Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 204-206)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه دلالة على الطريقة الموصلة لنيل الرحمة بالقرآن ، والحصانة من نزغ الشيطان ، وهي الإستماع له إذا قريء والإنصات مدّة القراءة . والإستماع أبلغ من السمع لأنّه إنّما يكون بقصد ونيّة وتوجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه ، والسمع ما يحصل ولو بغير قصد ، والإنصات السكوت لأجل الإستماع حتى لا يكون شاغلاً عن الإحاطة بكل ما يقرأ . فمن استمع وأنصت كان جديراً بأن يفهم ويتدبر ، وهو الذي يرجى أن يرحم . والآية تدل على وجوب الإستماع والإنصات للقرآن إذا قريء قيل مطلقاً سواء كانت القراءة في الصلاة أو خارجها ، وهو مروي عن الحسن البصري وعليه أهل الظاهر ، وخصّه الجمهور بقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم في عهده وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده ، وزعم بعضهم أن الآية نزلت في خطبة الجمعة وهو غلط فإن الآية مكّية وصلاة الجمعة شرعت بعد الهجرة وقال بعضهم إن الأمر للندب لا للوجوب ولكن روي أنّهم كانوا يتكلّمون في الصلاة فحرّم بنزولها الكلام فيها . وحكى ابن المنذر الإجماع على عدم وجوب الإستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة . وذلك أن إيجابهما على كلّ من يسمع أحداً يقرأ فيه حرج عظيم لأنّه يقتضي أن يترك له المشتغل بالعلم علمه ، والمشتغل بالحكم حكمه ، والمبتاعان مساومتهما وتعاقدهما وكلّ ذي شغل شغله . فأما قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان بعضها تبليغاً للتنزيل وبعضها وعظاً وإرشاد فلا يسع أحداً من المسلمين يسمعه يقرأ أن يعرض عن الإستماع أو يتكلّم بما يشغله أو يشغل غيره عنه ، وهذا شأن المصلي مع إمامه وخطيبه ، إذ هو موضوع الصلاة والواجب فيها ، ولهذا استدلوا بالآية على امتناع القراءة خلف الإمام في الصلاة الجهرية واستثنى بعضهم الفاتحة لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن الصلاة لا تجزيء بدونها جمعاً بين النصوص . وورد في السنّة سكوت الإمام بقدر ما يقرأ المأموم الفاتحة . على أنّه إذا قرأ الفاتحة مع الإمام أو بعده آية آية لا يعد غير مستمع للقرآن ولا غير منصت ، وقد بيّنا تحقيق الحق في قراءة الفاتحة لمأموم كغيره في متممات تفسيرها من الجزء الأوّل . ومن فروع طلب الإستماع والإنصات أن القاريء لا يطلب منه ترك قراءته للإستماع لقاريء آخر بل يختار لنفسه ما يراه خيراً لها من الأمرين ، فقد يخشع بعض الناس بقراءة نفسه ، ويخشع آخر بالإستماع من غيره ، أو من بعض القرّاء دون بعض ، وإذا تعدد القرّاء في مكان استمع كلّ حاضر لمن كان أقرب إليه أو لمن يرى قراءته أشد تأثيراً في نفسه . وما يفعله جماهير الناس في المحافل التي يقرأ فيها القرآن بمصر كالمآتم وغيرها من ترك الإستماع والإشتغال بالأحاديث المختلفة مكروه كراهة شديدة ، وتكون على أشدّها لمن كانوا على مقربة من التالي . وأما تعمد الإعراض عن السماع للقرآن فلا يكاد يفعله مؤمن به ، وكذلك رفع الصوت بالكلام على صوت القارئ عمداً ، فإذا كان الله تعالى قد أدب المؤمنين مع رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] فرفع أصواتهم على صوت التالي لكلامه عزَّ وجلّ أولى بأن ينهى عنه ، والأدب معه فوق الأدب مع كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بالضرورة . وقد كان الصحابة وغيرهم من فصحاء العرب يعبّرون عن سماع القرآن بقولهم : سمعت الله تعالى يقول كذا . ولا يجوّز لقارئ أن يقرأ على قوم لا يستمعون له ، فإن كان في المجلس كثير من الناس يستمعون وينصتون ، فشذ بعضهم بمناجاة صاحبه بالجنب من غير تهويش على القاريء ولا على المستمعين كان الخطب في هذا هيناً لا يقتضي ترك القراءة ولا ينافي الإستماع . ويجب على كلّ مؤمن بالقرآن أن يحرص على إستماعه عند قراءته كما يحرص على تلاوته ، وأن يتأدّب في مجلس التلاوة ، وملاك هذا الأدب للقاريء أن لا يكون منه ولا من غيره ولا من حال المكان ما يعد في اعتقاده أو في عرف الناس منافياً للأدب ، وقد ذكر الفقهاء في المسألة آداباً وأحكاماً قد يختلف بعضها باختلاف الإعتقاد والعرف ، وصرّحوا بقراءة القرآن في كلّ حال من قيام وقعود واضطجاع ومشي وركوب فلا تكره في الطريق نصاً ولا مع حدث أصغر ونجاسة بدن وثوب ، ولكن يمسك عن القراءة في حال الحدث ، ويستحب الوضوء لها استحباباً ، ولا سيّما للقارئ في المصحف ، وتكره مع الجنازة جهراً لأنّه بدعة ، وفي المواضع القذرة بأن يجلس فيها للقراءة وأما من مر بمكان منها وهو يقرأ فلا يطلب منه ترك القراءة وكذلك من عرض له الجلوس في بعض الملاهي غير المباحة لا يكره له التلاوة سرّاً وصرحوا بأنّه لا يكره له أن يتلو في بيته إذا كانت زوجه غير مستورة عورة الصلاة . وتستحب القراءة بالترتيل والتغني بالنغم المفيد للتأثير والخشوع من غير تكلّف صناعي . وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً : " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنى بالقرآن - زاد غيره في رواية - يجهر به " رواه الشيخان وأذن هنا بمعنى استمع أو سمع . ومصدره بفتحتين وروى أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي عن فضالة بن عبيد مرفوعاً : " لله أشدّ أذناً للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته " والقينة الأمّة المغنية ، وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " ويستحب البكاء مع القراءة والخشوع وإلاّ فالتباكي والتخشع ، وأن يستعيذ بالله قبلها ويدعو الله في أثنائها بحسب معاني الآيات كسؤال الرحمة عند ذكرها والإستعاذة من العذاب عند ذكره . وكان أنس ( رضي الله عنه ) يجمع أهله وولده عند ختم القرآن فاستحبوا الإقتداء به . وأعلم أن قوّة الدين وكمال الإيمان واليقين لا يحصلان إلاّ بكثرة قراءة القرآن واستماعه مع التدبّر بنية الإهتداء به والعمل بأمره ونهيه . فالإيمان الإذعاني الصحيح يزداد ويقوّي وينمي وتترتب عليه آثاره من الأعمال الصالحة وترك المعاصي والفساد بقدر تدبّر القرآن ، وينقص ويضعف على هذه النسبة من ترك تدبّره ، وما آمن أكثر العرب إلاّ بسماعه وفهمه ، ولا فتحوا الأقطار ، ومصروا الأمصار ، واتسع عمرانهم ، وعظم سلطانهم ، إلاّ بتأثير هدايته ، وما كان الجاحدون المعاندون من زعماء مكّة يجاهدون النبيّ ويصدونه عن تبليغ دعوة ربّه إلاّ بمنعه من قراءة القرآن على الناس { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] وما ضعف الإسلام منذ القرون الوسطى حتى زال أكثر ملكه إلاّ بهجر تدبّر القرآن ، وجعله كالرقى والتعاويذ التي تتخذ للتبرك أو لشفاء أمراض الأبدان ، وجلّ فائدة الصلاة وهي عماد الدين بتلاوة القرآن مع التدبّر والتخشع ، فإذا زال منها هذا صارت عادة قليلة الفائدة . والآيات الدالة على ذلك فيه كثيرة تقدم بعضها مع تفسيرها فمن التطويل في غير محلّه إيراد شيء منها هنا . وإنني أختم هذا البحث بأول حديث عائشة رضي الله عنها الطويل في الهجرة من رواية صحيح البخاري للإستشهاد به على ما كان من تأثير سماع القرآن عند مشركي العرب قال : حدّثنا يحيى بن بكير حدّثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب أخبرني عروة ابن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت لم أعقل أبويّ قط إلاّ وهما يدينان الدين ولم يمرّ علينا يوم إلاّ يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية ، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برّك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيّد القارة ، فقال أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربّي . قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج : أنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، أرجع وأعبد ربك ببلدك . فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحقّ ؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لإبن الدغنة مرّ أبا بكر فليعبد ربّه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا . فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربّه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ، ثمّ بدأ لأبي بكر فإبتنى مسجداً بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن . وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنّا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعد ربّه في داره فقد جاوز ذلك فإبتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فأنّهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره فعل وإن أبى إلاّ أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرّين لأبي بكر الإستعلان . قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي عاقدت لك عليه فأما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إليّ ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له ، فقال أبو بكر فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عزَّ وجلّ اهـ المراد منه . بعد الأمر بالإستماع والإصغاء لتلاوة القرآن ، في سياق حصانة الأنفس من مس الشيطان ، أمرنا تعالى بالذكر العام الشامل للقرآن تلاوة وتدبر أو لغيره فإن كلّ نوع من أنواع ذكره تعالى حصن للنفس وتزكية لها فقال : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } قال ابن جرير إن الأمر بالذكر هنا موجّه إلى مستمع القرآن أمر بأن يتدبّر في نفسه ما يسمع ، وقال عطية العوفي إن المراد بالذكر هنا الدعاء - والجمهور على أنّه أمر عام كما تقدم وأن الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه . والتضرّع إظهار الضراعة وهي الذلة والضعف والخضوع بكثرة وشدّة عناية . والخيفة حالة الخوف والخشية - أي وأذكر ربك الذي خلقك ورباك بنعمه في نفسك بأن تستحضر معنى أسمائه وصفاته وآياته وآلائه وفضله عليك وحاجتك إليه متضرعاً له . خائفاً منه ، راجياً نعمه - واذكره بلسانك مع ذكره في نفسك ذكراً دون الجهر برفع الصوت من القول ، وفوق التخافت والسر ، بل ذكراً قصداً وسطاً - كما قال في آخر سورة الإسراء : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 110 ] ولا تحصل فائدة الذكر باللسان إلاّ مع ذكر القلب وهو ملاحظة معاني القول ، وكأي من ذي ورد يذكر الله ذكراً كثيرا يعد بالسبحة منه المئين أو الألوف ثمّ لا يفيده كلّ ذلك معرفة بالله ولا مراقبة له ، بل هو عادة تقارنها عادات أخرى منكرة شرعاً . وما ذلك إلاّ أنه ذكر لساني محض لا حظ فيه للقلب . ذكر النفس وحده ينفع دائماً ، وذكر اللسان وحده قلما ينفع وقد يكون في بعض الأحوال ذنباً . والأكمل الجمع بين ذكر اللسان والقلب . وبعد أن بين تعالى صفة الذكر والذاكر بين وقته فقال : { بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } الغدو مصدر غدا يغدو - كعلا يعلو علوا - أي ذهب غدوة وهو أول النهار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، ثمّ توسع فيه حتى استعمل بمعنى الذهاب مطلقاً - ويقابله الرواح وهو الرجوع - ومنه : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] والآصال جمع أصيل وهو العشي من وقت العصر إلى غروب الشمس فهو كقوله تعالى في سورة الأحزاب : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الأحزاب : 41 - 42 ] وقوله في سورة الدهر أو الإنسان : { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الإنسان : 25 ] وقوله في سورة آل عمران { وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } [ آل عمران : 41 ] وخصّ هذان الوقتان بالذكر لأنهما طرفا النهار ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديراً بأن يراقبه تعالى ولا ينساه فيما بينهما وأهم الذكر فيهما صلاتا الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدان عند الله تعالى بما وجدا عليه العبد كما ورد في الصحيح . { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ } عن ذكره تعالى في سائر الأوقات وإنّما يتسامح بقلّة الذكر فيما بين البكرة والأصيل لأنّه وقت العمل للمعاش فمن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه ، وضعف إيمانه ، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه نفسه ، ولله در القائل : @ إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس @@ ثمّ عزّز عزَّ وجلّ هذا الأمر وهذا النهي بما يعد خير أسوة للإنسان ، وهو التشبه والمشاركة للملائكة الرحمن ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي أن ملائكة الله المقرّبين الذين هم عنده كحملة عرشه والحافين به ومن شاء تقدّس وتعالى بهذه العندية الشريفة التي لا يعلمها سواه وهم أعلى مقاماً من الموكّلين بالمخلوقات وتدبير نظامها كالسحاب والمطر والريح والجنّة والنار أن هؤلاء المقرّبين العالين عنده لا يستكبرون عن عبادته كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون الذين عدّ بعضهم السجود لله تعالى حطّة وضعة لا تحتمل { وَيُسَبِّحُونَهُ } أي ينزهونه عن كلّ ما لا يليق بعظمته وكبريائه وجلاله وجماله من اتخاذ الند والشريك والظهير والمساعد على الخلق والتدبير ، كما يفعل الذين اتخذوا من دونه شفعاء إنداد الله يحبونهم كحبّ الله ويعبدونهم مع الله { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } أي وله وحده يصلّون ويسجدون فلا يشركون معه أحداً ، فيجب أن يكون لكل مؤمن أسوة حسنة بخواص ملائكته وأقرب المقربين عنده ، تبارك اسمه تعالى جده . وقد شرع الله تعالى لنا السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها إرغاماً للمشركين ، واقتداء بالملائكة العالين ، ومثلها آيات أخرى بمعناها في الجملة ، وهذه هي الأولى في ترتيب المصحف . ونسأله تعالى أن يجعلنا من خير الذاكرين له ، الشاكرين لنعمه ، المسبحين بحمده ، الساجدين له دون سائر خلقه . خلاصة سورة الأعراف وهي تدخل في ستة أبواب : أوّلها : توحيد الله تعالى إيماناً وعبادة وتشريعاً ، وصفاته وشؤون ربوبيته . ثانيها : الوحي والكتب والرسالة والرسل . ثالثها : الآخرة والبعث والجزاء . رابعها : أصول التشريع وبعض قواعد الشرع العامّة . خامسها : آيات الله وسنته في الخلق والتكوين . سادسها : سنن الله تعالى في الإجتماع والعمران البشري وشؤون الأمم المعبر عنه في عرف عصرنا بعلم الإجتماع . الباب الأوّل توحيد الله تعالى إيماناً وعبادة وتشريعاً وصفاته وشؤون ربوبيّة وفيه 12 أصلا 1 - دعاء الله وحده وإخلاص الدين له وتخصيصه بالعبادة وكون الإخلال بذلك شركاً وكفراً بالله تعالى . قال تعالى في الآية 29 : { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ الأعراف : 29 ] أي بأن لا تشوبه أدنى شائبة من التوجّه إلى غيره في الدعاء ولا في غيره من دينكم كالتوجّه إلى الأنبياء والصالحين أو ما يذكّر بهم كقبورهم فذلك شرك ينافي خلوصه له ، قل أو كثر ، سمي شركاً أو سمي توسلاً وتبركاً : ( راجع ج 8 تفسير ) وقال تعالى في بيان حال المشركين عند موتهم من الآية 37 : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوۤاْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ الأعراف : 37 ] راجع منه ، وأمرنا تعالى في الآية 55 بأن ندعوه تضرّعاً وخفية - ونهانا عن الإعتداء في الدعاء ، وفي آية 56 بأن ندعوه خوفاً وطمعاً ، وفي الأوّل صفة دعاء الإخلاص اللّسانية ، وفي الثاني صفته القلبية : ( راجع منه ) . ومن الأمر بعبادة الله وحده وترك عبادة غيره ما حكاه عن تبليغ الرسل لأقوامهم ، فدلّ على أنّه أصل دينه على ألسنة جميع رسله قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 ] ومثله عن رسوله هود عليه السلام في الآية 65 مع حكاية قول قومه له : { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } [ الأعراف : 70 ] ومثله ما حكاه عن رسوله صالح عليه السلام في الآية 73 وما حكاه عن رسول شعيب عليه السلام في الآية 85 . ومن بيان بطلان عبادة غير الله تعالى ونزغات الوثنية في إتخاذ الآلهة إتخاذاً ما ورد في الآيات 138 - 140 من طلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً كالقوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم ورد موسى ( عليه الصلاة والسلام ) عليهم فيراجع تفسيرها ( في ج 9 تفسير ) وفيه بيان خطأ الرازي في فهم معنى الإله لجريه على إصطلاح المتكلّمين . 2 - إنكار الشرك وإقامة الحجّة على أهله وإثبات التوحيد وكونه مقتضى الفطرة في الآيات 172 و 173 في أخذ الرّب الميثاق من ذرية بني آدم وإشهادهم على أنفسهم أنّه ربّهم ، ويراجع تفسيرهما ( من ج 9 ) . 3 - بيان أن شارع الدين هو الله رب العالمين فيجب إتباع ما أنزله ولا يجوز إتباع أولياء من دونه في العقائد ولا العبادات ، ولا التحليل والتحريم الديني ، وهو نصّ قوله تعالى في الآية الثالثة : { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } لا أولياء يتولون التشريع لكم بما ذكر كالذين { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم كما فسره الحديث المرفوع ولا أولياء يتولون أموركم فيما عدا ما سخره الله لكم من الأسباب وهذا عين توحيد الربوبية . واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل في عموم النهي هنا فإنّه تعالى أمر باتباعه في الآية 158 من هذه السورة وفي غيرها وجعل طاعته فيما أرسله به وحياً وبياناً للوحي عين طاعته كما في سورة النساء فلا يكون ولياً من دونه بل من عنده كما بيناه في تفسير الآية ( يراجع ج 8 تفسير ) . 4 - حظر القول على الله بغير علم بتشريع أو غيره . وذلك قوله تعالى في الرد على المشركين من الآية 28 { أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقوله تعالى في آخر أصول المحرمات في الآية 33 : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقد بينا في تفسيرها مفاسد هذه الجريمة الشركية : ومنه يعلم خطأ الذين أنكروا الحسن والقبح في الأشياء مطلقاً والذين حكموا العقل في التشريع الديني . 5 - كون جميع ما يشرعه الله تعالى حسناً في نفسه وتنزيهه عن الأمر بالقبيح وهو نصّ قوله تعالى في الآية 28 : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } وقوله في الآية 33 : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } إلخ فإن الفواحش ما ظهر قبحه وعظم ، والإثمّ ما يضر ، والبغي تجاوز حدود الحقّ والعدل ، والشرك بالله بغير سلطان أي برهان جهل ، والقول على الله بغير علم جهل وتعد على حقوق الرّب تعالى . وكلّ ذلك قبيح في نظر العقل وبعضه قبيح في الحس أيضاً . فكل ما أمر الله تعالى به فهو حسن في نفسه وإن خفي حُسن بعضه على بعض ضعفاء الناظرين ، وكلّ ما نهى عنه فهو قبيح في نفسه وإن جهل قبحه بعض الغاوين ، ولكن العقل على إدراكه لذلك لا يستقل بمعرفة كلّ حسن وكلّ قبيح بالإحاطة والتحديد ، بل تصدّه عن كثير من المحاسن والقبائح والتقاليد والعادات وضعف النظر والبحث . 6 - استواء الرّب على عرشه وعلوه على خلقه ، وهو في الآية 54 وفي تفسيرها تحقيق الحقّ في مذهب السلف ( وهو في ج 8 تفسير ) . 7 و 8 - تكليم الرّب لموسى عليه السلام ومسألة رؤيته سبحانه وتعالى وبيان ذلك في تفسير قوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] إلخ وتفسيرها ( في ج 9 تفسير ) . وفيه من التحقيق والحكم في مسائل الخلاف ما لا تجد له نظيراً في كتاب لا في أصل المسألتين ولا في متعلقاتهما كتجلي الرّب سبحانه والحجب بينه وبين خلقه وتجليه في الصور المختلفة ، ومسائل الأرواح والكشف والرؤيا والعمل النومي والتنويم المغناطيسي وأنواع مدركات النفس ومادة الكون الأولى والنور والكهرباء وما يقال من أنّها أصل هذه الكائنات ، والخلاف في إمكان معرفة كنه الخالق وأوّل المخلوقات ، ومنها مسائل الكلام ومراتبه ومن ذكر الحرف والصوت في كلامه تعالى . وتحقيق رجمونحان مذهب السلف على جميع مذاهب المتكلمين وفلسفتهم في الكلام والرؤية وسائر صفات الرّب سبحانه وتعالى وشؤونه . 9 - هداية الله وإضلاله في آية 178 { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي } إلخ ، وآية 186 { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } إلخ ، وفي تفسيرها تحقيق أن هذا الإضلال لا يقتضي الإجبار وإنّما هو مقتضى سنة الله تعالى في خلق الإنسان ، وارتباط المسببات من أعماله بالأسباب ، فليس حجّة للمعتزلة ومن شايعهم ولا للأشعرية والجبريّة ، ( راجع ج 9 ) ومثله قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [ 146 ] وكذلك الطبع على القلوب في آيتي 100 و101 كل ذلك بيان لسنن الله تعالى في طباع البشر وأعمالهم . 10 - الكلام في رحمة الله تعالى ومغفرته ، ومنه قرب رحمته من المحسنين في آية 56 وكونه أرحم الراحمين في الآية 151 ورحمته ومغفرته للتائبين في الآية 153 وكونه خير الغافرين 155 وسعة رحمته كلّ شيء ومن يكتبها أي يوجبها لهم 156 . 11 - أسماء الله الحسنى ودعاؤه بها والإلحاد فيها وهو نص الآية 180 وفي تفسيرها تحقيق ما ورد من هذه الأسماء في القرآن وحديث " إن لله تسعة وتسعين اسماً " إلخ ( ج 9 ) . 12 - الأمر بذكر الله تضرعاً وخيفة سراً وجهراً وكونه غذاء الإيمان ، وبعبادته وتسبيحه والسجود له وحده وهو في الآيتين اللتين ختم الله بها السورة 205 و 206 . الباب الثاني الوحي والكتب والرسالة والرسل وفيه 3 فصول فيها 24 أصلاً أو مسألة ما جاء فيها بشأن القرآن 1 - إنزال القرآن على خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم للإنذار به وذكرى للمؤمنين وهو في الآية الأولى من السورة ، وفيها نهي الرسول أن يكون في صدره حرج منه . 2 - أمر المؤمنين باتباع المنزل إليهم من ربّهم وهو القرآن وأن لا يتبعوا من دونه أولياء وهو الآية الثانية وبيان أنهم إذا لم يؤمنوا به فلا يرجى أن يؤمنوا بكتاب غيره كما قال في آخر الآية 185 { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } . 3 - وصفه تعالى للقرآن بأنه فصله على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، وهو نصّ الآية 52 . 4 - بيانه تعالى لما سيكون عند إتيان تأويل القرآن أي ظهور صدقه بوقوع ما أخبر بوقوعه من أمر الغيب وهو أن الذين نسوه فلم يؤمنوا به في الدنيا يؤمنون يومئذ ويشهدون لجميع الرسل بأنهم جاؤوا بالحق ويتمنون الشفعاء أو الرد إلى الدنيا ليعملوا غير ما كانوا يعملون ، وهو في الآية 53 . 5 - ولاية الله لرسوله بإنزاله الكتاب عليه في الآية 196 . 6 - الأمر بالإستماع لقراءة القرآن والإنصات له رجاء الرحمة بسماعه والإهتداء به . ما جاء فيها خاصاً بنبيّنا صلى الله عليه وسلم 7 - قوله تعالى في الآية الثانية : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أي الكتاب هو نهي عن ضيق الصدر بعظمة القرآن وجلال الأمر الذي أنزل لأجله وشدّة وقع سلطانه في القلب ، أو عن ضيقه بمشقّة الإنذار به والتصدي لهداية جميع البشر وقد غلب عليهم الشرك والضلال ، أو بما يتوقع من شدّة معارضة الكفّار وعدوانهم - وقيل هو دعاء ، وقيل هو حكم منه تعالى بمضمونه ( راجع ج 8 ) . 8 - أمره تعالى له بأن يعتز بأنّه هو وليه وناصره وبأنّه تعالى يتولى الصالحين فلا خوف على أتباعه من اضطهاد الكفّار لهم ، وهو في الآية 196 وقد ذكرت في مسألة أخرى . 9 - قوله تعالى في الآية 184 : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } الآية وهي تفنيد لرمي بعض مشركي مكّة إياه صلى الله عليه وسلم بالجنون يعني أن التفكر الصحيح في حالة صلى الله عليه وسلم من أخلاقه وهديه وسيرته وفيما جاء به العلم والهدى ينفي أن يكون به صلى الله عليه وسلم أدنى مسّ من الجنون كما زعموا ، فما عليهم إلاّ أن يتفكروا ( راجع تفسير ج 9 ) . 10 - بيان أنّه صلى الله عليه وسلم لم يعط علم الساعة أيان مرساها ومتى تقوم : بل هو من علم الغيب الخاص بالله تعالى وذلك نص الآية 187 . 11 - بيان أنّه صلوات الله وسلامه عليه لا يملك لنفسه - أي ولا لغيره بالأولى - نفعاً ولا ضراً - إلاّ ما مكنه الله منه بتسخير الأسباب من الأعمال الإختياريّة - وبيان أنّه لا يعلم الغيب مؤيّدا بالدليل الحسّي والعقلي وذلك قوله تعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 188 ] راجع تفسيرها في ج 9 . 12 - بيان عموم بعثته وشمول رسالته لجميع الأمم والشعوب ومنهم أهل الكتاب والشهادة له في كتبهم ، يدلّ عليه في الآية الثانية حذف مفعول ( لتُنذر به ) فهو يدلّ على العموم وكذلك الخطاب العام بعده في الأمر باتباع الناس ما أنزل إليهم من ربّهم وهو القرآن المذكور في الآية الثانية . والنصّ في إرساله إلى أهل الكتاب قوله تعالى فيمن يكتب لهم رحمته { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] إلخ وقد بيّنا في تفسيرها نصوص التوراة والإنجيل المشار إليها فيها . وأمّا النصّ الصريح في عموم الرسالة فهو قوله تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] الآية ، وكذا كلّ خطاب خوطب به بنو آدم في الآيات 26 و 27 و 31 وما بعدها من آيات التشريع العام ولكن هذا كلّه مشترك بين أمّة خاتم النبيين وأمم الأنبياء قبله ، وأصرح منه في الإشتراك العام ما ترى في أوّل الكلام في الرسالة العامّة . ما ورد في الرسالة العامّة والرسل 13 - بعثة الرسل إلى جميع بني آدم في قوله تعالى : { يَابَنِيۤ ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } [ الأعراف : 35 ] إلخ ويدل على إرسالهم إلى الأمم المختلفة قوله تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] إلى آخر الآية الخامسة . فالمراد بالقرى الكثيرة أمم الرسل بدليل ما بعده . 14 - سؤال الرسل يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة وهو نص الآية السادسة . 15 - جزاء بني آدم على اتباع الرسل وطاعتهم وعلى تكذيبهم إياهم واستكبارهم عن اتباعهم وهو في الآيتين 35 و 36 . 16 - وظيفة الرسل تبليغ رسالات ربّهم بشارة وإنذاراً قولاً وعملاً وهو صريح في الآيات : 2 و 62 و 93 و 188 . 17 - أوّل ما دعا إليه الرسل توحيد الألوهية بالأمر بعبادة الله وحده ونفي عبادة إله غيره كما هو صريح في الآيات 59 و 65 و 70 و 73 و 85 . 18 - مجيء الرسل بالبينات من الله تعالى وهي تشمل الآيات الكونية والحجج العقلية كما ترى في الآيات 13 و 85 و 103 و 105 و 107 و 108 . 19 - الآيات الكونية التي أيد الله تعالى بها رسله هي حجّة له على الأمم وهي غير مقتضية للإيمان اقتضاء عقلياً ولا ملجئة إليه طبعاً ولو كانت مقتضية له قطعاً أو ملجئة إليه طبعاً لما تخلف عنها ، ولكان خلاف مقتضى التكليف المبنيّ على الإختيار ، والملجأ لا يستحق جزاءاً . ونحن نرى في قصّة موسى مع فرعون وقومه من هذه السورة وغيرها أن السحرة قد آمنوا إيماناً يقينياً على علم ، وأن الجماهير من قومه ظلوا على كفرهم ، ولكن الله تعالى أخبرنا في سورة النمل أنّه لما جاءتهم الآية الكبرى قالوا أنّها لسحر مبين { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] أي عاندوا موسى عليه السلام عناداً بإظهار الكفر بها في الظاهر مع استيقانها في الباطن ، وأن سبب هذا الجحود هو الظلم والعلو والكبرياء في الأرض وهذا وصف فرعون وملائه أي كبار رجال دولته إذ من المعلوم أن سائر الشعب كان مستذلاً ، وهو مقلّد للرؤساء لجهله وقد صدقهم في قولهم إن موسى ساحر وإن السحرة كانوا متواطئين معه ولذلك أظهروا الإيمان به لأجل إخراج فرعون ورجال دولته من مصر والتمتع بكبرياء الملك بدلاً منهم . كما تدل عليه آيات أخرى ولو فهم جمهور الشعب من الآيات ما فهموا لآمن كما آمنوا ، لأنه لم يكن لديه من عتوّ العلو والكبرياء ما يصرّفه عن الإيمان ، ولا شك أن السحرة كانوا أكرم منزلة في الدولة من سائر الشعب ولكن كرامتهم لم تكن بالغة درجة العظمة والعلو المانعة لصاحبها من تركها لأجل الحقّ . وقد امتاز خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بأن جعل الله آية نبوته الكبرى علمية لا صعوبة في فهم دلالتها على عامي ولا خاصي على أنه أيّده في زمنه بعدة آيات كونية . 20 - نصيحة الرسل للأمم وأمرهم بالحق والفضيلة ونهيهم عن ضدهما كما في الآيات 62 و 63 و 68 و 74 و 79 و 82 و 85 و 86 و 93 . 21 - شبهة الأمم على الرسل التي أثارت تعجبهم واستنكارهم هو كون مدعي الرسالة رجلاً مثلهم كما في الآية 63 و 69 . 22 - إتهام الكفّار رسل الله بالسحر كما فعل فرعون والملأ من قومه بإتهام موسى في الآية 109 وما يليها من الآيات في قصّة سحرة المصريين مع موسى وهي شبهة جميع أقوام الرسل على آياتهم من حيث أن كلا منها أمر غريب لا يعرفون سببه ، ومن خطأ المتكلّمين التفرقة بين المعجزة والسحر باختلاف حال الأشخاص ، وقد عقدنا في تفسير الآيات فصلاً في حقيقة السحر وأنواعه لا يجد القارئ مثله في شيء من تفاسيرنا وكتبنا الكلامية " وهو في ج 9 " . 23 - عقاب الأمم على تكذيب الرسل وهو في الآيات 64 و 73 و 78 و 84 و 91 و 92 و 133 و 136 و 137 . 24 - قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . وهي من آية 59 إلى 93 قصة موسى مع فرعون وقومه وسحرته من آية 103 إلى 137 وقصته مع قومه وحدهم من 138 - 171 وفيها من العبر والفوائد ما ذكر بعضه في أبواب من هذه الخلاصة وبقي ما سبب إنزالها وإنزال غيرها من المقاصد المصرح بها في غير هذه السورة ككونها من أخبار الغيب الماضية الدالة على كون القرآن وحياً من الله تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } [ هود : 49 ] وكونها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عمّا يلاقي من أعراض المشركين وأذاهم وتثبيتاً لقلبه في النهوض بأعباء الرسالة كما قال تعالى : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] - وكونها موعظة وذكرى للمؤمنين كما قال تعالى في تتمة هذه الآية : { وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ هود : 120 ] وكونها عبرة عامة للعقلاء من المؤمنين والكافرين المستعدين للإعتبار كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] وغير ذلك مما سنفصله إن شاء الله تعالى في تفسير سورة هود . فقد طال تفسير هذه السورة جداً . الباب الثالث عالم الآخرة والبعث والجزاء وفيه 12 أصلاً . الأصل الأوّل : البعث والإعادة في الآخرة وهو قوله تعالى في الآية 25 { وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } وفي 29 { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } وفيه دليل على إمكان البعث لأنّه كالبدء أو أهون على المبديء بداهة فكيف وهو القادر على كلّ شيء بدءاً وإعادة على سواء - وفي الآية 57 تشبيه إخراج الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة بعد إنزال المطر عليها وهذا التشبيه يتضمن البرهان الواضح على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى بعد فناء أجسادهم ، وقد أطلنا في تفسيرها الكلام في المسألة من الجهة العلمية المتعلقة بالعلوم العقلية والكونية ( فتراجع في ج 8 ) . الأصل الثاني : وزن الأعمال يوم القيامة وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها وهو في الآيتين الثامنة والتاسعة . الأصل الثالث : سؤال الرسل في الآخرة عن التبليغ وأثره وسؤال الأمم عن إجابة الرسل وهو في الآية السادسة . الأصل الرابع : كون الجزاء بالعمل وجزاء المكذبين المستكبرين والمجرمين والظالمين ودخول الأمم من الإنس والجن في النار ولعن بعضهم بعضاً ، وشكوى بعضهم من إضلال بعض والدعاء عليهم بمضاعفة العذاب وتحاورهم في ذلك . راجع الآيات 36 - 41 و 147 و 179 . الأصل الخامس : جزاء المتقين المصلحين في الآية 35 وجزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإيزائهم الجنّة وحالهم ومقالهم فيها وذلك في الآيتين 42 و 43 - ومن ذلك قوله تعالى في الزينة والطيبات من الرزق من الآية 32 { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } . الأصل السادس : إقامة أهل الجنّة الحجّة على أهل النار في قوله تعالى : { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ } [ الأعراف : 44 ] إلخ وفي تفسيرها بيان لما في صناعات هذا العصر من إزالة الإستبعاد والإستغراب من تحاور الناس مع بعد المسافات بينهم ( راجع ج 8 تفسير ) . الأصل السابع : الحجاب بين أهل الجنّة وأهل النار وهو الأعراف وأهله وتسليمهم على أهل الجنّة وخطابهم لأناس يعرفونهم بسيماهم في النار بما يذكرهم بضلالهم في الدنيا وغرورهم بأموالهم إلخ وهو في الآيات 46 - 49 . الأصل الثامن : نداء أصحاب النار أصحاب الجنّة { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } وجواب أهل الجنّة لهم في الآية 48 . الأصل التاسع : إعتراف أهل النار في الآخرة بصدق الرسل وتمنيهم الشفعاء ليشفعوا لهم ، أو الرّد إلى الدنيا ليعملوا غير الذي كانوا يعملون . وحكم الله تعالى عليهم بأنّهم خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون من القول بأن من كانوا يدعونهم في الدنيا سيشفعون لهم عند الله . وهو في الآية ( 53 ) . الأصل العاشر : الدعاء بخير الآخرة مع الدنيا وهو ما ورد في دعاء موسى عليه السلام من قول الله تعالى حكاية عنه 156 { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ } [ الأعراف : 156 ] فهو موافق لما ورد في القرآن تشريعاً لهذه الأمّة . فغاية دين الله على ألسنة جميع رسله سعادة الدارين كما ترى بيانه في السنّة 4 من الباب السادس . الأصل الحادي عشر : صفة أهل جهنم 179 { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [ الأعراف : 179 ] إلخ ، وفي تفسيرنا لها من العلم والحكمة ما لا تجد مثله في تفسير ولا في كتاب آخر - فراجعه ( ج 9 ) . الأصل الثاني عشر : مسألة قيام الساعة وكونها تأتي بغتة وهي في الآية 187 وفي تفسيرها مباحث مسائل مبتكرة في أشراطها ( راجع ج 9 ) . الباب الرابع أصول التشريع وفيه 9 أصول الأصل الأوّل : بيان أن شارع الدين هو الله تعالى كما في الآية الثانية من السورة ، وتقدم في الباب الأوّل من هذه الخلاصة ، وهناك قد ذكر من حيث أنّه حقّ الرّب سبحانه وتعالى ، ويذكر هنا من حيث أنّه الأصل الأوّل من أصول الأحكام التشريعية . والمراد بشرع الدين والتشريع الديني ما يجب اتباعه وجوباً دينياً على أنّه قربة يثاب فاعله ويعاقب تاركه في الآخرة . وأما التشريع الدنيوي الذي يحتاج إليه الناس في مصالحهم الدنيوية فقد أذن الله تعالى به في الإسلام للرسول ولأولي الأمر من المسلمين كما بيناه بالتفصيل الواسع في تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] واشترط في هذا الإذن أن يردوا ما تنازعوا فيه من شيء إلى الله ورسوله بالرجوع إلى الكتاب وإلى الرسول في عهده ، وإلى سنته من بعده ، كما هو صريح بقية الآية مع بيان علته : ( راجع تفسيرها في ج 5 تفسير ) . الأصل الثاني : تحريم التقليد في الدين والأخذ فيه بآراء البشر ، وهو نصّ النهي في الآية الثالثة معطوفاً على الأمر باتباع ما أنزل إلى الناس من ربّهم وهو { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } وقد صرّح بذلك المفسرون . ومن النصوص في بطلانه الإنكار على احتجاج المشركين به في الآية 28 { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } الآية ( راجع تفسيرها في ج 8 ) وفي الآية 173 . الأصل الثالث : تعظيم شأن النظر العقلي والتفكر لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ومعرفة آيات الله وسننه في خلقه وفضله على عباده فمن ذلك قوله تعالى في آية 33 { وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } السلطان البرهان ، فتقيد تحريم الشرك بانتفائه تعظيم لشأنه . ومنه قوله في آخر الآية 169 { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ وسيذكر في الأصل الرابع . ومنه قوله تعالى بعد ضرب المثل للمكذبين بآياته من آية 176 { فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ومنه قوله في الآية 184 { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } وفي الآية 185 { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } إلخ - والآية الجامعة في هذا المعنى قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] وهي شاملة للنظر العقلي المحض ولكل ما كان مصدره الرؤية والسماع وهما أعم وأكثر مصادر العلم . الأصل الرابع : تعظيم شأن العلم الشامل للعلم النقلي وهو ما أنزل الله من الكتاب والحكمة ، وما بينه به رسوله صلى الله عليه وسلم من سنة ، والعلم المستفاد من الحسّ والعقل ، والمراد من العلم هنا متعلّق المصدر وهو المعلومات ، ففارق ما قبله . ومن الآيات في ذلك قوله في آخر الآية 28 : { أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقوله في آخر الآية 32 : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وهي من النوع الثاني لأن موضوع الآية مسألة الأمر بالأكل من الطيبات وبالزينة والإنكار على من حرّمهما وهي من مسائل علم الإجتماع والمصالح البشرية كما فصّلناه في تفسيرها ( ج 8 ) قوله تعالى في آخر آية 33 التي بين فيها أنواع المحرمات العامة { وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } السلطان البرهان - وقوله تعالى في آخر آية 131 : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } وهو في زعم آل فرعون وخرافاتهم أن ما ينالهم من الحسنات والخيرات فهو حقّ لهم وأن ما ينالهم من السيئات فهو بشؤم موسى وقومه وتطيرهم بهم . والعلم المنفي عنهم هنا هو العلم بسنن الله في طباع البشر والأسباب والمسببات في العالم - وقوله تعالى في حكاية توبيخ موسى عليه الصلاة والسلام لقومه على مطالبتهم إياه بأن يجعل لهم إلهاً كآلهة الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم من آخر الآية 138 { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } وما علل به الحكم بجهلهم في الآيتين بعدها فهذه جامعة لبيان فضل العلم النقلي والعلم العقلي وذم الجهل بهما معاً فإن موسى عليه السلام علل تجهيلهم أولا بعلة عقلية وثانياً بعلة دينية عقلية ( فراجع تفسيرهن في ج 9 ) - وقوله تعالى في الآية 169 { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } وهو من العلم النقلي ولكنّه أيد بالعقلي في ختم الآية بقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } . فهذه الشواهد على هذا الأصل وما قبله المؤيدة بأضعافها في السور الأخرى تثبت تعظيم القرآن لشأن التفكر والنظر والإستدلال لتحصيل العلم بالله وشرائعه المنزلة وبسننه وآياته في خلقه ونعمه على عباده - وتعظيم شأن جميع العلوم النافعة من نقلية وعقلية وهي حجّة على نقص أهل الجهل بها . الأصلان الخامس والسادس : أمر الناس بأخذ زينتهم عند كلّ مسجد وبالأكل والشرب من الطيبات المستلذات ، والإنكار على من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، وبيان أنّها حق للذين آمنوا في الحياة الدنيا أوّلاً وبالذات بقيد عدم الإعتداء والإسراف فيها ، وإن شاركهم غيرهم فيها بعموم فضل الله لا بإستحقاقهم ، وإنّها تكون خالصة لهم في الآخرة ، وذلك نصّ الآيتين 31 و 32 وهذان الأصلان هما الركنان اللذان يقوم عليها بناء الحضارة بعلومها وفنونها وصناعاتها وإظهارها لما في هذا الكون من سنن الله تعالى وآياته وأسرار صنعه الدالة على توحيده وقدرته وحكمته وإحسانه على عباده - وهما المبطلان لأساس الديانة البرهمية من جعل مقصد الدين تعذيب النفس وحرمانها من الزينة واللذة ، وقلدهم في ذلك النصارى وابتدعوا الرهبانية لأجله ولم يقفوا عند حدّ تقليدهم في الدنيا حتى زعموا أن دار النعيم في الآخرة خالية من اللذات الجسدية وليس فيها إلاّ النعيم الروحاني خلافاً لبعض تصريحات الإنجيل من شرب الخمر في الملكوت وكون الصائمين والجياع والعطاش من أجل البر يشبعون هنالك . ولما كان الغلو في الدين كغيره من أمور البشر يقوى الإستعداد له في بعض الناس من كلّ أمّة بدأ بعض الصحابة المبالغين في العبادة بترك أكل اللحم وهمَّ بعضهم بالإختصاء فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك وعن المبالغة في العبادة ونزل في شأنهم { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } [ المائدة : 87 ] الآيات من سورة المائدة وهي بمعنى ما هنا . ولم يمنع ذلك كلّه بعض مسلمي المتصوفة من الغلو في ترك الزينة والطيبات وصار الجاهلون بكنه الإسلام يعدون الغلو في ذلك هو الكمال في الدين ، وأهله من أولياء الله المقربين ، وإن كانوا جاهلين خرافيين . ويراجع ما في تفسيرنا للآيتين من الأحكام والحكم والفوائد ومنها ما لم يكن يخطر في بال أحد من مفسرينا المتقدمين رحمهم الله تعالى ( ج 8 ) . الأصل السابع : هداية الناس بالحق والعدل به وقد وصف الله تعالى بذلك ، خيار قوم موسى عليه السلام في الآية 159 وخيار أمّة محمد صلى الله عليه وسلم في الآية 181 فهذا من أصول دين الله العامة في جميع شرائعه . والحق هو الأمر الثابت المتحقق في الشرع إن كان شرعياً وفي الواقع ونفس الأمر إن كان أمراً وجودياً ، والعدل ما تحري به الحق من غير ميل إلى طرف من الطرفين أو الأطراف المتنازعة فيه أو المتعلقة به ويدخل في هذا الأصل الدعوة إلى الحق والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة العامة والخاصة والإصلاح بين الناس . ومنه الأمر بالعدل المطلق في الأحكام والأعمال بقوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ } [ 29 ] وهذا هو الأصل العام لجميع الأحكام بين الناس كما قال تعالى في سورة النساء المدنيّة إذ صار للأمّة حكم ودولة : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } [ النساء : 58 ] وفي سورة النساء والمائدة آيات أخرى في وجوب عموم العدل والمساواة فيه بين المؤمن والكافر والبرّ والفاجر والغني والفقير والقريب والبعيد ، وقد تقدّمت مع تفسيرها . فمن تحرى العدل بغير محاباة وعرف مكانه فحكم به كان حاكماً بحكم الله تعالى من غير حاجة إلى نص خاص في الشريعة به فإن وجد النص كانت الثقة بالعدل أتم بل لا حاجة مع النص إلى الإجتهاد كما أن الإجتهاد المخالف للنص الخاص أو للعدل العام باطل . الأصل الثامن : حصر أنواع المحرمات الدينيّة العامة في قوله تعالى 33 { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 33 ] يراجع بيان وجه الحصر في تفسيرها ( ج 8 ) . الأصل التاسع : بيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية الجامعة بأوجز عبارة معجزة في قوله تعالى : { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [ 199 ] يراجع تفسيرها من ج 9 . الباب الخامس في آيات الله وسنته في الخلق والتكوين وفيه 14 أصلاً 1 - خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام واستواؤه على عرشه ونظام الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره ، وكون الخلق والأمر له وحده ، وذلك في الآية 54 وهي تتضمن الترغيب في علمي الفلك والجغرافية الطبيعية دون علم التنجيم الخرافي ، وقد بلغ أهل الغرب من العلم بذلك ما لو ذكر أبسطه وأبعده عن الغرابة في غير هذا العصر لقال فيه أذكى العقلاء إنّه من هذيان المجانين ، أو تخيّل الحشاشين ، ولا يوجد علم أدلّ على عظمة الخالق وقدرته وسعة علمه ودقّة حكمته من علم الفلك ، وقد كان قومنا العرب في عهد حضارتهم الإسلاميّة أعلم البشر به فصاروا أجهلهم به . 2 - خلق الله الرياح والمطر وإحياؤه الأرض به وإخراجه الثمرات والخصب وضدّه وذلك في الآيتين 57 و 58 وذلك يتضمن الترغيب في العلم بسنن الله تعالى في هذه المخلوقات كما قلناه فيما قبله لأن في العلم بذلك كلّه من معرفة آيات الله وكمال صفاته ما يعطي متأمله اليقين في الإيمان إذا قصده ويغدق عليه نعمه التي منَّ عليها بها ويعدّه لشكرها فتجتمع له بذلك سعادة الدارين وقد اتسعت علوم بعض البشر بذلك فاستحوذوا على أكثر خيرات الأرض في بلادهم وبلاد الجاهلين بها الذين أضاع الجهل عليهم دنياهم ودينهم بالتبع لها . 3 - خلق الله الناس من نفس واحدة وخلق زوجها منها ليسكن إليها وإعداد الزوجين الذكر والأنثى للتناسل كما في الآية 189 وفي قصّة جنة آدم ومعصيته وتوبته من الآيات 19 - 25 بعض صفات النشأة البشرية واستعدادها وحالها في سكنى الأرض . 4 - تفضيل الله تعالى للإنسان على من في الأرض جميعاً كما أفاده قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } وبيان هذه المسألة بالتفصيل في تفسير سورة البقرة لأنّها أوسع تفصيلاً لما تقتضيه قصّة آدم المطولة فيها والتصريح فيها يجعل آدم خليفة في الأرض ، وفي باب التأويل هنالك سبح طويل للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى لم يسبقه إليه أحد فيما نعلم فيراجع في الجزء الأوّل من هذا التفسير . 5 - خلق بني آدم مستعدين لمعرفة الله تعالى وإشهاد الرّب إياهم على أنفسهم أنّه ربهم ، وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم ، وما منحوه من العقل والفكرة وحجته تعالى عليهم بذلك كما في الآيتين 172 و 173 فيراجع تفسيرهما ( في ج ) وكذا خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات كما في الآية الثانية منهما والآية 190 . 6 - ضرب المثل لاختلاف إستعداد البشر لكل من الخير والشر والبر والإثمّ وعلامة كلّ منهما فيهم وكونهم يعرفون بثمارهم ، وذلك قوله تعالى : { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] ، وفيه إرشاد إلى طلب معرفة الشيء بأثره ومعرفة الأثر بمصدره ، وفيه دليل على أن في الأشياء خبيثاً وطيباً وجيداً ورديئاً . ويؤيده حديث " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " إلخ وهو في الصحاح وغيرها . 7 - الكلام في إبليس وهو الشيطان وعداوته لآدم وامتناعه من السجود له ووسوسته له ولزوجه بالإغراء بالمعصية بالأكل من الشجرة وعاقبة ذلك . وهو في الآيات 20 - 25 وكونه من المنظرين إلى يوم القيامة . 8 - عداوة إبليس والشياطين من نسله لبني آدم وتزيينهم لهم الشر والباطل وإغرائهم بالفساد والمعاصي وحكمة ذلك ، وهي في الآيات 16 و 17 و 20 - 22 و 27 وتحذيرهم منه في الآية 27 مع بيان أنّه يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم . 9 - نزغ الشيطان للإنسان ومقاومته بالإستعاذة بالله تعالى وكون المتقين إذا مسهم طائف منه تذكروا فإذا هم مبصرون لا تطول غفلتهم فيغرهم وسواسه وذلك في الآيتين 200 - 202 . 10 - بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون من بني آدم وهو في فاصلة الآية 27 وبيان أن إخوان الشياطين من بني آدم يمكنون الشياطين من أنفسهم بعدم تقواهم فهم يمدونهم في الغي ولا يقصرون فيه وذلك نصّ الآية 202 . قد سبق الكلام في تفسيرنا هذا على مباحث الشياطين والجن في عدة مواضع قد أحلنا عليها في تفسير آيات الأعراف وزدنا على ذلك عقد فصل إستطرادي في حكمة خلق الله تعالى الخلق ، واستعداد الشيطان والبشر للشر . فيراجع في . 11 - منة الله على البشر بتمكينهم في الأرض وتسهيل أسباب المعايش لهم كما في الآية 10 ومن الشكر الواجب له تعالى على ذلك طلب سعة العلم باستعمار الأرض ووسائل المعايش . 12 - منة الله على البشر باللباس والزينة كما في الآية 26 وراجع في ذلك الأصلين 5 و 6 من الباب الرابع من هذه الخلاصة . 13 - صفات شرار البشر المستحقين لجهنم وهم الذين أهملوا إستعمال عقولهم وحواسهم فيما خلقت لأجله من اقتباس العلم والحكمة - وذلك نص الآية 179 وذكرت في أصل الجزاء في الآخرة ( وهو 11 من الباب الثالث ) وفي تعظيم شأن النظر والتفكر لتحصيل العلم ( وهو الأصل 3 من الباب 4 ) . 14 - آياته تعالى ونعمه على بني إسرائيل وتراجع في قصة موسى معهم . الباب السادس في سنن الله تعالى في الإجتماع والعمران البشري وفيه 7 أصول 1 - إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها كما في الآيتين 4 و 5 ومصداقه في خلق آدم الذي هو عنوان البشرية وجعله تعالى المعصية بالأكل من الشجرة ظلماً للنفس في الآية 19 واعتراف آدم وحواء في دعاء توبتهما بذلك في قولهما { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } وبأن شأن المعصية من الأفراد أن تغفر بالتوبة فيعفى عن عقابها وهو خسران النفس كما في قولهما { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } وأما خسارة الأمم فهي إضاعة إستقلالها وسلطان أمّة أخرى عليها تستذلها . وجملة ذلك أن العقوبة أثر طبيعي لازم للعمل وأن ذنوب الأمم لا بدّ من العقاب عليها في الدنيا قبل الآخرة ، وأما ظلم الأفراد وعقابهم عليه في الآخرة فيراجع في الأصل 4 من الباب الثالث . 2 - بيان أن الأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عن أسبابها التي اقتضتها السنن الإلهية العامة ، وهو نص الآية 34 وكونها إذا كانت جاهلة بهذه السنن تؤخذ بغتة وعلى غفلة ليلاً أو نهاراً كما يؤخذ من الآيات 94 - 100 وهذه الآيات وردت في عقاب الأمم التي عاندت الرسل وكان عقابها وضعياً لا إجتماعيا - وقد سبق لنا في هذا التفسير أن العقاب الإلهي للأفراد وللأمم نوعان : أحدهما : العقاب بما توعد تعالى به على مخالفة رسله ومعاندتهم وهو من قبيل عقاب الحكام لرعاياهم على مخالفة شرائع أمتهم وقوانينها ونظمها . وثانيهما : العقاب الذي هو أثر طبيعي للجرائم ، وهو من قبيل ما يعاقب به المريض على مخالفة أمر طبيبه في معالجته له من الحمية والإقتصار على كذا من الغذاء والتزام كذا من الدواء . ( راجع ج 7 تفسير ) . 3 - إبتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة وبضدها من الرخاء والنعماء تارة أخرى ، فأما أن تعتبر بذلك فيكون تربية لها وإمّا أن تغبى وتغفل فيكون مهلكة لها كما في الآيات 94 وما بعدها مما تقدم الكلام عليه في السنة الثانية من وجه آخر . 4 - بيان أن الإيمان بما دعا الله إليه والتقوى في العمل بشرعه فعلا وتركا سبب إجتماعي طبيعي لسعة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما في قوله تعالى : 96 { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 96 ] وهو موافق لآيات أخرى في سور أخرى ( منها ) الآية 52 من سورة هود 11 والآيات 123 - 127 من سياق بيان سننه تعالى في النشأة البشرية من سورة طه ومثله في الآيات 10 - 12 من سورة نوح والآيتين 16 و 17 من سورة الجن بعدها وغيرها ، وقد بينا وجه ذلك في التفسير والمنار ومنه تحقيق معنى التقوى واختلافها باختلاف مواضعها من أمور الدين والدنيا في مقالة عنوانها ( عاقبة الحرب المدنيّة ) نشرت في ( ج 7 م 21 من المنار ) . 5 - إستدراجه تعالى للمكذبين والمجرمين وإملاؤه لهم كما في الآيتين 182 و 183 وهو في معنى ما سبقه من سنة أخذ الله للأمم بذنوبها ومن سنة إبتلائها بالحسنات والسيئات فإن من لا يعتبر بذلك ولا يتربى يصر على ذنبه ولا يرجع عنه وذنوب الأمم لا بد من العقاب عليها - راجع تفسير الآيتين في ج 9 ففيه بيان هذه السنة موضحاً . 6 - سنة الله في إرث الأرض واستخلاف الأمم فيها والإستيلاء والسيادة على الأمم والشعوب . فقد بيّن الله تعالى لنا في قصّة موسى مع قومه أن وطأة فرعون وقومه اشتدّت على بني إسرائيل وصرّح بوجوب الإستمرار على تقتيل أبناءهم واستحياء نسائهم لأجل أن تنقرض الأمّة بعد استدلال من يبقى من النساء إلى أن ينقرض الرجال وما ازدادوا إلاّ ذلا وخنوعاً - وهم مئات الألوف - كما هو شأن الشعوب الجاهلة المستضعفة ولكن الله تعالى أمر رسوله موسى أن يمتلخ ذلك اليأس من قلوبهم بقوّة الإيمان بما حكاه عنه بقوله : { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] أي بين لهم أن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم وإنّما هي لله ، وله سبحانه وتعالى سنة في سلبها من قوم وجعلها إرثاً لقوم آخرين بمحض مشيئته وسلطانه ، ومدار هذه السنّة على أن العاقبة في التنازع بين الأمم على الأرض التي تعيش فيها أو تستعمرها للمتقين ، أي الذين يتّقون أسباب الضعف والخذلان والهلاك كاليأس من روح الله والتخاذل والتنازع والفساد في الأرض والظلم والفسق ، ويتلبسون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال ، وأعلاها الإستعانة بالله الذي بيده ملكوت كلّ شيء والصبر على المكاره مهما عظمت ، وهذان الأمران هما أعظم ما تتفاضل به الأمم من القوى المعنوية باتفاق الملاحدة والمليين من علماء الإجتماع وقواد الحروب . وقد تكررت هذه القاعدة في القرآن الحكيم وفي معناها قوله تعالى من سورة الأنبياء : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } [ الأنبياء : 105 ] وإنّما الصالحون هم الذين يصلحون لإقامة الحقّ والعدل وسائر شرائع الله وسننه في العمران ، وهي بمعنى ما يسميه علماء الإجتماع " بقاء الأصلح أو الأمثل في كلّ تنازع " ويدل عليه المثل المشهور في سورة الرعد : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } [ الرعد : 17 ] إلى قوله : { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } [ الرعد : 17 ] . ومن العجيب أن ترى بعض الشعوب الإسلاميّة المستضعفة في هذا العصر بسيادة الأجانب عليها يائسة من إستقلالها وعزّتها بل من حياتها المليّة والقومية بما ترى من خفة موازينها ورجحان موازين السائدين عليها في القوى الماديّة والآلية واستذلال هؤلاء السائدين عليها لها ، جهلا منها بسنّة الله تعالى التي بينها في هذه الآية وغفلتها عن كون رجحان قوى فرعون وقومه على بني إسرائيل وقهره لهم كانا فوق رجحان قوى سائديها عليها وقهرهم إياها ، وفي هذا العصر من العبر التاريخية بسقوط بعض الدول القويّة ما لا يقل عن العبرة بأحداث التاريخ القديم . ثمّ بين لنا تعالى في الآية التالية لتلك الآية 129 أن موسى عليه السلام شكا له قومه إيذاء فرعون وقومه لهم قبل مجيئه وبعده على سواء فذكر لهم ما عنده من الرجاء بإهلاك ربهم لعدوهم واستخلافهم في الأرض الموعودين بها ليختبرهم فينظر كيف يعملون ، ويكون ثبات ملكهم وسلطانهم على حسب عملهم الذي تصلح به الأرض وأهلها أو تفسد . وهو ما فصّله تعالى لنا بعد ذلك في آيات أخرى منها في إفسادهم قوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ } [ الإسراء : 4 ] إلى تتمة الآية الثامنة . ثمّ بين لنا تعالى في الآية 137 من هذا السياق أنّه أورثهم الأرض المباركة وتمّت كلمته الحسنى عليهم { بِمَا صَبَرُواْ } أي لا بمجرد آيات الله لموسى وما أيّده به ، فعلم منه بالفعل أن الأمّة المستضعفة مهما يكن عدوها الظالم لها قويّاً فليس لها أن تيأس من الحياة . وهو تحقيق لرجاء موسى هنا ولوعد الله إياه بذلك صريحاً في قوله من سورة القصص : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [ القصص : 5 - 6 ] الآية . ترى شعوب المسلمين يجهلون هذه السنن الإلهية وما ضاع ملكهم وعزهم إلاّ بجهلها الذي كان سبباً لعدم الإهتداء بها في العمل ، وما كان سبب هذا الجهل إلاّ الإعراض عن القرآن ودعوى الإستغناء عن هدايته بما كتبه لهم المتكلّمون من كتب العقائد المبنية على القواعد الكلامية المبتدعة وما كتبه الفقهاء من أحكام العبادات والمعاملات المدنيّة والعقوبات والحرب وما يتعلّق بها ، وهذه السورة الجليلة الكبيرة القدر والفوائد ( الأعراف ) خالية من هذه الأحكام كلّها ، ومن نظريات المتكلمين في العقائد وتقريرهم لها ، وكذلك غيرها من السور المكيّة . فهل أنزل الله تعالى هذه السور كلّها للتعبد بتجويد ألفاظها بدون فهم ، أو لإتخاذها رقى وتمائم ، وكسباً لقرّاء المآتم ؟ وأعجب من هذا كلّه أن الجهل بلغ بهم بعد ذلك أن ظهر فيهم فريق خصّم لهذا الفريق المقلد المحافظ على كتب القرون الوسطى دون هدي السلف ، خصم يقول إن دين الإسلام هو السبب في جهل المسلمين وضعفهم ولا حياة لنا إلاّ باقتباس علم الإجتماع وسنن العمران من الأمم غير الإسلاميّة التي سادتنا بهذه العلوم وما يؤيدها من الفنون والصناعات ، وهؤلاء أجهل بالإسلام من أولئك ، فكتاب الإسلام هو المرشد الأوّل لسنن الإجتماع والعمران ، ولكن المسلمين قصّروا في طور حياتهم العلمية عن تفصيل ذلك بالتدوين لعدم شعورهم بالحاجة إليه ، وكان حقّهم في هذا العصر أن يكونوا أوسع الناس به علماً لأن كتاب الله مؤيد للحاجة بل الضرورة التي تدعو إليه . 7 - إن سنة الله في الأُمم التي ترث الأرض من بعد أهلها الإصلاء هي سنته تعالى في أهلها ، فإذا كان هؤلاء قد غلبوا عليها بسبب ظلمهم وفسادهم وجهلهم وعمى قلوبهم ، فكذلك يكون شأن الوارثين لها من بعدهم إذا صاروا مثلهم في ذلك ، وذلك قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ الأعراف : 100 ] وكنا نرى الذين ورثوا ممالك المسلمين متعظين بمعنى هذه الآية من بعض الوجوه : فهم على كثرة ذنوبهم بالظلم وإفساد العقائد والأخلاق وسلب الأموال يتحرون أن يكون ظلمهم دون ظلم حكام أهل البلاد الذين أضاعوها ، وعقولهم تبحث دائماً في الأسباب التي يخشى أن تكون سبباً لسلبها منهم لأجل إتقائها ، وآذانهم مرهفة مصيخة لاستماع كلّ خبر يتعلّق بأمرها وأمر أهلها وشؤون الطامعين فيها حذراً منهم أن يسلبوهم إياها . وقد قلنا في تفسير هذه الآية : قد كان ينبغي للمسلمين وهذا كتابهم من عند الله عزَّ وجلّ أن يتّقوه تعالى باتقاء كلّ ما قصّه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم ، وزال ملكهم ، ودالت بسببها الدولة لأعدائهم - إلخ ما تراه في ج 9 . هذا ما فتح الله به علينا من أصول وأمهات هداية هذه السورة الجليلة بمراجعتها المرة بعد المرّة مروراً على الآيات بالنظر ، ولو أعدنا قراءتها مع قراءة تفسيرها بالتدبر لظهر لنا أكثر من ذلك وإنّما أردنا التلخيص ، ونسأله تعالى أن يجعلها هي وسائر كتابه المجيد حجّة لنا لا علينا ويوفق أمتنا للرجوع إلى الإهتداء به بالتوبة إليه كما تاب أبوهم وأمهم عليهما السلام .