الرسالة الهادية هكذا ( لا يزول الحاكم من يهوذا ولا راسم من بين رجليه حتى يجيء الذي له وإليه تجتمع الشعوب ) وفي هذه الآية دلالة على مجيء سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم بعد تمام حكم موسى وعيسى ، لأنّ المراد من الحاكم هو موسى ، لأنه بعد يعقوب ما جاء صاحب شريعة إلى زمان موسى إلاّ موسى ؛ والمراد من الراسم هو عيسى لأنه بعد موسى إلى زمان عيسى ما جاء صاحب شريعة إلاّ عيسى ، وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلاّ محمّد . فعلم أن المراد من قول يعقوب في آخر الأيام هو نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم لأنه في آخر الزمان بعد مضي حكم الحاكم والراسم ما جاء إلاّ سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم ويدلّ عليه أيضاً قوله حتى يجيء الذي له أي الحكم بدلالة مساق الآية وسباقها وأمّا قوله ( وإليه تجتمع الشعوب ) فهي علامة صريحة ودلالة واضحة على أن المراد منها هو سيدنا ( محمّد ) لأنّه ما إجتمع الشعوب إلاّ إليه ، وإنّما لم يذكر الزبور لأنّه لا أحكام فيه ، وداود النبيّ تابع لموسى ، والمراد من خبر يعقوب هو صاحب الأحكام " إنتهى كلامه بلفظه . أقول : إنّما أراد من الحاكم موسى عليه السلام لأن شريعته جبرية إنتقامية ، ومن الراسم عيسى عليه السلام لأنّ شريعته ليست بجبرية ولا إنتقامية . وأنّ أريد من القضيب السلطنة الدنيوية ، ومن المدبر الحاكم الدنيوي - كما يفهم من رسائل القسيسين من فرقة بروتستنت ومن بعض تراجمهم - فلا يصحّ أن يراد بشيلوه مسيح اليهود كما هو مزعومهم ، ولا عيسى عليه السلام كما هو مزعوم النصارى ( أمّا الأوّل ) فظاهر لأنّ السلطنة الدنيوية والحاكم الدنيوي زالاً من آل يهوذا من مدة هي أزيد ألفي سنة من عهد بخت نصر ، ولم يسمع إلى الآن حسيس مسيح اليهود ( وأمّا الثاني ) فلأنهما زالاً من آل يهوذا أيضاً قبل ظهور عيسى عليه السلام بمقدار ستمائة سنة من عهد بخت نصر ، وهو أجلى بني يهوذا إلى بابل ، وكانوا في الجلاء ثلاثاً وستين سنة لا سبعين كما يقول بعض علماء بروتستنت تغليطاً للعوام - كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأوّل - ثمّ وقع عليهم في عهد أنتيوكس ما وقع فإنّه عزل أو نياس حبر اليهود وباع منصبه لأخيه ياسون بثلثمائة وستين وزنة ذهب يقدمها له خراجاً كلّ سنة ، ثمّ عزله وباع ذلك لأخيه مينالاوس بستمائة وستين وزنة ، ثمّ شاع خبر موته فطلب ياسون أن يسترد لنفسه الكهنوت ، ودخل أورشليم بألوف من الجنود فقتل كلّ من كان يظنّه عدواً له - وهذا الخبر كان كاذباً - فهجم أنتيوكس على أورشليم وإمتلكها ثانية في سنة 170 قبل ميلاد المسيح وقتل من أهلها أربعين ألفاً ، وباع مثل ذلك عبيداً . وفي الفصل العشرين من الجزء الثاني من مرشد الطالبين في بيان الجدول التاريخي في الصفحة 481 من النسخة المطبوعة سنة 1852 من الميلاد ( إنّه نهب أورشليم وقتل ثمانين ألفاً ) إنتهى . وسلب ما كان في الهيكل من الأمتعة النفيسة التي كانت قيمتها ثمانمائة وزنة ذهب ، وقرب خنزيرة وقوداً على المذبح للإهانة ، ثمّ رجع إلى إنطاكية وأقام فيلبس أحد الأراذل حاكماً على اليهودية - وفي رحلته الرابعة إلى مصر أرسل أبو لوينوس بعشرين ألفاً من جنوده وأمرهم أن يخربوا أورشليم ويقتلوا كلّ من فيها من الرجال ويسبوا النساء والصبيان فإنطلقوا إلى هناك ، وبينما كان الناس في المدينة مجتمعين للصلاة يوم السبت هجموا عليهم على غفلة ، فقتلوا الكل إلاّ من أفلت إلى الجبال أو إختفى في المغاور ونهبوا أموال المدينة وأحرقوها ، وهدموا أسوارها وخربوا منازلها ، ثمّ إبتنوا لهم من بسائط ذلك الهدم قلعة حصينة على جبل أكراً ، وكانت العساكر تشرف منها على جميع نواحي الهيكل ، ومن دنا منهم يقتلونه ، ثمّ أرسل أنتيوكس أثانيوس ليعلم اليهود طقوس عبادة الأصنام اليونانية ، ويقتل كلّ من لا يمتثل ذلك الأمر ، فجاء أثانيوس إلى أورشليم ، وساعده على ذلك بعض اليهود الكافرين ، وأبطل الذبيحة اليومية ، ونسخ كلّ طاعة للدين اليهودي عموماً وخصوصاً ، وأحرق كلّ ما وجده من نسخ كتب العهد العتيق بالفحص التام ، وكرس الهيكل للمشتري ، ونصب صورة ذلك على مذبح اليهود ، وأهلك كلّ من وجده مخالفاً ، أمر أنتيوكس ، ونجا متاثياس الكاهن مع أبنائه الخمسة في هذه الداهية وفروا إلى وطنهم مودين في سبط دان ، فإنتقم من هؤلاء الكفّار إنتقاماً ما قدروا عليه على إستطاعته كما هو مصرح به في التواريخ ، فكيف يصدّق هذا الخبر على عيسى عليه السلام ؟ وإن قالوا إن المراد ببقاء السلطنة والحكومة إمتياز القوم كما يقول بعضهم الآن ( قلنا ) هذا الأمر كان باقياً إلى ظهور محمّد صلى الله عليه وسلم ، وكانوا في أقطار العرب ذوي حصون وأملاك غير مطيعين لأحد ، مثل يهود خيبر وغيرهم كما تشهد به التواريخ ، وبعد ظهور محمّد صلى الله عليه وسلم ضربت عليهم الذلّة والمسكنة ، وصاروا في كلّ أقليم مطيعين للغير - فالأليق أن يكون المراد بشيلوه النبيّ صلى الله عليه وسلم لا مسيح اليهود ولا عيسى عليه السلام . البشارة السادسة الزبور الخامس والأربعون هكذا ( 1 - فاض قلبي كلمة صالحة أنا أقول أعمالي للملك 2 - لساني قلم كاتب سريع الكتابة 3 - بهي في الحسن أفضل من بني البشر 4 - إنسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الدهر 4 - تقلّد سيفك على فخذك أيّها القوي بحسنك وجمالك 5 - أستله وأنجح وأملك من أجل الحق والدعة والصدّق وتهديك بالعجب يمينك 6 - نبلك مسنونة أيّها القوي في قلب أعداء الملك ، الشعوب تحتك يسقطون 7 - كرسيك يا الله إلى دهر الداهرين ، عصا الإستقامة عصا ملكك 8 - أحببت البر وأبغضت الإثمّ لذلك مسحك الله إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك 9 - المر والميعة والسليخة من ثيابك ، من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك 10 - بنات الملوك في كرامتك ، قامت المملكة من عن يمينك مشتملة بثوب مذهب موشى 11 - إسمعي يا بنت وأنظري وأنصتي بأذنيك وإنسي شعبك وبنت أبيك 12 - فيشتهي الملك حسنك لأنه هو الرب إلهك وله تسجدين 13 - بنات صور يأتينك بالهدايا ، لوجهك يصلي كلّ أغنياء الشعب 14 - كلّ مجد إبنة الملك من داخل مشتملة بلباس الذهب الموشى 15 - يبلغن إلى الملك عذارى في أثرها قريباتها إليك يقدمن 16 - يبلغن بفرح وإبتهاج يدخلن إلى هيكل الملك 17 - ويكون بنوك عوضاً من آبائك وتقيمهم رؤساء على سائر الأرض 18 - سأذكر اسمك في كلّ جيل وجيل من أجل ذلك تعترف لك الشعوب إلى الدهر وإلى دهر الداهرين ) . من المسلم عند أهل الكتاب أن داود عليه السلام يبشر في هذا الزبور بنبي يكون ظهوره بعد زمانه ، ولم يظهر إلى هذا الحين عند اليهود نبيّ يكون موصوفاً بالصفات المذكورة في هذا الزبور ، ويدعي علماء بروتستنت أن هذا النبيّ عيسى عليه السلام ، ويدعي أهل الإسلام سلفاً وخلفاً أن هذا النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم . فأقول : إنّه ذكر في هذا الزبور من صفات النبيّ المبشر به هذه الصفات : 1 - كونه حسناً 2 - كونه أفضل البشر 3 - كون النعمة منسكبة على شفتيه 4 - كونه مباركاً إلى ( آخر ) الدهر 5 - كونه متقلّداً بالسيف 6 - كونه قوياً 7 - كونه ذا حقّ ودعة وصدق 8 - كون هداية يمينه بالعجب 9 - كون نبله مسنونة 10 - سقوط الشعب تحته 11 - كونه محباً للبر ومبغضاً للإثم 12 - خدمة بنات الملوك إياه 13 - إتيان الهدايا إليه 14 - إنقياد كلّ أغنياء الشعب له 15 - كون أبنائه رؤساء الأرض بدل آبائهم 16 - كون اسمه مذكوراً جيلاً بعد جيل 17 - مدح الشعوب إياه إلى دهر الداهرين . وهذه الأوصاف كلّها توجد في محمّد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه . أمّا الأوّل : فلأن أبا هريرة ( رضي الله عنه ) قال : ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه ، وإذا ضحك يتلألأ في الجدار - وعن أم معبد ( رضي الله عنها ) قالت : في بعض ما وصفته به : أجمل الناس من بعيد ، وأحلاهم وأحسنهم من قريب . وأمّا الثاني : فلأن الله تعالى قال في كلامه المحكم : { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] الآية . وقال أهل التفسير : أراد بقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ] محمّداً صلى الله عليه وسلم أي رفعه على سائر الأنبياء من وجوه : متعددة ، وقد أشبع الكلام في تفسير هذه الآية الإمام الهمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " أي لا أقول ذلك فخراً لنفسي بل تحديثاً بنعمة ربي . وأمّا الثالث : فغير محتاج إلى البيان حتى أقرّ بفصاحته الموافق والمخالف وقال الرواة في وصف كلامه : إنّه كان أصدق الناس لهجة ، فكان من الفصاحة بالمحل الأفضل والموضع الأكمل . وأمّا الرابع : فلأن الله قال : { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } [ الأحزاب : 56 ] وألوف ألوف من الناس يصلون عليه في الصلوات الخمس ( وغيرها ) . وأمّا الخامس : فظاهر ، وقد قال هو بنفسه " أنا رسول الله بالسيف " . وأمّا السادس : فكانت قوّته الجسمانية على الكمال كما ثبت " أن ركانة خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكّة قبل أن يسلّم فقال : " يا ركانه ألاّ تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه " ؟ فقال : لو أعلم والله ما تقول حقاً لأتبعتك فقال : " أرأيت إنّ صرعتك أتعلم أن ما أقول حقّ " قال : نعم ، فلما بطش به صلى الله عليه وسلم أضجعه لا يملك من أمره شيئاً ، ثمّ قال : يا محمّد عدّ فصرعه أيضاً فقال : يا محمّد إن ذا لعجب ! فقال صلى الله عليه وسلم : " وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن إتقيت الله وتبعت أمري " قال : ما هو ؟ قال : " أدعو لك هذه الشجرة " فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال لها : " إرجعي مكانك " فرجع ركانة إلى قومه فقال : يا بني عبد مناف ما رأيت أسحر منه ثمّ أخبرهم بما رأى " وركانة هذا كان من الأقوياء المصارعين المشهورين . وأمّا شجاعته فقد قال ابن عمر ( رضي الله عنهما ) : ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال علي كرم الله وجهه : وإنّا كنا إذا حمي البأس وإحمرّت الحدق إتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه . ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشدّ الناس يومئذ بأساً . وأمّا السابع : فلأن الأمانة والصدق من الصفات الجبلية له صلى الله عليه وسلم كما قال النضر بن الحارث لقريش : قد كان محمّد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم أنّه ساحر ، لا والله ما هو بساحر - وسأل هرقل عن حال النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا سفيان فقال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا . وأمّا الثامن : فلأنه رمى يوم بدر ، وكذا يوم حنين وجوه : الكفّار بقبضة تراب فلم يبق مشرك إلاّ شغل بعينه ، فإنهزموا وتمكن المسلمون منهم قتلا وأسراً فأمثال هذه من عجيب هداية يمينه . وأمّا التاسع : فلأن كون أولاد إسماعيل أصحاب النبل في سالف الزمان ، غير محتاج إلى البيان ، وكان هذا الأمر مرغوباً له ، وكان يقول : " ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه " ويقول : " إرموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً " ويقول عليه السلام " من تعلم الرمي ثمّ تركه فليس منا " . وأمّا العاشر : فلأن الناس دخلوا أفواجاً أفواجاً في دين الله في مدّة حياته . وأمّا الحادي عشر : فمشهور يعترف به المعاندون أيضاً كما عرفت في المسلك الثاني . وأمّا الثاني عشر : فقد صارت بنات الملوك والأمراء خادمة للمسلمين في الطبقة الأولى ، ومنها شهر بانو بنت يرد جرد كسرى فارس كانت تحت الإمام الهمام الحسين ( رضي الله عنه ) . وأمّا الثالث عشر والرابع عشر : فلأن النجاشي ملك الحبشة ومنذرين ساوى ملك البحرين وملك عمان إنقادوا وأسلموا ، وهرقل قيصر الروم أرسل إليه بهدية ، والمقوقس ملك القبط أرسل إليه ثلاث جوار وغلاماً أسود وبغلة شهباء وحماراً أشهب وفرساً وثياباً وغيرها . وأمّا الخامس عشر : فقد وصل من أبناء الإمام الحسن ( رضي الله عنه ) إلى الخلافة وألوف في أقاليم مختلفة من الحجاز واليمن ومصر والمغرب والشام وفارس والهند وغيرها ، وفازوا بالسلطنة والإمارة العالية ، وإلى الآن أيضاً في ديار الحجاز واليمن وفي غيرهما توجد الأمراء والحكماء من نسله صلى الله عليه وسلم ، وسيظهر إن شاء الله المهدي ( رضي الله عنه ) من نسله ، ويكون خليفة الله في الأرض ويكون الدين كلّه لله في عهده الشريف . وأمّا السادس عشر والسابع عشر : فلأنه ينادي ألوف ألوف جيلاً بعد جيل في الأوقات الخمسة بصوت رفيع في أقاليم مختلفة : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أن محمّداً رسول الله ، ويصلي عليه في الأوقات المذكورة غير المحصورين من المصلين ، والقراء يحفظون منشوره ، والمفسّرون يفسرون معاني فرقانه ، والوعاظ يبلغون وعظه ، والعلماء والسلاطين يصلّون إلى خدمته ، ويسلمون عليه من وراء الباب ويمسحون وجوههم بتراب روضته ويرجون شفاعته . ولا يصدق هذا الخبر في حق عيسى عليه السلام كما يدعيه علماء بروتستنت إدعاء باطلاً ، لأنّهم يشيرون إلى الخبر المندرج في الباب الثالث والخمسين من كتاب أشعيا في حق عيسى عليه السلام ، وهذا نصه : ليس له منظر وجمال ، ورأيناه ولم يكن له منظر وإشتهيناه مهاناً ، وآخر الرجال رجل الأوجاع مختبراً بالأمراض ، وكان مكتوباً وجهه ومزدولا ولم نحسبه ونحن حسبناه كأبرص ومضروباً من الله ومخضوعاً ، والرب شاء أن يسحقه . وهذه الأوصاف ضد الأوصاف التي في الزبور المذكور فلا يصدق عليه كونه حسناً ولا كونه قوياً ، وكذا لا يصدق عليه كونه متقلداً بالسيف ، ولا كون نبله مسنونة ، ولا إنقياد الأغنياء له ، ولا إرسالهم إليه الهدايا ، بل هم على زعم النصارى أخذوه وأهانوه وإستهزؤا به وضربوه بالسياط ثمّ صلبوه ، وما كان له زوجة ولا إبن ، فلا يصدّق دخول بنات الملوك في بيته ، ولا كون أبنائه بدل آبائه رؤساء الأرض . فائدة : ترجمة الآية الثامنة التي نقلتها مطابقة للترجمة الفارسية للزبور التي كانت عندي ، ولتراجم أردو للزبور وموافقة لنقل مقدسهم بولس لأنّه نقل هذه الآية في الباب الأوّل من رسالته العبرانية هكذا ترجمة عربية سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 ( أحببت البر وأبغضت الإثمّ لذلك مسحك الله إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك ) والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وتراجم أردو المطبوعة سنة 1839 وسنة 1840 وسنة 1841 مطابقة للتراجم العربيّة ، فالترجمة التي تكون مخالفة لما نقلت تكون غير صحيحة ، ويكفي لردها إلزاماً كلام مقدسهم ، وقد عرفت في مقدّمة الباب الرابع أن إطلاق لفظ الإله والرب وأمثالهما جاء على العوام فضلاً عن الخواص . والآية السادسة من الزبور الثاني والثمانين هكذا ( أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم ) فلا يرد ما قال صاحب مفتاح الأسرار أنّه وقع في الآية المذكورة هكذا ( أحببت البر وأبغضت الشر من أجل ذلك يا الله مسح إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك ) ولا يقال لشخص غير المسيح يا الله مسيح إلهك إلخ ، لأنا لا نسلّم أولاً صحّة ترجمته لكونها مخالفة لكلام مقدسهم ( وثانياً ) لو قطعنا النظر عن عدم صحّتها أقول إدعاؤه صريح البطلان لأنّ لفظ الله هاهنا بالمعنى المجازي لا الحقيقي ، ويدلّ عليه قوله إلهك ، لأنّ الإله الحقيقي لا إله له ، فإذا كان بالمعنى المجازي يصدّق في حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم كما يصدّق في حقّ عيسى عليه السلام . ( قد حذفنا من هنا 6 بشارات من 7 - 12 للإختصار ) . ( البشارة الثالثة عشرة ) في الباب الثالث من إنجيل متّى هكذا : ( 1 - وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية 2 - قائلاً : توبوا لأنّه قد إقترب ملكوت السماوات ) وفي الباب الرابع من إنجيل متّى هكذا : ( 12 - ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم أنصرف إلى الجليل … 17 - من ذلك الزمن إبتدأ يسوع يكرز ويقول : توبوا لأنّه قد إقترب ملكوت السماوات … 23 - وكان يسوع يطوف كلّ الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ) إلخ وفي الباب السادس من إنجيل متّى في بيان الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا ( 10 - ليأت ملكوتك ) ولما أرسل الحواريين إلى البلاد الإسرائيليّة للدعوة والوعظ وصاهم بوصايا منها هذه الوصية أيضاً ( وفيما أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين : إنّه قد إقترب ملكوت السماوات ) كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل متّى ، ووقع في الباب التاسع من إنجيل لوقا هكذا ( 1 - ودعا تلاميذه الإثني عشر وأعطاهم قوّة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء أمراض 2 - وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى ) وفي الباب العاشر من إنجيل لوقا هكذا ( 1 - وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً وأرسلهم ) إلخ ( فقال لهم ) إلخ ( 8 - وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا ممّا يقدّم لكم 9 - واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم : قد إقترب منكم ملكوت الله 10 - وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فأخرجوا إلى شوارعها وقولوا 11 - حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ، ولكن اعلموا هذا أنّه قد اقترب منكم ملكوت الله ) - فظهر إنّ كلاًّ من يحيى وعيسى والحواريين والتلاميذ السبعين بشّر بملكوت السماوات ، وبشّر عيسى عليه السلام بالألفاظ التي بشّر بها يحيى عليه السلام ، فعلم أنّ هذا الملكوت كما لم يظهر في عهد يحيى عليه السلام فكذلك لم يظهر في عهد عيسى عليه السلام ، ولا في عهد الحواريين والسبعين ، بل كلّ منهم مبشّر به ومخبر عن فضله ومترج لمجيئه ، فلا يكون المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة عيسى عليه السلام ، وإلاّ لما قال عيسى عليه السلام والحواريون والسبعون : إن ملكوت السماوات قد اقترب ، ولما علم التلاميذ أن يقولوا في الصلاة : وليأت ملكوتك ، لأنّ هذه الطريقة قد ظهرت بعد ادعاء عيسى عليه السلام النبوّة بشريعته ، فهو عبارة عن طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمّد صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء كانوا يبشرون بهذه الطريقة الجليلة ، ولفظ ملكوت السماوات بحسب الظاهر يدلّ على أن هذا الملكوت يكون في صورة السلطنة لا في صورة المسكنة ، وإن المحاربة والجدال فيه مع المخالفين يكونان لأجله ، وأن مبني قوانينه لابد أن يكون كتاباً سماوياً ، وكلّ من هذه الأمور يصدّق على الشريعة المحمدية . وقول علماء المسيحيّة : إن المراد بهذا الملكوت شيوع الملّة المسيحيّة في جميع العالم وإحاطتها بكل الدنيا بعد نزول عيسى عليه السلام . فتأويل ضعيف خلاف الظاهر ، ويردّه التمثيلات المنقولة عن عيسى عليه السلام في الباب الثالث عشر من إنجيل متّى مثلاً قال : ( 24 - يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله … ) ثمّ قال : ( 31 يشبه ملكوت السماوات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله … ) ثمّ قال : ( 33 - يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها إمرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى إختمر الجميع ) فشبه ملكوت السماوات بإنسان زارع لا ينمو الزراعة وحصادها ، وكذلك شبه بحبة خردل لا بصيرورتها شجرة عظيمة ، وشبهه بخميرة لا بإختمار جميع الدقيق . وكذا يرد هذا التأويل قول عيسى عليه السلام بعد بيان التمثيل المنقول في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متّى هكذا ( 43 - لذلك أقول لكم : إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ) فإن هذا القول يدلّ على أنّ المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة نفسها لا شيوعها في جميع العالم وإحاطتها بكل العالم وإلاّ لا معنى لنزل الشيوع والإحاطة من قوم وإعطائهما لقوم آخرين . فالحق أن المراد بهذا الملكوت هي المملكة التي أخبر عنها دانيال عليه السلام في الباب الثاني من كتابه فمصداق هذا الملكوت وتلك المملكة نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم والله أعلم وعلّمه أتم . البشارة الرابعة عشرة في الباب الثالث عشر من إنجيل متّى هكذا ( 31 - قدّم لهم مثلاً آخر قائلاً يشبه ملكوت السماوات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله 32 - وهي أصغر جميع البذور ، ولكن متى نمّت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها ) فملكوت السماء طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمّد صلى الله عليه وسلم لأنّه نشأ في قوم كانوا حقراء عند العالم لكونهم من أهل البوادي غالباً ، وغير واقفين على العلوم والصناعات ، محرومين من اللذات الجسمانية ، والتكلّفات الدنيوية ، ولا سيّما عند اليهود لكونهم من أولاد هاجر ، فبعث الله منهم محمّداً صلى الله عليه وسلم فكانت شريعته في ابتداء الأمر بمنزلة حبّة خردل ، أصغر الشرائع بحسب الظاهر ، لكنّها لعمومها نمت في مدّة قليلة وصارت أكبرها وأحاطت شرقاً وغرباً حتى أن الذين لم يكونوا مطيعين لشريعة من الشرائع تشبثوا بذيل شريعته . البشارة الخامسة عشر في الباب العشرين من إنجيل متّى هكذا 1 - ( فإن ملكوت السماوات يشبه رجلاً ربّ بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكرمه ) 2 - ( فإتفق مع العملة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه 3 - ثمّ خرج نحو الساعة الثالثة ورأى آخرين قياماً في السوق بطالين 4 - فقال لهم : إذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم فمضوا 5 - وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك 6 - ثمّ نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطالين فقال لهم : لماذا وقفّتم هاهنا كلّ النهار بطالين 7 - قالوا له : لأنّه لم يستأجرنا أحد . قال لهم : إذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحقّ لكم 8 - فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله : إدع الفعلة وأعطهم الأجرة مبتدياً من الآخرين إلى الأولين 9 - فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا ديناراً ديناراً 10 - فلما جاء الأولون ظنّوا أنّهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضاً ديناراً ديناراً 11 - وفيما هم يأخذون تذمروا على ربّ البيت 12 - قائلين : هؤلاء الآخرون عملوا ساعة وقد ساويتهم بنا نحن الذين إحتملنا ثقل النهار والحر 13 - فأجاب وقال لواحد منهم : يا صاحب ما ظلمتك أمّا إتفقّت معي على دينار ؟ 14 - فخذ الذي لك وإذهب فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك 15 - أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي أم عينك شريرة لأنّي أنا صالح 16 - هكذا يكون الآخرون أولين ، والأولون آخرين ، لأنّ كثيرين يدعون وقليلين ينتخون ) اهـ . فالآخرون أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ، فهم يقدّمون في الأجر وهم الآخرون الأولون كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون السابقون " وقال : " إن الجنّة حرّمت على الأنبياء كلّهم حتى أدخلها ، وحرّمت على الأمم حتى تدخلها أمتي " . البشارة السادسة عشر في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا ( 33 - إسمعوا مثلاً آخر كان إنسان ربّ بيت غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجا وسلمه إلى كرامين وسافر 34 - ولما قرب وقت الأثمار أرسل عبيده إلى الكرامين وسافر ليأخذ أثماره 35 - فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً 36 - ثمّ أرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك ) 37 - ( فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً : يهابون إبني 38 - وأمّا الكرامون فلما رأوا الإبن قالوا فيما بينهم : هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه 39 - فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه 40 - فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين ؟ 41 - قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها 42 - قال لهم يسوع : أمّا قرأتم قط في الكتب : الحجر الذي رفضه البناؤن هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب ؟ كان هذا وهو عجيب في أعيننا 43 - لذلك أقول لكم : إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمّة تعمل أثماره 44 - ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه 45 - ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنّه تكلّم عليهم ) . أقول : إن ربّ بيت كناية عن الله ، والكرم كناية عن الشريعة ، وإحاطته بسياج ، وحفر المعصرة فيه ، وبناء البرج ، كنايات عن المحرمات والمباحات والأوامر والنواهي . وأن الكرامين الطاغين كناية عن اليهود ، كما فهم رؤساء الكهنة والفريسيون أنّه تكلّم عليهم ، والعبيد المرسلين كناية عن الأنبياء عليهم السلام والإبن كناية عن عيسى عليه السلام - وقد عرفت في الباب الرابع أنّه لا بأس بإطلاق هذا اللفظ عليه ، وقد قتله اليهود أيضاً في زعمهم ، والحجر الذي رفضه البناؤن كناية عن محمّد صلى الله عليه وسلم ، والأمة التي تعمل أثماره كناية عن أمّته صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الحجر الذي كلّ من سقط عليه ترضض ، وكلّ من سقط هو عليه سحقه . وما إدعاه علماء المسيحيّة بزعمهم : أن هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام فغير صحيح لوجوه . الأوّل : إن داود عليه السلام قال في الزبور المائة والثامن عشر هكذا 22 - ( الحجر الذي رذله البناؤن هو صار للزاوية 23 - من قبل الرب كانت هذه وهي عجيبة في أعيننا ) فلو كان هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام ، وهو من اليهود من آل يهوذا من آل داود عليه السلام . فأي عجب في أعين اليهود عموماً لكون عيسى عليه السلام رأس الزاوية ولا سيّما في عين داود عليه السلام ، خصوصاً لأنّ مزعوم المسيحيين أن داود عليه السلام يعظم عيسى عليه السلام في مزاميره تعظيماً بليغاً ويعتقد الألوهيّة في حقّه ، بخلاف آل إسماعيل ، فإن اليهود كانوا يحقرون أولاد إسماعيل غاية التحقير فكان كون أحد منهم رأساً للزاوية عجيباً في أعينهم . والثاني : أنّه وقع في وصف هذا الحجر كلّ من سقط على هذا الحجر ترضض ، وكلّ من سقط هو عليه سحقه . ولا يصدّق هذا الوصف على عيسى عليه السلام لأنّه قال : ( وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه ، لأنّي لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم ) كما هو في الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا . وصدقه على محمّد صلى الله عليه وسلم غير محتاج إلى البيان ؛ لأنّه كان مأموراً بتنبيه الفجار الأشرار فإن سقطوا عليه ترضضوا ، وإن سقط هو عليهم سحقهم . الثالث : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه وترك منه موضع لبنة فطاف بها النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلاّ موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل " ولما ثبتت نبوّته بالأدلّة الأخرى ، كما ذكرت نبذاً منها في المسالك السابقة فلا بأس بأن استدل في هذه البشارة بقوله أيضاً . والرابع : إن المتبادر من كلام المسيح أن هذا الحجر غير الإبن . البشارة السابعة عشر في الباب الثاني من المشاهدات هكذا ( 26 - ومن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطاناً على الأمم 27 - فيرعاهم بقضيب من حديد كما تكسر آنية من خزف كما أخذت أيضاً من عند أبي 28 - وأعطيه كوكب الصبح 29 - من له أذن فليسمع ما يقول الروح بالكايس ) فهذا الغالب الذي أعطي سلطاناً على الأمم ويرعاهم بقضيب من حديد هو محمّد صلى الله عليه وسلم ، كما قال الله في حقّه : { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } [ الفتح : 3 ] وقد سماه سطيح الكاهن صاحب الهراوة - روي أنّه ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم إنشق إيوان كسرى أنوشروان ، وسقط منه أربع عشرة شرفة ، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وغارت بحيرة ساوة بحيث صارت يابسة . ورأى الموبذان في نومه أن إبلا صعاباً تقود خيلاً عراباً فقطعت دجلة وانتشرت في بلادها ، فخاف كسرى من حدوث هذه الأمور ، وأرسل عبد المسيح إلى سطيح الكاهن الذي كان في الشام ، ولما وصل عبد المسيح إليه وجده في سكرات الموت فذكر هذه الأمور عبده ؟ فأجاب سطيح : إذا كثرت التلاوة ، وظهر صاحب الهراوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وخمدت نار فارس ، فليست بابل للفرس مقاماً ، ولا الشام لسطيح مناماً ، يملك منهم ملوك وملكات ، على عدد الشرفات ، وكلّ ما هو آت آت اهـ ثمّ مات سطيح من ساعته ، ورجع عبد المسيح فأخبر أنوشروان بما قال سطيح ، قال كسرى : إلى أن يملك أربعة عشر ملكاً كانت أمور وأمور ، فملك منهم عشرة في أربع سنين ، وملك الباقون إلى خلافة عثمان ( رضي الله عنه ) فهلك آخرهم يزدجرد في خلافته . والهراوة بكسر الهاء العصا الضخمة ، وكوكب الصبح عبارة عن القرآن ، قال الله في سورة النساء : { وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [ النساء : 174 ] وقال في سورة التغابن : { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } [ التغابن : 8 ] . قال صاحب صولة الضغيم بعد نقل هذه البشارة : قلت للقسيسين ويت ووليم عند المناظرة : إن صاحب هذا القضيب من حديد محمّد صلى الله عليه وسلم فاضطربا بسماع هذا الأمر وقالا : إن عيسى عليه السلام حكم بهذا لكنيسة ثياتيراً فلا بد أن يكون ظهور مثل هذا الشخص هناك ، ومحمّد صلى الله عليه وسلم ما راح هناك ، قلت : هذه الكنيسة في أية ناحية كانت ؟ فرجعا إلى كتب اللغة وقالا : كانت في أرض الروم قريبة من إستانبول ، قلت : راح أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم في خلافة الفاروق الأعظم عمر ( رضي الله عنه ) إلى هذه البلاد وفتحوها وبعد الصحابة ( رضي الله عنهم ) كان المسلمون أيضاً متسلطين عليها في أكثر الأوقات ثمّ تسلّط عليها سلاطين آل عثمان أدام الله سلطنتهم من مدّة مديدة ، وهم متسلطون إلى هذا الحين . فهذا الخبر صريح في حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم إنتهى كلامه . قلت : إن الفاضل عباس علي الجاجموي الهندي صنف أولاً كتاباً كبيراً في الرّد على أهل التثليث سماه ( صولة الضيغم على أعداء ابن مريم ) ثمّ نظر هو رحمه الله ويت ووليم القسيسين في بلد كانفور من بلاد الهند وألزمهما ثمّ إختصر كتابه وسمّى المختصر ( خلاصة صولة الضيغم ) ومناظرته كانت قبل أن أناظر صاحب ميزان الحق في أكبر آباد بمقدار إثنتين وعشرين سنة . البشارة الثامنة عشرة هذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا وأنا أنقلها عن التراجم العربيّة المطبوعة سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 في بلدة لندن فأقول : في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( 15 - إن كنتم تحبونني فأحفظوا وصاياي 16 - وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد 17 - روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنّه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنّه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم 26 - والفارقليط روح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كلّ شيء وهو يذكركم كلّ ما قلته لكم 30 - والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون ) وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( 26 - فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق فهو يشهد لأجلي 27 - وأنتم تشهدون لأنّكم معي من الإبتداء ) وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( 7 - لكنّي أقول لكم الحق إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّي إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم 8 - فإذا جاء ذاك يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم 9 - أمّا على الخطية فلأنّهم لم يؤمنوا بي 10 - وأمّا على البر ، فلأني منطلق إلى الأب ، ولستم ترونني بعد 11 - وأمّا على الحكم فإن أكون ( رئيس ) هذا العالم قد دين 12 - وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن 13 - وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع ، ويخبركم بما سيأتي 14 - وهو يمجدني لأنّه يأخذ ممّا هو لي ويخبركم 15 - جميع ما هو للأب فهو لي فمَنْ أجل هذا قلت إن ممّا هو لي يأخذ ويخبركم ) . وأنا أقدم قبل بيان وجه الإستدلال بهذه العبارات أمرين ( الأمر الأوّل ) إنّك قد عرفت في الأمر السابع أن أهل الكتاب سلفا وخلفا عادتهم أن يترجموا غالباً الأسماء . ( أي الإعلام ) وأن عيسى عليه السلام كان يتكلّم باللسان العبراني لا باليوناني فإذا لا يبقى شك في أن الإنجيلي الرابع ترجم اسم المبشر به باليوناني بحسب عادتهم ثمّ مترجموا العربيّة عربوا اللفظ اليوناني بفارقليط وقد وصلت إلي رسالة صغيرة بلسان أردو من رسائل القسيسين في سنة ألف ومائتين وثمان وستين من الهجرة وكانت هذه الرسائل طبعت في كلكته وكانت في تحقيق لفظ ( فارقليط ) وإدعى مؤلفها أن مقصوده أن ينبه المسلمين على سبب وقوعهم في الغلط من لفظ فارقليط وكان ملخص كلامه أن هذا اللفظ معرب من اللفظ اليوناني " فإن قلنا إن هذا اللفظ اليوناني الأصل باركلي طوس فيكون بمعنى المعزى والمعين والوكيل وإن قلنا أن اللفظ الأصل بير كلو طوس يكون قريباً من معنى محمّد وأحمد ، فمَنْ استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل بير كلو طوس ومعناه قريب من معنى محمّد وأحمد فادعى أن عيسى عليه السلام أخبر بمحمد أو أحمد لكن الصحيح أنّه باراكلي طوس " انتهى ملخصا من كلامه . ( يقول محمّد رشيد مؤلّف هذا التفسير ) إنني أوضح هنا ما كتبه الشيخ رحمة الله بكلمة للدكتور محمّد توفيق صدقي أوردها في هذا المقام في كتابه ( دين الله في كتب أنبيائه ) قال رحمه الله : هذا اللفظ ( الفارقليط ) يوناني ويكتب بالإنكليزية هكذا ( Paraclete ) بارقليط أي ( المعزي ) ويتضمن أيضاً معنى المحاج كما قال بوست في قاموسه ، لفظاً آخر يكتب هكذا ( Periclite ) ومعناه رفيع المقام سام . جليل . مجيد شهير . وهي كلّها معان تقرب من معنى محمّد وأحمد ومحمود . ولا يخفى أن المسيح كان يتكلم بالعبرية فلا ندري ماذا كان اللفظ الذي نطق به عليه السلام ؟ ولا ندري إن كانت ترجمة مؤلّف هذا الإنجيل له بلفظ ( Paraclete ) صحيحة أو خطأ ؟ ولا ندري إن كان هذا اللفظ ( Paraclete ) هو الذي ترجم به من قبل أم لا ؟ لأنّنا نعلم أن كثيراً من الألفاظ والعبارات وقع فيها التحريف من الكتاب سهواً أو قصداً كما اعترفوا به في جميع كتب العهدين ، ( راجع الفصل الثالث ) فإذا كان اللفظ الأصلي ( Periclite ) بيرقليط فلا يبعد أنّه تحرف عمداً أو سهواً إلى ( Paraclete ) بارقليط حتى يبعدوه عن معنى اسم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وممّا يسهل عليهم ذلك تشابه أحرف هذه الكلمة في اللغة اليونانية وعلى كلّ حال فسواء كان هو ( Paraclete ) بارقليط أو ( Periclite ) بيرقليط ، فمعنى كلّ منهما ينطبق على محمّد صلى الله عليه وسلم فهو معز للمؤمنين على عدم إيمان الكافرين ، وعلى عدم وجود الشر في هذا العالم بإيضاح أن هذه هي إرادة الله لحكمة يعلمها هو ، ومعز أيضاً للمصابين والمرضى والفقراء وغيرهم بعقيدة البعث والقيامة ، وهو صلى الله عليه وسلم كان يحاجّ الكفّار والمشركين وغيرهم ( إذا كان معناها المحاجّ المجادل كما قال بوست ) وهو شهير سام جليل . مجيد إذا كان اللفظ الأصلي ( بيرقليط ) والعبارات الواردة في إنجيل يوحنا في هذه المسألة لا تنطبق إلاّ على محمّد صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك صاحب كتاب إظهار الحق ومؤلّف كتاب ( فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام ) وكما أشرنا إلى ذلك في صفحة 82 من هذا الكتاب ، اهـ ونعود إلى سياق صاحب إظهار الحق الشيخ رحمة الله ، قال رحمه الله : وأقول : إن التفاوت بين اللفظين يسير جداً وإن الحروف اليونانية كانت متشابهة ، فتبدل بيركلوطوس بباراكلي طوس في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس . ثمّ رجح أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الآخر ، ومن تأمل في الباب الثاني من هذا الكتاب والأمر السابع من هذا المسلك السادس بنظر الأنصاف اعتقد يقيناً بأن مثل هذا الأمر من أهل الديانة من أهل التثليث ليس ببعيد بل لا يبعد أن يكون من المحسنات . الأمر الثاني : أن البعض إدعوا قبل ظهور محمّد صلى الله عليه وسلم أنّهم مصاديق لفظ فارقليط مثلاً منتنس المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد وكان مرتاضاً شديد الإرتياض وأتقى أهل عهده : إدعى في قرب سنة 177 من الميلاد في آسيا الصغرى الرسالة وقال : إنّي الفارقليط الذي وعد بمجيئه عيسى عليه السلام ، وتبعه أناس كثيرون في ذلك كما هو مذكور في بعض التواريخ وذكر وليم ميور حاله وحال متبعيه في القسم الثاني من الباب الثالث من تاريخه بلسان أردو المطبوع سنة 1848 من الميلاد هكذا : أن البعض قالوا أنّه ادعى أنّه الفارقليط يعني المعزي روح القدس ، وهو كان أتقى ( ؟ ) ومرتاضاً شديداً ( ؟ ) ولأجل ذلك قبله الناس قبولاً زائداً ، انتهى كلامه . فعلم أن إنتظار الفارقليط كان في القرون الأولى المسيحيّة أيضاً ولذلك كان الناس يدعون أنهم مصاديقه ، وكان المسيحيون يقبلون دعاويهم - وقال صاحب لب التواريخ : إن اليهود والمسيحيين من معاصري محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا منتظرين لنبي ، فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم لأنّه إدعى أنه هو ذاك المنتظر ، إنتهى ملخص كلامه - فيعلم من كلامه أيضاً أن أهل الكتاب كانوا منتظرين لخروج نبيّ في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو الحق ، لأنّ النجاشي ملك الحبشة لما وصل إليه كتاب صلى الله عليه وسلم قال : صلى الله عليه وسلم أشهد بالله أنّه النبي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وكتب الجواب وكتب في الجواب : أشهد أنك رسول الله صادقاً ومصدقاً ، وقد بايعنّك وبايعت ابن عمّك - أي جعفر بن أبي طالب - وأسلمت على يديه لله ربّ العالمين ، اهـ وهذا النجاشي كان قبل الإسلام نصرانياً . وكتب المقوقس ملك القبط في جواب كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم هكذا : إلى محمّد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أمّا بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبياً قد بقي وقد كنت أظن أنّه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك اهـ والمقوقس هذا وإنّ لم يسلم لكنّه أقرّ في كتابه : إنّي قد علمت أن نبياً قد بقي . وكان نصرانياً فهذان الملكان ما كانا يخافان في ذلك الوقت من محمّد صلى الله عليه وسلم لأجل شوكته الدنياوية . وجاء الجارود بن العلاء في قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : والله لقد جئت بالحقّ ، ونطقت بالصدق ، والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت وصفك في الإنجيل ، وبشّر بك ابن البتول ، فطول التحية لك ، والشكر لمَنْ أكرمك ، لا أثر بعد عين ، ولا شك بعد يقين ، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وإنّك محمّد رسول الله . ثمّ آمن قومه وهذا الجارود كان من علماء النصارى وقد أقرّ بأنّه قد بشّر به ابن البتول أي عيسى عليه السلام ، فظهر أن المسيحيين أيضاً كانوا منتظرين لخروج نبيّ بشّر به عيسى عليه السلام . فإذا علمت ذلك فأقول إن اللفظ العبراني الذي قاله عيسى عليه السلام مفقود واللفظ اليوناني الموجود ترجمة ، لكنّي أترك البحث عن الأصل ، وأتكلّم على هذا اللفظ اليوناني فأقول : إن كان اللفظ اليوناني الأصل بيركلوطوس ، فالأمر ظاهر وتكون بشارة المسيح في حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم بلفظ هو قريب من محمّد وأحمد وهذا وإن كان قريب القياس بالنظر إلى عاداتهم لكنّي أترك هذا الإحتمال لأنّه لا يتم عليهم إلزاماً وأقول إنّ كان اللفظ اليوناني الأصل باراكلي طوس كما يدعون فهذا لا ينافي الإستدلال أيضاً لأنّ معناه المعزي والمعين والوكيل على ما بين صاحب الرسالة أو الشافع كما يوجد في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1816 وهذه المعاني كلّها تصدّق على محمّد صلى الله عليه وسلم . وأنا أبين الآن أولاً أن المراد بالفارقليط النبيّ المبشر به أعني محمّداً صلى الله عليه وسلم لا الروح النازل على تلاميذ عيسى عليه السلام يوم الدار الذي جاء ذكره في الباب الثاني من كتاب الأعمال ، وأذكر ثانياً شبهات علماء المسيحيّة وأجيب عنها فأقول : أمّا الأوّل فيدل عليه أمور . 1 - إن عيسى عليه السلام قال أولاً ( إن كنتم تحبونني فأحفظوا وصاياي ) ثمّ أخبر عن الفارقليط فمقصود عليه السلام أن يعتقد السامعون بأن ما يلقي عليهم يعد ضروري واجب الرعاية فلو كان الفارقليط عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كانت الحاجّة إلى هذه الفقرة لأنّه ما كان مظنوناً أن يستبعد الحواريون نزول الروح عليهم مرة أخرى لأنّهم كانوا مستفيضين منه من قبل أيضاً بل لا مجال للإستبعاد أيضاً لأنّه إذا نزل على قلب أحد وحل فيه يظهر أثره لا محالة ظهوراً بيّنا فلا يتصوّر إنكار المتأثر منه وليس ظهوره عندهم في صورة يكون فيه مظنة يكون الإستبعاد فهو عبارة عن النبيّ المبشر به فحقيقة الأمر أن المسيح عليه السلام لما علم بالتجربة وبنور النبوّة أن الكثيرين من أمته ينكرون النبيّ المبشر به عند ظهوره أكده أولاً بهذه الفقرة ثمّ أخبر عن مجيئه . 2 - إن هذا الروح متحدّ بالأب مطلقاً وبالإبن نظراً إلى لاهوته إتحاداً حقيقياً فلا يصدّق في حقّه ( فار قليط آخر ) بخلاف النبيّ المبشر به فإنّه يصدّق هذا القول في حقّه بلا تكلّف . 3 - إن الوكالة والشفاعة من خواص النبوّة لا من خواص هذا الروح المتّحد بالله فلا يصدّقان على الروح ويصدّقان على النبيّ المبشر به بلا تكلّف . 4 - إن عيسى عليه السلام قال ( هو يذكركم كلّ ما قلته لكم ) ولم يثبت في رسالة من رسائل العهد الجديد أن الحواريين كانوا قد نسوا ما قاله عيسى عليه السلام وهذا الروح النازل يوم الدار ذكرهم إيّاه . 5 - إن عيسى عليه السلام قال ( والآن قد قلت لكم قبل أن يكون ( أن يوجد ) حتى إذا كان - أي وجد وبعث - تؤمنون ) وهذا يدلّ على أن المراد به ليس الروح لأنّك قد عرفت في الأمر الأوّل أنّه ما كان عدم الإيمان مظنوناً منهم وقت نزوله بل لا مجال للإستبعاد أيضاً ، فلا حاجة إلى هذا القول ، وليس من شأن الحكيم العاقل أن يتكلّم بكلام فضول ، فضلاً عن شأن النبيّ العظيم الشأن ، فلو أردنا به النبيّ المبشر به يكون هذا الكلام في محلّه ، وفي غاية الإستحسان لأجل التأكيد مرّة ثانية . 6 - إن عيسى عليه السلام قال ( هو يشهد لأجلي ) وهذا الروح ما شهد لأجله بين أيدي أحد لأنّ تلاميذه الذين نزل عليهم ما كانوا محتاجين إلى الشهادة لأنّهم كانوا يعرفون المسيح حقّ المعرفة قبل نزوله أيضاً فلا فائدة للشهادة بين أيديهم والمنكرون هم الذين كانوا محتاجين للشهادة فهذا الروح ما شهد بين أيديهم بخلاف محمّد صلى الله عليه وسلم فإنه شهد لأجل المسيح عليه السلام وصدقه وبرأه عن إدعاء الألوهيّة الذي هو أشد أنواع الكفر والضلال وبرأ أمّه عن تهمة الزنا وجاء ذكر براءتهما في القرآن في مواضع متعددة وفي الأحاديث في مواضع غير محصورة . 7 - إن عيسى عليه السلام ( قال وأنتم تشهدون لأنّكم معي من الإبتداء ( وهذه الآية في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1816 هكذا ) وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم كنتم معي من الإبتداء ) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1860 هكذا ( وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الإبتداء ) فيوجد في هذه التراجم الثلاث لفظ أيضاً وكذا يوجد في التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 ترجمة لفظ أيضاً فلفظ أيضاً سقط من التراجم التي نقلت عنها عبارة يوحنا سهواً أو قصداً فهذا القول يدلّ دلالة ظاهرة على أن شهادة الحواريين غير شهادة الفارقليط فلو كان المراد به الروح النازل يوم الدار لم توجد مغايرة بين الشهادتين لأنّ الروح المذكور لم يشهد شهادة مستقلة غير شهادة الحواريين بل شهادة الحواريين هي شهادته بعينها لأنّ هذا الروح مع كونه إلهاً متحداً بالله إتحاداً حقيقياً برياً من النزول والحلول والإستقرار والشكل التي هي من عوارض الجسم والجسمانيات نزل مثل ريح عاصفة وظهر في أشكال ألسنة مقسّمة كأنها من نار واستقرت على كلّ واحد منهم يوم الدار فكان حالهم كحال من عليه أثر الجن ، فكما أن قول الجن يكون قوله في تلك الحالة فكذلك كانت شهادة الروح هي شهادة الحواريين فلا يصحّ هذا القول بخلاف ما إذا كان المراد به النبيّ المبشر به فإن شهادته غير شهادة الحواريين . 8 - إن عيسى عليه السلام قال إنّ لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأمّا إنّ إنطلقت أرسلته إليكم ) فعلّق مجيئه بذهابه وهذا الروح عندهم نزل على الحواريين في حضوره لما أرسلهم إلى البلاد الإسرائيليّة فنزوله ليس بمشروط بذهابه فلا يكون مراد بالفارقليط بل المراد به شخص لم يستفض منه أحد من الحواريين قبل زمان صعوده وكان مجيئه موقوفاً على ذهاب عيسى عليه السلام ومحمّد صلى الله عليه وسلم كان كذلك لأنّه جاء بعد ذهاب عيسى عليه السلام وكان مجيئه موقوفاً على ذهاب عيسى عليه السلام لأنّ وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلتين في زمان واحد غير جائز بخلاف ما إذا كان الآخر متبعاً لشريعة الأوّل أو يكون كلّ من الرسل متبعاً لشريعة واحدة لأنّه يجوز في هذه الصورة وجود إثنين أو أكثر في زمان واحد ومكان واحد كما ثبت وجودهم ما بين زمان موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام . 9 - إن عيسى عليه السلام قال ( يوبخ العالم ) فهذا القول بمنزلة النصّ الجلي لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنّه وبخ العالم سيّما اليهود على عدم إيمانهم بعيسى عليه السلام توبيخاً لا يشك فيه إلاّ معاند بحت ، وسيكون إبنه الرشيد محمّد المهدي رفيقاً لعيسى عليه السلام في زمان قتل الدجال الأعور ومتابعيه ، بخلاف الروح النازل يوم الدار فإن توبيخه لا يصحّ على أصول أحد وما كان التوبيخ منصب الحواريين بعد نزوله أيضاً لأنّهم كانوا يدعون إلى الملّة بالترغيب والوعظ وما قال رانكين في كتابه المسمى بدافع البهتان الذي هو بلسان أردو في ردّه على خلاصة ( صولة الضيغم ) إن لفظ التوبيخ لا يوجد في الإنجيل ولا في ترجمة من تراجم الإنجيل وهذا المستدل أورد هذا اللفظ ليصدّق على محمّد صدقاً بيّنا لأجل أن محمّداً صلى الله عليه وسلم وبخ وهدد كثيراً إلاّ أن مثل هذا التغليط ليس من شأن المؤمنين والخائفين من الله إنتهى كلامه فمردود وهذا القسيس إما جاهل غالط أو مغالط ليس له إيمان ولا خوف من الله ، لأنّ هذا اللفظ يوجد في التراجم العربيّة المذكورة التي نقلت عنها عبارة يوحنا وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1671 في رومية العظمى وعبارة الترجمة العربيّة المطبوعة في بيروت سنة 1860 هكذا ( ومتى جاء ذاك ببكت العالم على خطية ) إلخ وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825 وفي التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 يوجد لفظ الإلزام . ولفظ التبكيت والإلزام أيضاً قريبان من التوبيخ لكن لا شكاية منه لأنّ مثل هذا الأمر من عادات علماء بروتستنت ولذلك ترى أن مترجمي الفارسية وأردو تركوا لفظ فارقليط لشهرته عند المسلمين في حق محمّد صلى الله عليه وسلم ومترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1839 فاق أسلافه هؤلاء أيضاً حيث أرجع إلى الروح ضمائر المؤنث ليحصل الإشتباه للعوام أن مصداق هذا اللفظ ( أي مدلوله ) مؤنث وليس بمذكر . 10 - قال عيسى عليه السلام ( أمّا على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي ) وهذا يدلّ على أن الفارقليط يكون ظاهراً على منكري عيسى عليه السلام موبخاً لهم على عدم الإيمان به والروح النازل يوم لدار ما كان ظاهراً على الناس موبخاً لهم . 11 - قال عيسى عليه السلام ( إنّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن ) وهذا ينافي إرادة الروح النازل يوم الدار لأنّه ما زاد حكماً على أحكام عيسى عليه السلام فإنّه على زعم أهل التثليث كان أمر الحواريين بعقيدة التثليث وبدعوة أهل العالم كلّه فأي أمر حصل لهم أزيد من أقواله التي قالها إلى زمان صعوده . نعم إنّهم بعد نزول هذا الروح أسقطوا جميع أحكام التوراة التي هي ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج وحللوا جميع المحرمات وهذا الأمر لا يجوز في شأنه أن يقال إنّهم ما كانوا يستطيعون حمله لأنّهم إستطاعوا حمل سقوط حكم تعظيم السبت الذي هو أعظم أحكام التوراة وكان اليهود ينكرون كون عيسى عليه السلام مسيحاً موعوداً به لأجل عدم مراعاته هذا الحكم فقبول سقوط جميع الأحكام كان أهون عندهم ، نعم قبول زيادة الأحكام لأجل ضعف الإيمان وضعف القوّة إلى زمان صعوده كما يعترف به علماء بروتستنت كان خارجاً عن إستطاعتهم فظهر أن المراد بالفارقليط نبيّ تزاد في شريعته أحكام ويثقل حملها على المكلّفين الضعفاء وهو محمّد صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى الشريعة العيسويّة . 12 - إن عيسى عليه السلام قال : ليس ينطق من عنده ، بل يتكلّم بكل ما يسمع ، وهذا يدلّ على أن الفارقليط يكون بحيث يكذّبه بنو إسرائيل ، فاحتاج عيسى عليه السلام أن يقرّر حال صدقه فقال هذا القول ، ولا مجال لمظنة التكذيب في حقّ الروح النازل يوم الدار ، على أن هذا الروح عندهم عين الله ، فلا معنى لقوله : بل يتكلّم بما يسمع ، فمصداقه محمّد صلى الله عليه وسلم فإنّه كان في حقّه مظنة التكذيب ، وليس هو عين الله ، وكان يتكلّم بما يوحى إليه كما قال الله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 3 - 4 ] وقال : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ } [ الأنعام : 50 ] . 13 - إن عيسى عليه السلام قال : إنّه يأخذ ممّا هو لي ، وهذا لا يصدّق على الروح لأنّه عند أهل التثليث قديم وغير مخلوق ، وقادر مطلق ، ليس له كمال منتظر ، بل كلّ كمال من كمالاته حاصل له بالفعل ، فلا بد أن يكون الموعود به من الجنس الذي يكون له كمال منتظر . ولما كان هذا الكلام موهماً أن يكون هذا النبيّ متبعاً لشريعته دفعه بقوله فيما بعد ( جميع ما للأب فهو لي فلأجل هذا قلت ممّا هو لي يأخذ ) يعني أن كلّ شيء يحصل للفارقليط من الله فكأنّه يحصل منّي - كما إشتهر : من كان لله كان الله له - فلأجل هذا قلت : إن ممّا هو لي يأخذ وأمّا الثاني أعني الشبهات التي توردها علماء بروتستنت فخمسة . الشبهة الأولى : جاء في هذه العبارة تفسير الفارقليط بروح القدس ، وروح الحقّ ، وهما عبارتان عن الأقنوم الثالث ، فكيف يصحّ أن يراد بالفارقليط محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أقول في الجواب : إن صاحب ميزان الحقّ يدعي في تأليفاته كون ألفاظ روح الله ، وروح القدس ، وروح الحقّ ، وروح الصدّق ، وروح فم الله ، بمعنى واحد . قال في الفصل الأوّل من الباب الثاني من مفتاح الأسرار في الصفحة 53 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1850 : إن لفظ روح الله ، ولفظ روح القدس في التوراة والإنجيل بمعنى واحد انتهى . فأدعى أن هذين اللفظين يستعملان بمعنى واحد في العهدين - وقال في حل الإشكال ، في جواب كشف الأستار : من له إلمام ما بالتوراة والإنجيل فهو يعرف أن ألفاظ روح القدس وروح الحقّ وروح فم الله وغيرها بمعنى روح الله ، فلذلك ما رأيت إثباته ضرورياً انتهى . فإذا عرفت هذا القول فنحن نقطع النظر عن صحّة إدّعائه وعدم صحته هاهنا ونسلّم ترادف هذه الألفاظ على زعمه ، لكنا ننكر أن إستعمالها في كلّ موضع من مواضع العهدين بمعنى الأقنوم الثالث ، ونقول قولاً مطابقاً لقوله من له شعور ما يكتب العهدين يعرف أن هذه الألفاظ تستعمل في غير الأقنوم الثالث كثيراً ففي الآية الرابعة عشر من الباب السابع والثلاثين من كتاب حزقيال قول الله تعالى في خطاب ألوف من الناس الذين أحياهم بمعجزة حزقيال عليه السلام هكذا : ( فأجعل فيكم روحي ) ففي هذا القول روح الله بمعنى النفس الناطقة الإنسانية لا بمعنى الأقنوم الثالث الذي هو عين الله على زعمهم - وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا ترجمة عربية سنة 1760 ( 1 - أيّها الأحباء لا تصدّقوا كلّ روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله ؟ لأنّ الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم 2 - بهذا تعرفون روح الله : كلّ روح يعترف يسوع المسيح أنّه قد جاء في الجسد فهو من الله … 6 - نحن من الله فمَنْ يعرف الله يسمع لنا ومن ليس من الله لا يسمع لنا من هذا نعرف روح الحقّ وروح الضلال ) وهذه الجملة الواقعة في الآية الثانية ( بهذا تعرفون روح الله ) وفي التراجم العربيّة الأخر سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 هكذا ( وبهذا يعرف روح الله ) وفي ترجمة سنة 1825 ( فإنّكم تميزون روح الله ) ولفظ روح الله في الآية الثانية ، ولفظ روح في الآية السادسة بمعنى الواعظ الحق لا بمعنى الأقنوم الثالث . ولذلك ترجم مترجم ترجمة أرود المطبوعة سنة 1845 لفظ كلّ روح بكل واعظ ، ولفظ الأرواح بالواعظين في الآية الأولى ، ولفظ روح في الآية الثانية بالواعظ من جانب الله . ولفظ روح الحقّ في الآية السادسة بالواعظ الصادق . وترجم لفظ روح الضلال بالواعظ المضل ، وليس المراد بروح الله وروح الحقّ الأقنوم الثالث الذي هو عين الله على زعمهم ، وهو ظاهر . فتفسير الفارقليط بروح القدس وروح الحقّ لا يضرنا لأنهما بمعنى الواعظ الحقّ ، كما إن لفظ روح الحقّ وروح الله بهذا المعنى في الرسالة الأولى ليوحنا ، فيصحّ إطلاقهما على محمّد صلى الله عليه وسلم بلا ريب . الشبهة الثانية : أن المخاطبين بضمير " كم " الحواريون ، فلا بد أن يظهر الفارقليط في عهدهم ، ومحمّد صلى الله عليه وسلم لم يظهر في عهدهم . أقول : هذا أيضاً ليس بشيء ، لأنّ منشأه أن الحاضرين وقت الخطاب لابد أن يكونوا مرادين بضمير الخطاب ، وهو ليس بضروري في كلّ موضع . ألاّ ترى أن قول عيسى عليه السلام في الآية الرابعة والستين من الباب السادس والعشرين من إنجيل متّى في خطاب رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع هكذا : ( وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوّة وآتياً على سحاب السماء ) وهؤلاء المخاطبون قد ماتوا ، ومضت على موتهم مدّة هي أزيد من ألف وثمانمائة سنة ، وما رأوه آتياً على سحاب السماء ، فكما أن المراد بالمخاطبين هاهنا الموجودون من قومهم وقت نزوله من السماء ، فكذلك فيما نحن فيه المراد الذين يوجدون وقت ظهور الفارقليط . الشبهة الثالثة : إنّه وقع في حقّ الفارقليط أن العالم لا يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه ، وهو لا يصدّق على محمّد صلى الله عليه وسلم ، لأنّ الناس رأوه وعرفوه . أقول : هذا أيضاً ليس بشيء ، وهم أحوج الناس تأويلاً في هذا القول بالنسبة إلينا ، لأنّ روح القدس عين الله عندهم ، والعالم يعرف الله أكثر من معرفة محمّد صلى الله عليه وسلم ، فلا بد أن نقول : إن المراد بالمعرفة المعرفة الحقيقية الكاملة . ففي صورة التأويل لا إشتباه في صدق هذا القول على محمّد صلى الله عليه وسلم ، ويكون المقصود أن العالم لا يعرفه معرفة حقيقية كاملة ، وأنتم تعرفونه معرفة حقيقية كاملة . والمراد بالرؤية المعرفة ، ولذا لم يعد عيسى عليه السلام لفظ الرؤية بعد لفظ أنتم ، بل قال : وأنتم تعرفونه ، ولو حملنا الرؤية على الرؤية البصرية يكون نفي الرؤية محمولاً على ما هو المراد في قول الإنجيلي الأوّل في الباب الثالث عشر من إنجيله ، وأنقل عبارته عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825 ( 13 - فلذلك أضرب لكم الأمثال لأنّهم ينظرون ولا يبصرون ، ويسمعون ولا يستمعون ولا يفهمون 14 - وقد كمل فيهم تنبأ أشعيا حيث قال : إنّكم تستمعون سمعاً ولا تفهمون ، وتنظرون نظراً ولا تبصرون ) فلا إشكال أيضاً . وأمثال هذين الأمرين وإن كانت معاني مجازية لكنّها بمنزلة الحقيقة العرفية ووقعت في كلام عيسى عليه السلام كثيراً ففي الآية السابعة والعشرين من الباب الحادي عشر من إنجيل متّى هكذا ( وليس أحد يعرف الإبن إلاّ الأب ولا أحد يعرف الأب إلاّ الإبن ، ومن أراد الإبن أن يعلن له ) وفي الآية الثامنة والعشرين من الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا ( الذي أرسلني حقّ الذي أنتم لستم تعرفونه ) وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا ( 19 - لستم تعرفونني أنا ولا أبي لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً 55 - ولستم تعرفونه أي الله إلخ ) وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( أيّها الأب أن العالم لم يعرفك ، أمّا أنا فعرفتك ) وفي الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( 7 - لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً ، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه 8 - قال له : فيلبس يا سيد أرنا الأب وكفانا 9 - قال له يسوع : أنا معكم زماناً هذه مدّته ولم تعرفني يا فيلبس الذي رآني فقد رأى الأب ، فكيف تقول أنت أرنا الأب ؟ ) فالمراد بالمعرفة في هذه الأقوال المعرفة الكاملة ، بالرؤية المعرفة ، وإلاّ لا تصح هذه الأقوال يقيناً ، لأنّ العوام من الناس كانوا يعرفون عيسى عليه السلام فضلاً عن رؤساء اليهود والكهنة والمشايخ والحواريين ، ورؤية الله بالبصر في هذا العالم ممتنعة عند أهل التثليث أيضاً . الشبهة الرابعة : أنّه وقع في حقّ الفارقليط ( أنّه مقيم عندكم وثابت فيكم ) ويظهر من هذا القول إن الفارقليط كان في وقت الخطاب مقيماً عند الحواريين وثابتاً فيهم ، فكيف يصدّق على محمّد صلى الله عليه وسلم . أقول : إن هذا القول في التراجم الأخرى هكذا ففي الترجمة العربيّة سنة 1816 وسنة 1825 ( لأنّه مستقرّ معكم وسيكون فيكم ) والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 وسنة 1839 كلّها مطابقة لهاتين الترجمتين ، وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1860 هكذا : ( ماكث معكم ويكون فيكم ) فظهر أن المراد بقوله ثابت فيكم الثبوت الإستقبالي يقيناً فلا إعتراض به بوجه من الوجوه ، وبقي قوله : مقيم عندكم . فأقول : لا يصحّ حمل هذا القول على معنى هو مقيم عندكم الآن لأنّه لا ينافي قوله : ( أنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ) وقوله : ( قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون . وقوله : إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط ) وإذا أوّل نقول : أنّه بمعنى الإستقبال كما أن القول الذي بعده بمعنى الإستقبال ومعناه يكون مقيماً عندكم في الإستقبال ، فلا خدشة في صدّقه على محمّد صلى الله عليه وسلم . والتعبير عن الإستقبال بالحال بل بالماضي في الأمور المتيقنة كثير في العهدين - ألا ترى أن حزقيال عليه السلام أخبر أولاً عن خروج يأجوج ومأجوج في الزمان المستقبل وأهلاكهم حين وصولهم إلى جبال إسرائيل . ثمّ قال في الآية الثامنة من الباب التاسع والثلاثين من كتابه هكذا ( ها هو جاء وصار يقول الرب الإله هذا هو اليوم الذي قلّت عنه ) فانظروا إلى قوله ها هو جاء وصار - وهذا القول في الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1839 هكذا ( أينك رسيد وبوقوع بيوست ) فعبر عن الحال المستقبل بالماضي لكونه يقيناً لا شك فيه ، وقد مضت مدّة أزيد من ألفين وأربعمائة وخمسين سنة ، ولم يظهر خروجهم - وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب الخامس من إنجيل يوحنا هكذا ( الحق الحق أقول لكم أنّه تأتي ساعة ، وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيّون ) فأنظروا إلى قوله وهي الآن ، وقد مضت مدّة أزيد من ألف وثمانمائة ولم تجيء هذه الساعة ، وهي إلى الآن مجهولة لا يعرف أحد متى تجيء . الشبهة الخامسة : في الباب الأوّل من كتاب الأعمال هكذا ( 4 - وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم ، بل ينتظروا موعد الأب الذي سمعتموه منّي 5 - لأنّ يوحنا عمد بالماء ، وأمّا أنتم فستتعمدون بالروح القدس ليس هذه الأيام بكثير ) وهذا يدلّ على أن الفارقليط هو الروح النازل يوم الدار ، لأنّ المراد بوعد الأب هو الفارقليط . أقول : الإدعاء بأن المراد بموعد الأب هو الفارقليط إدعاء محض ، بل هو غلط لثلاثة عشر وجهاً ، وقد عرفتها ، بل الحق أن الأخبار عن الفارقليط شيء والوعد بإنزال الروح عليهم مرّة أخرى شيء آخر . وقد وفى الله بالوعدين ، وقد عبر عن الوعد الأوّل بمجيء الفارقليط ، وهاهنا بموعد الأب ، غاية الأمر أن يوحنا نقل بشارة الفارقليط ، ولم ينقلها الإنجيليون الباقون - ولوقاً نقل موعد نزول الروح الذي نزل يوم الدار ، ولم ينقله يوحنا . ولا بأس فيه فإنهم قد يتفقون في نقل الأقوال ، الخسيسة ، كركوب عيسى عليه السلام على الحمار وقت الذهاب إلى أورشليم ، إتفق على نقله الأربعة ، وقد يتخالفون في نقل الأحوال العظيمة ، ألاّ ترى أن لوقاً إنفرد بذكر أحياء ابن الأرملة من الأموات في نايين ، وبذكر إرسال عيسى عليه السلام سبعين تلميذاً ، وبذكر إبراء عشرة برص ، ولم يذكر هذه الحالات أحد من الإنجيليين ، مع أنّها من الحالات العظيمة ، وأن يوحنا إنفرد بذكر وليمة العرس في قانا الجليل ، وظهر من يسوع فيه معجزة تحويل الماء خمراً وهذه المعجزة أوّل معجزاته ، وسبب ظهور مجده وإيمان التلاميذ به ، وبذكر إبراء السقيم في بيت صيدا في أورشليم ، وهذه أيضاً معجزة عظيمة ، والمريض كان مريضاً من ثمان وثلاثين سنة ، وبذكر قصّة امرأة أخذت في زنا ، وبذكر إبراء الأكمه ، وهذا أيضاً من أعظم معجزاته ، وهي مصرحة بهما في الباب التاسع وبذكر أحياء العازار من بين الأموات ، ولم يذكرها أحد من الإنجيليين ، مع أنّها حالات عظيمة ، وهكذا حال متى ومرقس ، فإنّهما إنفردا بذكر بعض المعجزات والحالات التي لم يذكرهما غيرهما . وإذ طال البحث في هذا المسلك فلنقتصر على هذا القدر من البشارات التي نقلتها عن كتبهم المعتبرة عندهم في زماننا اهـ . بشارة إنجيل برنابا ذكر الشيخ رحمة الله بعد هذا أنّه لم يعن بإيراد البشارات من الكتب التي يعدها أهل الكتاب غير قانونية إلاّ بشارة إنجيل برنابا ، وقد نقلها عن مقدّمة ترجمة القسيس سايل الإنكليزي للقرآن المجيد ، وهذه ترجمتها : ( إعلم يا برنابا أن الذنب وإن كان صغيراً يجزي الله عليه لأنّ الله غير راض عن الذنب ، ولما إكتسب أمي وتلاميذي لأجل الدنيا سخط الله لأجل هذا الأمر وأراد بإقتضاء عدله أن يجزيهم في هذا العالم على هذه العقيدة غير اللائقة ليحصل لهم النجاة من عذاب جهنم ولا يكون لهم أذية هناك وإنّي وإنّ كنت بريا لكن بعض الناس لما قالوا في حقي أنّه الله وابن الله كره الله هذا القول ، وإقتضت مشيئته أن لا تضحك الشياطين يوم القيامة مني ولا يستهزؤن بي ، فأراد بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والإستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا ، ويظن كلّ شخص أني صلبت لكن هذه الإهانة والإستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمّد رسول الله فإذا جاء في الدنيا ينبه كلّ مؤمن على هذا الغلط وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس ) ترجمة كلامه . أقول هذه البشارة عظيمة وإن اعترضوا بأن هذا الإنجيل رده مجالس علمائنا السلف أقول لا إعتبار لردّهم وقبولهم كما علمت بما لا مزيد عليه في الباب الأوّل وهذا الإنجيل من الأناجيل القديمة ويوجد ذكره في كتب القرن الثاني والثالث فعلى هذا كتب هذا الإنجيل قبل ظهور محمّد صلى الله عليه وسلم بمئتي سنة ولا يقدر أحد أن يخبر بغير الإلهام بمثل هذا الأمر قبل وقوعه بمئتي سنة فلا بد أن يكون هذا قول عيسى عليه السلام وإن قالوا إن أحداً من المسلمين حرف هذا الإنجيل بعد ظهور محمّد صلى الله عليه وسلم قلت هذا الإحتمال بعيد جداً لأنّ المسلمين ما إلتفتوا إلى هذه الأناجيل الأربعة أيضاً فكيف إلى إنجيل برنابا ويبعد أن يؤثر تحريف أحد من المسلمين في إنجيل برنابا تأثيراً تغير به النسخ الموجودة عند المسيحيين أيضاً وهم يزعمون أن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أسلموا نقلوا عن كتب العهدين البشارات المحمدية وحرفوها فعلى زعمهم أقول إن هؤلاء العلماء الكبار حرّفوا على زعمهم ولم يؤثر تحريفهم في كتبهم التي كانت موجودة عندهم في مواضع هذه البشارات فكيف أثر تحريف بعض المسلمين في إنجيل برنابا في النسخ التي كانت عندهم ؟ فهذا الإحتمال واه ضعيف جداً ، واجب الرد اهـ . وقد ختم الشيخ ( رحمه الله تعالى ) هذه البشارات بتنبيه ذكر فيه القاريء بما بينه مفصّلاً من إختلاف النصارى في ترجمة كتبهم والتغيير فيها زمناً بعد زمن لئلا يظن من اطّلع على ما أورده ورآه مخالفاً لغير الترجمات التي نقل عنها أنّه هو المخطيء فيما نقله ، وهذا مشهور لا يستطيعون إنكاره . بعد هذا أقول : أن الشيخ رحمه الله لم ير إنجيل برنابا وإنّما نقل هذه البشارة من مقدّمة سايل المستشرق الإنكليزي لترجمته للقرآن المجيد ، وسايل هذا قد اطّلع على إحدى النسختين اللتين وجدتا من هذا الإنجيل في أوّل القرن الثامن عشر ، وهي النسخة الإسبانية وقد فقدت ، إذ كان المتعصبون من النصارى يتلفون كلّ ما عثروا عليه من هذا الإنجيل وغيره من الأناجيل التي تعدها الكنيسة غير قانونية . وأمّا النسخة الأخرى فهي باللغة الإيطالية القديمة وكانت في خزانة كتب ( الفاتيكان ) فسرقها منها راهب اسمه ( مرينو ) في أواخر القرن السادس عشر ، ويظن أنّها هي النسخة الموجودة الآن في خزانة كتب بلاط ( فينا ) . وقد ترجمت هذه النسخة بالإنكليزية في هذا العصر فسعينا إلى ترجمتها بالعربيّة سنة 1325 وطبعناها طبعاً دقيقاً في مطبعة المنار ، وإنّنا ننقل عنها هنا نصّ بعض بشاراته بنبينا صلى الله عليه وسلم غير البشارة التي نقلها الشيخ رحمة الله إذ هي متعددة . جاء في الفصل الثاني والسبعين من هذا الإنجيل أن المسيح عليه السلام أخبر الحواريين أنّه سينصرف عن هذا العالم ثمّ قال : ( 7 - فبكى حينئذ الرسل قائلين : يا معلّم لماذا تتركنا ، لأنّ الأحرى بنا أن نموت من أن تتركنا 8 - أجاب يسوع : لا تضطرب قلوبكم ولا تخافوا 9 - لأنّي لست أنا الذي خلقكم ، بل الله الذي خلقكم يحميكم 10 - أمّا من خصوصي فإني قد أتيت لأهيء الطريق لرسول الله الذي سيأتي بخلاص للعالم 11 - ولكن إحذروا أن تغشوا لأنّه سيأتي أنبياء كذبة كثيرون يأخذون كلامي وينجسون إنجيلي . 12 - حينئذ قال إندراوس : يا معلم أذكر لنا علامة لنعرفه . ( 13 - أجاب يسوع : أنّه لا يأتي في زمنكم بل يأتي بعدكم بعدة سنين حينما يبطل إنجيلي ، ولا يكاد يوجد ثلاثون مؤمناً 14 - في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل رسوله الذي تستقر على رأسه غمامة بيضاء ، يعرفه أحد مختاري الله وهو سيظهره للعالم 15 - وسيأتي بقوّة عظيمة على الفجار ويبيد عبادة الأصنام من العالم 16 - وإنّي أسر بذلك ، لأنّه بواسطته سيعلن ويمجد الله ويظهر صدقي 17 - وسينتقم من الذين سيقولون إنّي أكبر من إنسان 18 - الحق أقول لكم : إن القمر سيعطيه رقاداً في صباه ومتى كبر هو أخذه كفيه 19 - فليحذر العالم أن ينبذه لأنّه سيفتك بعبدة الأصنام 20 - فإن موسى عبد الله قتل أكثر من ذلك كثيراً ، ولم يبق يشوع على المدن التي أحرقوها وقتلوا الأطفال 21 - لأنّ القرحة المزمنة يستعمل لها الكي ) . ( 22 - وسيجيء بحق أجلي من سائر الأنبياء وسيوبخ من لا يحسن السلوك في العالم 23 - وسيحيي طرباً أبراج مدينة آبائنا بعضها بعضاً 24 - فمتى شوهد سقوط عبادة الأصنام إلى الأرض ، وأعترف بأنّي بشر كسائر البشر . فالحق أقول لكم : إنّ نبيّ الله حينئذ يأتي ) . وجاء في الفصل السادس والتسعين من محاورة بين المسيح ورئيس كهنة اليهود : أن الكاهن سأله عن نفسه فأجاب بذكر اسمه واسم أمّه ، وبأنّه بشر ميت ثمّ قال الإنجيل ما نصّه : ( 3 - أجاب الكاهن : أنّه مكتوب في كتاب موسى أنّ إلهنا سيرسل لنا مسيّاً الذي سيأتي ليخبرنا بما يُريد الله ، وسيأتي للعالم برحمة الله 4 - لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق هل أنت مسيأ الله الذي ننتظره ؟ ( 5 - أجاب يسوع : حقّاً إنّ الله وعد هكذا ولكنّي لست هو ، لأنّه خُلق قبلي وسيأتي بعدي . ( 6 - أجاب الكاهن : إنّنا نعتقد من كلامك وآياتك على كلّ حال إنّك نبيّ وقدوس الله 7 - لذلك أرجوك باسم اليهودية كلّها وإسرائيل أن تفيدنا حُبّاً في الله بأية كيفية سيأتي مسيّا ) ( 8 - أجاب يسوع : لعمر الله الذي تقف بحضرته نفسي إنّي لست مسيا الذي تنتظره كلّ قبائل الأرض كما وعد الله أبانا إبراهيم قائلاً : بنسلك أبارك كلّ قبائل الأرض 9 - ولكن عندما يأخذني الله من العالم سيثير الشيطان مرّة أُخرى لهذه الفتنة الملعونة بأن يحمل عادم التقوى على الإعتقاد بأني الله وابن الله 10 - فيتنجس بسبب هذا كلامي وتعليمي حتى لا يكاد يبقى ثلاثون مؤمناً 11 - حينئذ يرحم الله العالم ، ويرسل رسوله الذي خلق كلّ الأشياء لأجله 12 - الذي سيأتي من الجنوب بقوّة وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام 13 - وسينتزع من الشيطان سلطته على البشر 14 - وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به 15 - وسيكون من يؤمن بكلامه مباركاً ) . ثمّ قال في الفصل 97 ما نصّه : ( 1 - ومع أني لست مستحقاً أن أحل سير حذائه قد نلت نعمة ورحمة من الله لأراه ) ( 2 - فأجاب حينئذ الكاهن مع الوالي والملك قائلين لا تزعج نفسك يا يسوع قدوس الله لأنّ هذه الفتنة لا تحدث في زمننا مرة أُخرى لأنّنا سنكتب إلى مجلس الشيوخ الروماني المقدّس بإصدار أمر ملكي أن لا أحد يدعوك فيما بعد الله أو إبن الله ) ( 4 - فقال حينئذ يسوع : إن كلامكم لا يعزيني لأنّه يأتي ظلام حيث ترجون النور 5 - ولكن تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كلّ رأي كاذب فيّ وسيمتدّ دينه ويعم العالم بأسره لأنّه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم 6 - وأن ما يعزيني هو أن لا نهاية لدينه لأنّ الله سيحفظه صحيحاً . ( 7 - أجاب الكاهن : أيأتي رسل آخرون بعد مجيء رسول الله ؟ ) ( 8 - فأجاب يسوع : لا يأتي بعده أنبياء صادقون مرسلون من الله 9 - ولكن يأتي عدد غفير من الأنبياء الكذبة وهو ما يحزنني 10 - لأنّ الشيطان سيثيرهم بحكم الله العادل فيتسترون بدعوى إنجيلي . ( 11 - أجاب هيدروس : كيف أن مجيء هؤلاء الكافرين يكون بحكم الله العادل ؟ ) ( 12 - أجاب يسوع : من العدل أن من لا يؤمن بالحقّ لخلاصه يؤمن بالكذب للعنته 13 - لذلك أقول لكم : إن العالم كان يمتهن الأنبياء الصادقين دائماً وأحبّ الكاذبين كما يشاهد في أيام ميشع وأرميا لأنّ الشبيه يحبّ شبيهه . ( 13 - فقال الكاهن حينئذ : ماذا يسمى مسيا ؟ وما هي العلامة التي تعلن مجيئه ؟ ) ( 14 - أجاب يسوع : أن اسم مسيا عجيب ، لأنّ الله نفسه سماه لما خلق نفسه ووضعها في بهاء سماوي 15 - قال الله : أصبر يا محمّد لأنّي لأجلك أريد أن أخلق الجنّة والعالم وجماً غفيراً من الخلائق التي أهبها لك ، حتى أن من يباركك يكون مباركاً ، ومن يلعنك يكون ملعوناً 16 - ومتى أرسلتك إلى العالم أجعلك رسولي للخلاص وتكون كلمتك صادقة ، حتى أن السماء والأرض تهنان ، ولكن إيمانك لا يهن أبداً 17 - أن اسمه المبارك محمّد صلى الله عليه وسلم . ( 18 - حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين : يا الله أرسل لنا رسولك ، يا محمّد تعال سريعاً لخلاص العالم ! ) اهـ . وأمّا البشارة التي نقلها الشيخ رحمه الله في إظهار الحق فهي من الفصل العشرين بعد المئتين ، وليس بعده غير فصلين من هذا الإنجيل ، وترجمتها قريبة من الترجمة الأخيرة للإنجيل كلّه . تنبيه لقد كان من مواضع إرتياب الباحثين من علماء أوربة في هذا الإنجيل ذكره لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم باسمه العلم عند المسلمين ( محمّد ) وقد ذهب بعضهم إلى أن بعض المسلمين قد دسوا فيه ذلك ، وقوّى شبهتهم ما وجد من التعليقات العربيّة على حواشي النسخة الطليانيّة الموجودة منه إلى هذا العهد . وقد فندنا هذه الشبهة في مقدمتنا لطبعة هذا الإنجيل العربيّة بما بيّناه من إستحالة صدور هذه الحواشي عن مسلم ، فإنّها على فساد لغتها وعجمتها مخالفة لما يعرفه كلّ مسلم عربياً كان أو عجميّاً لأنّه من أذكار الدين ككلمة سبحان الله فهي تذكر في هذه الحواشي بتقديم المضاف إليه على المضاف هكذا " الله سبحان " وبعد أن أوردنا في المقدّمة أمثلة أخرى كهذه قلنا : " ولذلك أمثلة أخرى ، أضف إليها عدم إطّلاع المسلمين في الأندلس وغيرها على هذا الإنجيل كما حققه الدكتور مرجليوث المستشرق الإنكليزي مؤيداً تحقيقه بخلّو كتب المسلمين الذين ردوا على النصارى من ذكره ، وناهيك بإبن حزم الأندلسي وابن تيمية المشرقي فقد كان أوسع علماء المسلمين في الغرب والشرق إطلاعاً كما يعلم من كتبهما ولم يذكرا في ردهما على النصارى هذا الإنجيل . بقي أمر يستنكره الباحثون في هذا الإنجيل بحثاً علميّاً لا دينيّاً أشد الإستنكار وهو تصريحه بإسم " النبيّ محمّد " صلى الله عليه وسلم قائلين : لا يعقل أن يكون ذلك كتب قبل ظهور الإسلام ؛ إذ المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات والإشارات ، والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكراً في خبر الوحي . وقد نقل الشيخ محمّد بيرم عن رحالة إنكليزي أنّه رأى في دار الكتب البابويّة في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيها يقول المسيح : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] وذلك موافق لنصّ القرآن بالحرف ، ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنّه رأى شيئاً من هذه الأناجيل التي فيها هذه البشارات الصريحة ، فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا تلك الأناجيل والكتب كانت ممنوعة في القرون الأولى ما لو ظهر لأزل كلّ شبهة عن إنجيل برنابا وغيره . " على أنّه لا يبعد أن يكون مترجم برنابا باللّغة الإيطالية قد ذكر اسم " محمّد " ترجمة ، وأن يكون قد ذكر في الأصل الذي ترحم هو عنه بلفظ يفيد معناه كلفظ البارقليط ، ومثل هذا التساهل معهود عند المسيحيين في الترجمة كما بينه الشيخ رحمة الله بالشواهد الكثيرة من كتبهم في الأمر السابع من المسلك السادس من الباب السادس من كتابه إظهار الحق ، وزاده بعد ذلك بياناً في البشارة الثامنة عشرة " اهـ . وإنني أزيد مثالاً على ما سبق من إختلاف ترجمة الإعلام والألقاب والصفات في كتب أهل الكتاب يقرب لفهم القاري هذه المسألة وهو ما جاء في نبوّة النبيّ حجي من البشارة بنبينا صلى الله عليه وسلم قال : بشارة النبيّ حجي بمحمد صلى الله عليه وسلم : هكذا قال ربّ الجنود : هي مرّة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة 7 - وأزلزل كلّ الأمم ، ويأتي مشتهى كلّ الأمم فأملأ هذا البيت مجداً ، قال ربّ الجنود 8 - لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود 9 - مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأوّل ، قال ربّ الجنود 10 - وفي هذا المكان أعطي السلام ، يقول ربّ الجنود " . أقول قبل كلّ شيء : إن اسم أو لقب " مشتهى الأمم " هو في الأصل العبراني عند اليهود " حمدوت " ومعناه الذي يحمد فهو صيغة مبالغة من الحمد كملكوت من الملك . فحمدوت الأمم هو الذي تحمده الأمم ، وهو معنى محمّد ومحمود ، فالأول اسم فاعل من حمده بالتشديد إذا حمده كثيراً ، ومن تحمده الأمم يكون محموداً حمداً كثيراً أي محمّداً . والثاني اسم مفعول من حمد الثلاثي ، ومحمود من أسمائه صلى الله عليه وسلم . فهل بعد هذا يبعد أن يكون لفظ الفارقليط اليوناني مترجماً من لفظ حمدوت العبراني ، ونسخ الإنجيل العبرانية التي نقلت ألفاظ المسيح عليه السلام بحروفها قد فقدت ولا ندري سبب فقدها ؟ بل نحن معاشر المسلمين نتّهم مجامع الأساقفة التي تحكمت في الأناجيل القديمة ، فعدّت بعضها قانونيّاً وبعضها غير قانوني ، وصاروا يتلفون ما هو غير قانوني ؛ بل نحن لا نعتدّ بتنصّر القيصر قسطنطين الأوّل ولا نعتقد إخلاصه فيه ، بل نعتقد أنّ ذلك كان عملاً سياسيّاً منه ، وإنّه إستعان بالمجامع على تحويل النصرانيّة عن صراط التوحيد إلى وثنية القدماء من اليونانيين وأساتذتهم من قدماء المصريّين ، الذين دانوا بعقيدة التثليث قبل المسيح بألوف من السنين . ولو بقيت نسخ تلك الأناجيل لكان لأهل العلم الإستقلالي في الغرب والشرق من التحقيق فيها ما لم يكن لأولئك الأساقفة الذين قبلوا منها ما وافق إعتقادهم وردوا ما لم يوافقه ، كأن عقائدهم التقليدية المتأثرة بنصرانيّة قسطنطين السياسيّة بعد ثلاث قرون خلت للمسيح هي الأصل ، والأناجيل المأثورة هي الفرع ، تعرض على تلك التقاليد فيقبل منها ما وافقها ويرد ما خالفها ؟ وها نحن أولاء نرى إنجيل برنابا أرقى من هذه الأناجيل الأربعة في العلم الإلهيّ والثناء على الخالق عزَّ وجلَّ ، وفي علوم الأخلاق والآداب والفضائل ، فإنّ كان بعض الباحثين كالدكتور خليل سعادة الذي ترجم لنا هذا الإنجيل يعلّل هذا بموافقته لفلسفة أرسطو التي كانت رائجة في قرون المسيحيّة الأولى - فإن بعض علماء أوربّة الباحثين المستقلّين قد طعن بمثل هذه الشبهة في شريعة موسى وفي آداب الأناجيل الأربعة فقالوا : إن التوراة مستمدّة من شرائع المصريّين الذين نشأ موسى في حجر فرعونهم - ثمّ قال بعضهم : إنّها مستمدّة من شريعة حمورابي التي هي أصل شرائع البابليين وكانت كتابة التوراة الحاضرة بعد السبي البابلي ، وفيها ألوف من الكلمات البابلية - وقالوا : إن الآداب المسيحيّة مستمدّة من كتب اليونان والرومان في الفلسفة العملية الأخلاق … ونحن مع أهل الكتاب لا نعتد بهذه الشبهات ، ولكنا نقيم الحجة عليهم بها في مثل المقام الذي نحن فيه وأمثاله ممّا لا محل لبسطه هنا . ثمّ أن بقية بشارة حجي لا تصدّق على غير نبينا صلى الله عليه وسلم محمّد الأمم فهو الذي زلزل ربّ الجنود ببعثته العالم ، ونصره بالجنود وبالحجة جميعاً ، وكان مجد دين الله به أعظم من مجده بموسى وسائر أنبياء قومه وفرضت شريعة الزكاة وخمس الغنائم تنفق في سبيل الله فكانت الفضّة والذهب لله - وفي النسخة السبعينيّة للعهد القديم : إن الآية التاسعة من هذه البشارة " إن المجد القديم لهذا البيت أعظم من المجد الذي كان للهيكل الأوّل " وهذه العبارة أظهر في المراد من ترجمة النصارى التي نقلنا عنها ، وحسبنا هذا من البشارات الكثيرة ، ومَنْ يهدي الله فهو المهتدي ، ومَنْ يضلل فلا هادي له ، ونحمده تعالى أن جعلنا من أمّة خاتم رسله والدعاة إلى ملّته صلى الله عليه وسلم .